• اخر الاخبار

    الأحد، 30 سبتمبر 2018

    تركت على مضض يداها صورته بقلم : امال كاظم الفتلاوي



    كعادتها في كلّ يوم استيقظت نورس، وهي تستعد للخروج لتلقي تحية الصباح على ‏والدها قبل أي شيء آخر، وقبل أن تخرج حانت منها التفاتة إلى أخيها الصغير حسن ‏الرضيع، حدثته: (حينما تكبر سآخذك معي إلى أبي، لا تقلق يا حسن، سأدلك على ‏الطريق، وأحافظ عليك كي لا تضيع..)، رمقتها امها بنظرة امتزجت بها الحيرة ‏والحزن والعتاب، وكأنها تقول لها: (إلى متى يا بنيتي..؟ أما آن لقلبك الصغير أن ‏يستريح..).‏
    خرجت نورس الطفلة ذات السبع سنوات تسبقها لهفتها التي تتبارى مع خطواتها ‏الصغيرة السريعة، فلقاء أبيها أضنى قلبها، ولم يعد بمقدورها أن تسكن الأشواق ‏المستعرة التي ألهبته.. ومع اقترابها من مبتغاها، لاحت لها الصورة الكبيرة التي تم ‏وضعها لوالدها الشهيد في مدخل الشارع الذي يسكنون فيه.. تنفست الصعداء، ‏وأطلقت آهة من صدرها الصغير المثقل بهموم اليتم.. تأملت الصورة وتاهت في عالم ‏آخر.. بدأت تسرد لوعتها بترتيل عانق الألم.. في عمق الوجع، وعتمة الأسى، ‏انسابت تأملاتها تفتح جرحاً أبت آلامه الاستكانة أو الرضوخ لواقع غُرست نصاله في ‏الروح المتعبة قبل الجسد المنخور بأنينها...‏
    ‏ حاولت احتضان الصورة دون جدوى، يداها بالكاد تصل اليها.. تمنت طبع قبلة على ‏جبينه.. وقفت على أطراف أصابعها ترفع نفسها، بحثت عن شيء عال تصعد عليه، ‏فلم تجد، التفتت يمنة ويسرة لم تجد أحداً يساعدها، فالوقت باكراً، والناس مشغولون ‏في أعمالهم مسرعين، جلست على الرصيف تتأمل وجه أبيها الذي اشتاقت له بحجم ‏الوجود، تذكرت كيف كان يصطحبها يومياً في مثل هذا الوقت؛ ليشتري لوازم الفطور ‏وتختار هي الحلوى المفضلة لديها.‏
    ‏ كان يلاطفها ويلاعبها طوال الطريق، أفاقت من ذكرياتها الجميلة، واكتفت بأن تقبل ‏ما استطاعت الوصول اليه من الصورة، وهي ممسكة بمنتصفها.. سبق قلبها شفتيها ‏للثم ذلك الوجه الجميل، وما بين حنين الماضي وجمود الحاضر، تركت على ‏مضض يديها صورته..! ‏
    عادت إلى البيت، وهي تحمل آلامها.. توضأت بالشوق الطهور، ومضت بأسى ‏صامت تبتهل في محراب الأمنيات، ضاجة إلى ربها بأنين خفي، رسم على وجهها ‏لوحة البراءة المثقلة بالأحزان والهموم..‏
    ‏ بقي حلم تقبيل جبهة والدها يراودها.. وبقدر قساوة الواقع، ورتابة الحياة بعده، ‏انسابت دموع القهر على ضفاف سكناتها، لتعلن عجزها على تحمل الفراق القاسي، ‏أجهشت بالبكاء، التجأت إلى حضن والدتها باكية: (لم أستطع اليوم أيضاً يا أمي أن ‏أقبّل وجه أبي..!!).‏
    واستها الأم قائلة: (حبيبتي ستكبرين يوماً ما.. وحتما سيسعك الوصول إلى جبين ‏والدك لتقبيله)، أجابت نورس باقتضاب: (يبدو أن هذا سيأخذ وقتاً طويلاً..).‏
    ‏:- (إلى أن يحين ذلك الوقت، سأحملك على كتفي لتقبلينه كلّ يوم). التفتت إلى ‏الصوت وإذا به جدها المفجوع بولده..‏
    نورس:- (أحقا يا جدي..!! شكرا لك، ولكن، هل نستطيع أن نأخذ معنا حسن ليقبله ‏أيضاً).‏
    الجد: (نعم يا حبيبتي، سأحملكما على اكتافي، ونذهب لشراء الفطور والحلوى التي ‏تحبينها).‏
    تهلل وجه نورس فرحاً، وأمسكت بيد جدها، وكأنها تمسك بذكرياتها القريبة وأيامها ‏السالفة بعطرها..‏
    ترقرقت في عيني الجد دمعات رسمت أسى آلامه التي كتب عليه القدر أن يكتمها، ‏ليكمل الطريق الذي تركه ولده في المنتصف، كفكف دمعاته، وهو يرى ضحكات ‏نورس وجذلها حينما حمل حسن الصغير على كتفه، ليأخذه معهما إلى صورة ابيهما ‏الشهيد.‏

     
    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: تركت على مضض يداها صورته بقلم : امال كاظم الفتلاوي Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top