كعادتها في كلّ يوم استيقظت نورس، وهي تستعد للخروج لتلقي تحية الصباح على والدها قبل أي شيء آخر، وقبل أن تخرج حانت منها التفاتة إلى أخيها الصغير حسن الرضيع، حدثته: (حينما تكبر سآخذك معي إلى أبي، لا تقلق يا حسن، سأدلك على الطريق، وأحافظ عليك كي لا تضيع..)، رمقتها امها بنظرة امتزجت بها الحيرة والحزن والعتاب، وكأنها تقول لها: (إلى متى يا بنيتي..؟ أما آن لقلبك الصغير أن يستريح..).
خرجت نورس الطفلة ذات السبع سنوات تسبقها لهفتها التي تتبارى مع خطواتها الصغيرة السريعة، فلقاء أبيها أضنى قلبها، ولم يعد بمقدورها أن تسكن الأشواق المستعرة التي ألهبته.. ومع اقترابها من مبتغاها، لاحت لها الصورة الكبيرة التي تم وضعها لوالدها الشهيد في مدخل الشارع الذي يسكنون فيه.. تنفست الصعداء، وأطلقت آهة من صدرها الصغير المثقل بهموم اليتم.. تأملت الصورة وتاهت في عالم آخر.. بدأت تسرد لوعتها بترتيل عانق الألم.. في عمق الوجع، وعتمة الأسى، انسابت تأملاتها تفتح جرحاً أبت آلامه الاستكانة أو الرضوخ لواقع غُرست نصاله في الروح المتعبة قبل الجسد المنخور بأنينها...
حاولت احتضان الصورة دون جدوى، يداها بالكاد تصل اليها.. تمنت طبع قبلة على جبينه.. وقفت على أطراف أصابعها ترفع نفسها، بحثت عن شيء عال تصعد عليه، فلم تجد، التفتت يمنة ويسرة لم تجد أحداً يساعدها، فالوقت باكراً، والناس مشغولون في أعمالهم مسرعين، جلست على الرصيف تتأمل وجه أبيها الذي اشتاقت له بحجم الوجود، تذكرت كيف كان يصطحبها يومياً في مثل هذا الوقت؛ ليشتري لوازم الفطور وتختار هي الحلوى المفضلة لديها.
كان يلاطفها ويلاعبها طوال الطريق، أفاقت من ذكرياتها الجميلة، واكتفت بأن تقبل ما استطاعت الوصول اليه من الصورة، وهي ممسكة بمنتصفها.. سبق قلبها شفتيها للثم ذلك الوجه الجميل، وما بين حنين الماضي وجمود الحاضر، تركت على مضض يديها صورته..!
عادت إلى البيت، وهي تحمل آلامها.. توضأت بالشوق الطهور، ومضت بأسى صامت تبتهل في محراب الأمنيات، ضاجة إلى ربها بأنين خفي، رسم على وجهها لوحة البراءة المثقلة بالأحزان والهموم..
بقي حلم تقبيل جبهة والدها يراودها.. وبقدر قساوة الواقع، ورتابة الحياة بعده، انسابت دموع القهر على ضفاف سكناتها، لتعلن عجزها على تحمل الفراق القاسي، أجهشت بالبكاء، التجأت إلى حضن والدتها باكية: (لم أستطع اليوم أيضاً يا أمي أن أقبّل وجه أبي..!!).
واستها الأم قائلة: (حبيبتي ستكبرين يوماً ما.. وحتما سيسعك الوصول إلى جبين والدك لتقبيله)، أجابت نورس باقتضاب: (يبدو أن هذا سيأخذ وقتاً طويلاً..).
:- (إلى أن يحين ذلك الوقت، سأحملك على كتفي لتقبلينه كلّ يوم). التفتت إلى الصوت وإذا به جدها المفجوع بولده..
نورس:- (أحقا يا جدي..!! شكرا لك، ولكن، هل نستطيع أن نأخذ معنا حسن ليقبله أيضاً).
الجد: (نعم يا حبيبتي، سأحملكما على اكتافي، ونذهب لشراء الفطور والحلوى التي تحبينها).
تهلل وجه نورس فرحاً، وأمسكت بيد جدها، وكأنها تمسك بذكرياتها القريبة وأيامها السالفة بعطرها..
ترقرقت في عيني الجد دمعات رسمت أسى آلامه التي كتب عليه القدر أن يكتمها، ليكمل الطريق الذي تركه ولده في المنتصف، كفكف دمعاته، وهو يرى ضحكات نورس وجذلها حينما حمل حسن الصغير على كتفه، ليأخذه معهما إلى صورة ابيهما الشهيد.
0 comments:
إرسال تعليق