بينما أكتب هذه السطور ، وعلى مرمى أيام من حلول الذكرى الخامسة والسبعين لنكبة احتلال فلسطين ، يعيش كيان الاحتلال الإسرائيلى فى حيرة شاملة ، وأمر قادته بفتح الملاجئ وغلق الطرق الرئيسية فى مستوطنات غلاف "غزة" ، وبإجلاء آلاف "الإسرائيليين" من المدن القريبة حتى "عسقلان" ، بعد أن ارتكب جيش الاحتلال جريمة جديدة ، وعاد لسياسة اغتيالات قادة المقاومة الفلسطينية ، وكانت الضربة موجهة هذه المرة لقادة فصيل "الجهاد الإسلامى" ، وتباهى "بنيامين نتنياهو" رئيس وزراء العدو بنجاح العملية ، وبقتل ثلاثة من قادة "الجهاد" العسكريين فى منازلهم مع زوجاتهم وأطفالهم ، فيما راحت أربعون طائرة مقاتلة إسرائيلية تواصل دك شريط "غزة" ، وتقتل المزارعين والمدنيين الأبرياء ، وبعد فترة صمت مقصود ، جاوزت عشرات الساعات ، ردت فصائل المقاومة بغارات صاروخية مكثفة ، وبرشقات بالمئات ، وصل مدى بعضها إلى "تل أبيب" وقاعدة عسكرية بجوارها ، وبالقرب من مطار "بن جوريون" الذى تقلصت حركته ، ومن دون أن تعلن المقاومة أنها اكتفت ، بل احتفظت بحق المزيد من الرد فى المكان والزمان المناسبين ، وهو ما زاد من قلق العدو ، وأطفأ فرحته المفتعلة ، وتوهمه أنه استطاع استعادة قوة الردع وزمام المبادرة .
وكما تقف قوات الاحتلال على أصابعها متأهبة ،
وتنرقب المزيد من الرد الفلسطينى ، فنحن أيضا ننتظر ، ونثق أن المقاومة الجسورة ،
لن تخذل أهلها ، وستخيب ظن العدو فى المكان والزمان الذى تختاره ، وعلى جبهات
تتعدد ، فى شمال فلسطين المحتلة ، أو فى القدس والضفة الغربية ، أو فى قلب الداخل
الفلسطينى المحتل منذ نكبة 1948 ، فلم تعد جبهات المقاومة النشطة مقصورة على "غزة"
البطلة وحدها ، وقد خاض العدو ضدها حروبا خمسة مطولة فاشلة ، بل انتقلت عدوى
مقاومة "غزة" إلى كل جهات فلسطين ، وصارت "وحدة الساحات" أمرا
واقعا مرئيا ، وهذا هو التحول النوعى الأبرز فى تاريخ الكفاح الفلسطينى ، الذى
تعمد ببركة صمود القدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة ، ودشنته بسالة وفدائية
أجيال الفلسطينيين الجديدة ، وشقت مجراه معركة "سيف القدس" فى مايو 2021
، وواصل تطوره إلى ما جرى فى "رمضان" العام الجارى ، حين وجد كيان
الاحتلال النيران والصواريخ تحاصره من الشمال والجنوب ، وعجز عن رد رادع ، لم
يتجاوز وقتها شن ضربات وغارات فى مناطق خالية بالجنوب اللبنانى وقطاع "غزة"
، لم تقتل فيها نملة ، وقلنا وقتها أن ما
أبداه العدو من عجز ووهن ، خشية تطور الحوادث إلى حرب شاملة ، تأتيه من الشمال
والجنوب ، وأنه ربما يحاول فى "إشعار آخر" ، جاء هذه المرة باتجاه "غزة"
، وبمحاولة فصم عرى كل توحد فلسطينى ، بتحييد حركة "حماس" ، ووضعها تحت
تهديد ضاغط باغتيال قادتها الميدانيين ، وبدعوى التركيز على مطاردة حركة "الجهاد"
وحدها ، عبر سلسلة متصلة من الاغتيالات لقادتها ، كانت حلقتها قبل الأخيرة قبل
شهور ، وتحديدا فى أغسطس 2022 ، حين جرى اغتيال "تيسير الجعبرى" القائد
العسكرى لحركة "الجهاد" ، برشقات الصواريخ قصيرة المدى ، وامتد الصدام
لثلاثة أيام ، لم تشارك فيه وقتها حركة "حماس" ، ولا جناحها العسكرى "كتائب
عز الدين القسام" ، وبدا ذلك مغريا بتكرار لعبة التقسيم والاستفراد
الإسرائيلية ، وما من رد ملائم عليها ، إلا بتأكيد وحدة الساحات ووحدة الفصائل
المقاومة ، وإعادة تصدير الفشل لكيان الاحتلال ، وبإحباط خطة "فرق تسد" ،
وربما يكون الرد أكثر تأثيرا ، إن امتد لخارج نطاق "غزة" ، وفى ساحات
متعددة بذات الوقت ، فقد تكون حركة "الجهاد" أصغر حجما وأقل تسليحا
بمراحل من حركة "حماس" ، لكنها تمتاز بجرأة عملياتها ، وربما باستقامتها
الظاهرة ، فقد رفضت على الدوام كل مسيرة "أوسلو" ، ولم تشارك فى سباق
على كراسى سلطة ، ولا فى انقساماتها ومساوماتها وتصادماتها ، واحتفظت بصلات ثقة مع
الجميع ، ساعدتها على القيام بدور ريادى فى الضفة الغربية ، من خلال خلاياها فى "جنين"
و"وطولكرم" و"نابلس" وغيرها ، وتفاعلت بصورة أوسع مع بقايا
تنظيم "كتائب شهداء الأقصى" التابع نظريا لحركة "فتح" ، ومع
مبادرات الشباب المقاوم خارج التنظيمات ، وقدمت مثالا عابرا للفصائل والساحات ،
ونسجت بدأب شبكات للمقاومة المسلحة بالقدس والضفة والداخل المحتل منذ 1948 ، وسبقت
لإنشاء ورش لتصنيع السلاح والطائرات المسيرة ذاتية المنشأ ، وربما تكون صلاتها
الأوثق مع "حزب الله" ومع "إيران" ، قد لعبت دورا بدعم
مبادرات حركة "الجهاد" ، التى نقلت تجربة "غزة" إلى نطاق أوسع
جغرافيا بكثير ، وإلى حيث مناطق التداخل والاشتباك المباشر اليومى مع قوات
الاحتلال وقطعان المستوطنين ، وبدء صيغة جديدة للمقاومة ، التحقت بها حركة "حماس"
، واجتهدت فى تنظيم إطار جامع للمقاومة فى القدس والضفة ، من "رام الله"
وجوارها إلى منطقة "الأغوار" ، وتواصلت أكثر مع كتائب "نابلس"
و"طولكرم" و"الخليل" ، من نوع حركة "عرين الأسود" وأخواتها
، ومع خطوط التماس الواصل إلى الداخل الفلسطينى المحتل منذ 1948 ، وهذه هى خرائط
شبكات المقاومة الجديدة ، الأكثر إفزاعا لإسرائيل ، وهو ما يدفعها إلى الاستخدام
المكثف لقدراتها العسكرية ، والنفاذ من ثغرات ظاهرة فى الواقع الفلسطينى المعقد ،
والعودة لسياسة اغتيالات قادة المقاومة ، وعلى ظن أنهم يطفئون النار ، وفاتهم أن
عمليات الاغتيال السابقة لقادة "فتح" و"حماس" و"الجبهة
الشعبية" و"الجهاد" وغيرها ، لم تؤد أبدا إلى إضعاف المقاومة ، بل
زادتها لهيبا وانتشارا ، ودفعت أجيال الفلسطينيين الجديدة إلى الالتحاق بقطار
المقاومة والاستشهاد المقدس ، أضف ما يجرى اليوم ، فقد وصلت أوهام السلام والتطبيع
والتسويات إلى الحائط المسدود ، ولم ينفع "إسرائيل" كسبها لولاء حكومات
عربية ، ولا توالى اتفاقاتها "الإبراهيمية" سيئة الصيت ، ولا تحولاتها
الداخلية إلى اليمين الدينى الأكثر شراسة ، بل بدا ذلك كله مفيدا لقضية فلسطين من
زوايا أخرى ، فقد زالت كل المناطق الرمادية ، وتحددت الفنادق ، ويدور الصراع سجالا
، على نحو ما يتجدد عفيا فى السنوات الأخيرة بالذات ، بعد فترات تراجع وموات ، عاد
بعدها الربيع الفلسطينى على ايقاع "الدم الذى يهزم السيف" ، وحروب
المقاومة الطويلة ، التى يخشاها كيان الاحتلال ، الذى يفضل شن حروب خاطفة ، لم تعد
تجدى مع الميادين الجديدة واتساعها ، ومع حروب الاستنزاف التى تخوضها فصائل
المقاومة الجديدة ، حروب استنزاف الخوف من العدو ، والاستعداد اللانهائى لبذل
التضحيات ، والثقة بعون الله ونصره العزيز لعباده المخلصين ، وحرق مراكب التعويل
على نجدة للفلسطينيين تأتى من خارجهم ، فقد استعاد الشعب الفلسطينى قضيته إلى يديه
، وأثبت مقدرته على إنهاك العدو المحتل ، وكما فى كل تجارب التحرير ، لا يلزم
للمقاومة أن تملك مثل ما يحوزه العدو من سلاح ، بل تقترب ساعة التحرير ، ويضعف
الاحتلال بالإنهاك المتدرج المتصاعد ، ويرحل الاحتلال ، حين تصبح تكلفة بقائه فوق
عوائده ومزاياه ، وهو ما عاينه الشعب الفلسطينى بنفسه فى تجارب الجوار المقاوم ،
كما جرى فى الجنوب اللبنانى ، وكما جرى بإجبار "إسرائيل" على الجلاء من
جانب واحد عن "غزة" ، وتحويلها برغم الحصار إلى قاعدة مقاومة متطورة ،
واليوم ، تتحول فلسطين المحتلة كلها إلى "غزة" كبرى ، وتتنوع الوسائل
والأساليب ، وتتعزز قدرات المقاومة بحضور فلسطينى كثيف فى الوطن المحتل ، يزيد فى
موارده البشرية على موارد اليهود المحتلين المجلوبين ، وتميل الموازين السكانية فى
إطراد إلى الكفة الفلسطينية ، وإلى وحدة ميدانية جامعة للشعب الفلسطينى ، برغم
انقسامات السطح بين الفصائل والسلطات الوهمية المعيقة ، فلم يعد الهدف إقامة دويلة
فلسطينية على الورق ، ولا تحرير الضفة وغزة وحدهما ، بل العودة إلى المدار الأصلى
للصراع ، وتحرير فلسطين كلها من النهر إلى البحر ، وإقامة دولة ديمقراطية شاملة
لكل السكان باختلاف مشاربهم ، تقوم على أنقاض المشروع الصهيونى العنصرى الاستيطانى
الإحلالى ، وقد يبدو ذلك حلما محلقا ، أو استغراقا ممعنا فى الخيال ، وإن كنا نراه
ممكنا وقريبا ، وقد يصبح حلا واقعيا بلا بديل ، فبعد عشرين سنة من اليوم ، يصير
الفلسطينيون غالبية سكانية فوق الثلثين على أراضى فلسطين بكاملها ، فوق الحيوية
المضافة للشعب الفلسطينى ، الذى يخلق خلقا جديدا ، وتنقشع عنه سحابات الأوهام ،
ولا يعود ينتظر منقذا من خارج الحدود ، بل يوسع من دوائر التعاطف والإعجاب بصموده
ومقاومته لدى الرأى العام ، فى عالم يتغير بسرعة ، وتفقد فيه واشنطن مكانتها
المتحكمة ، ويتراجع تأثير الغرب عالميا ، وما كيان الاحتلال إلا بضعة من إرث الغرب
، تضعف بضعفه ، وتذوى بتداعى أثره ، وتنتظر نكبتها الأخيرة ، ربما قبل أو مع حلول
الذكرى المئة للنكبة الفلسطينية الأولى .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق