قد يبدو غريبا أن نتحدث عن مقاومة لن تموت ، بينما الدنيا كلها تتهدم من حول المقاومة اللبنانية والفلسطينية ، وتنقطع عنها خطوط الإمداد بعد أحداث سوريا الأخيرة، ويجرى فرض الشروط الأمريكية والغربية عموما ، والسعى لإلحاق سوريا بكيان الاحتلال ، وبأبعد من توقع حدوث التطبيع العادى أو "السوبر" ، ويعلن من بيدهم الأمر فى سوريا اليوم ، أنهم لا ينوون الدخول فى حرب مع "إسرائيل" لا فى الحال ولا فى الاستقبال ، وتقول أصوات زاعقة موالية على وسائط التواصل الاجتماعى ، أن أحدا فى سوريا لن يطالب بعد اليوم حتى بتحرير الجولان المحتل ، ناهيك عن ما جرت إضافته من مناطق جديدة شاسعة احتلتها "إسرائيل" فى ثلاث محافظات سورية جنوبية ، مع التدمير الكامل للجيش السورى برا وبحرا وجوا ، وتلاحق احتفالات الأيام و"الليالى الملاح" ، التى يتسابق إليها رئيس وزراء العدو "بنيامين نتنياهو" وعسكره وحاخاماته من فوق قمة "جبل الشيخ" المطلة من الأعالى على دمشق نفسها .
وقد لا يكون من حق أحد خارج سوريا الحبيبة ، أن
يفتى فى شأن يخص الشعب السورى وحده ، وقد عانى الأمرين فى ظل حكم الأسد الأب
والإبن ، ودخل فى محنة كبرى خلال العقد الأخير بالذات ، وإن كنا نثق فى حكمة
ووجدان ووعى السوريين ، ومقدرتهم ـ بإذن الله ـ على عبور مخاطر قديمة ومستجدة ،
ومهما طال الزمن واستحكمت المآسى ، فسوريا كانت وستظل قلب العرب النابض ، والكلمة
الأخيرة ستكون لشعبها بالتأكيد ، وإن كان الواقع المنظور فى سوريا وفى ساحات عربية
مجاورة ، يحيط جماعات المقاومة لكيان الاحتلال بحصار وتضييق غير مسبوق ، أول
عناوينه افتعال وإشعال حروب الفتن بين السنة والشيعة ، والعودة بالتاريخ قرونا إلى
الوراء ، وتكفير فئة أو أخرى من المسلمين باستدعاء أوصاف "النواصب" و"الروافض"
، وكأن بوسع أى مسلم صحيح الإيمان ، أن يشكك فى إسلام الإمام على وسيدنا الحسين
سبط النبى الأكرم ، أو أن يشكك فى إسلام "أبو بكر" و"عمر بن الخطاب"
رضى الله عنهما ، ناهيك عن نصب المشانق باسم الانتصار لسيدنا "على" أو
سيدنا "عمر بن الخطاب" ، فليس فى الإسلام وساطة ولا طبقة وصاية من رجال
دين ، وتعاليم الإسلام وقيمه متاحة للكافة ، ولا يصح أن تكون مجالا لخلاف مفتعل
غالبا ، تغذيه جماعات تطلب مغانم الدنيا لا ثواب الآخرة ، فكل طائره فى عنقه ،
وقطع الأعناق تعسفا حرام ، سواء جرى بحق المسلمين أو لغيرهم ، وترديد صيحة "الله
أكبر" مع كل مقتلة ، لا يمحو الذنوب ولا الخطايا والكبائر ، وفتنة حروب
الشيعة والسنة لا تخدم أحدا سوى أمريكا و"إسرائيل" بالذات ، وقد كان
قادة المقاومة الجديدة فى الأربعين سنة الأخيرة ، أحرص الناس على وقف هذه الحروب
المدنسة ، وهو ما بدا فى خطابهم العام من "حسن نصر الله" إلى "يحيى
السنوار" ، ونحسبهما معا عند الله من خيرة الشهداء ، كان "السيد حسن نصر
الله" دائم التحذير من فتن الشيعة والسنة ، وإن تورط حزبه فى بعضها بأوزار
السياسة ، وكان "السيد حسن" يحمل بشدة على عادات بعض المتشيعين الموروثة
، ويحرم ويجرم سب الصحابة أو الإساءة للسيدة عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين ،
ويرى فى هذه الرذائل عمالة مباشرة لكيان الاحتلال "الإسرائيلى" ، ويرى
فى "أمريكا" وطغيانها أسوأ المنكرات ، وكذلك كان كل المخلصين لهذه الأمة
وعقيدتها ، فما خلق الله لرجل من قلبين فى جوفه ، والانشغال فوق الطاقة بخلافات
المذاهب ، مما يضيع على الأمة فرص النهوض ومقاومة عدوها ، وقد رأينا نماذج مهلكة
من المدعين بإحياء الخلافة أو الإمامة معا ، ورأينا إهلاك مئات ألوف الناس ـ ربما
الملايين ـ بدعوى المغالين فى صحة إيمانهم ، ومن دون أن يدركوا أو أدركوا ، أن
تكفير الناطق بالشهادتين أعظم المنكرات ، فوق أنه ينفذ سياسة "فرق تسد" ،
التى ترعاها قوى الاستعمار الغربى قديما وحديثا ، وإشاعة الفرقة الدينية أخطر ما
يعيق إجماع الأمة على خط المقاومة ، وبدعاوى ضالة ، من نوع "حرب العدو القريب"
الأولى من "حرب العدو البعيد" ، مع أن كيان الاحتلال وظلمه أقرب إلينا
من حبل الوريد ، والإمعان فى حروب وفتن الشيعة والسنة يقطع أهم خطوط الإمداد
المعنوى لجماعات المقاومة ضد "إسرائيل" ، وربما يتخطى أثره السئ قطع
خطوط الإمداد الأرضية ، وعلى نحو ما جرى ويجرى اليوم ، وبدعوى التخلص من النفوذ "الإيرانى"
الشيعى ، مع أن إيران لا تضار بفتن الدين ، ولا بفتنة الشيعة والسنة ، وقد استفادت
فى بسط نفوذها بهذه الفتن المفتعلة وحملات تكفير الشيعة ، التى أنفقت فيها مئات
المليارات من الدولارات ، وسبب الاستفادة الإيرانية ظاهر جدا ، فإيران كيان متعدد
القوميات ، والقاسم المشترك الأعظم بين قومياتها هو "التشيع الإثنى عشرى"
لا الرابطة القومية الفارسية ، وتقدمها بصورة الحامية للشيعة ، يضيف إليها تعاطف
وولاء عشرات الملايين من الشيعة العرب بالذات ، بينما الفتن الدينية عموما تمزق
نسيج المجتمعات العربية ، وهو ما حدث ويحدث للأسف ، خصوصا فى مجتمعات المشرق
العربى مفرطة التنوع الطائفى ، وما من شك ، أن إيران غنمت الكثير من النفوذ على
حساب العرب ، لا لشئ ، سوى أن مشروعها نما وتطور فى غياب وتوارى أى مشروع عربى
جامع ، وليس بوسع جماعات التكفير ، أن تقدم مشروعا لنهوض ، ولم يلحظ أحد لها جهدا
مقاوما بأى معنى على جبهة الصراع ضد "إسرائيل" ، بينما بدت إيران ـ
للمفارقة ـ فى الموقع المعاكس ، ورأت أن ضمان مصالحها القومية فى دعم جماعات
المقاومة العربية بلبنان وفلسطين ، واستفادت من خلاء موحش على الصعيد العربى
الرسمى ، وتوالى صور التدهور الكارثى فيه ، فلم تقدم أى دولة عربية قطعة سلاح ولا
طلقة رصاص للمقاومين الصادقين ، فى الأربعين سنة الأخيرة ، سواء كانوا من الشيعة
فى "حزب الله" ، أو كانوا من السنة فى "حماس" أو "الجهاد
الإسلامى" أو حتى "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" وغيرها ، بل
شهدنا أدوارا لأغلب الحكام العرب بين متخاذل أو مطبع أو محالف لكيان الاحتلال ،
وكلهم فى نار الدنيا قبل عذاب الآخرة .
والمؤكد أن قطع خطوط الإمداد بالسلاح الإيرانى
يضعف المقاومة ، لكنه فيما نظن لا ينهيها ، ولا يوجه لها الضربة القاضية ، وقبل
نحو عشر سنوات أو تزيد ، وجهت سؤالا لأحد قادة المقاومة الفلسطينية عن أثر انقطاع
الدعم الإيرانى إن حدث ، وكان رده ببساطة "نحن فى موقع الشمس لا فى مدار
القمر" ، وقصد أنهم يستمدون طاقة وجودهم واستمرارهم من الشعب لا من الحلفاء ،
بدا الرد وقتها بليغا مقنعا ، ويبدو أكثر إقناعا الآن ، سواء تعلق الأمر بحركة "حماس"
وأخواتها ، أو بجماعة "حزب الله" ، ربما لسبب ظاهر فى التاريخ المرئى
لعقيدة وأساليب عمل المقاومة الجديدة ، وفى تاريخها المشهود على مدار أربعة عقود
خلت ، فقد كانت طاقة الروح لا طاقة السلاح هى الأساس فى ميلاد هذه المقاومة ،
ودخولها فى مباراة حربية فريدة مع كيان الاحتلال وجيشه المتفوق تكنولوجيا ، أدارت
حروبها الأولى بقيمة الاستشهاد ـ كأعلى قيمة إنسانية ـ فى مواجهة أعلى فوائض
القيمة التكنولوجية التى يملكها الغرب المعادى ، وأثبتت الحوادث ، أن بوسع القيمة
الإنسانية الإيمانية ، أن تهزم التفوق التكنولوجى ، أكثر من ذلك ، كان بوسع قيمة
الاستشهاد الإنسانية أن تكتسب قيما تكنولوجية حربية متحدية ، بينما عجز التفوق
التكنولوجى المعادى ، أن يكتسب ما يوازى الأثر الهائل لقيمة الاستشهاد ، وهو ما
أبرزته معارك القتال المتلاحم الجارية منذ بدء "طوفان الأقصى" ، وظهر
فيها المقاتل المقاوم بكفاءة مذهلة ، بدا فيها الحس الاستشهادى مشفوعا بالتدريب
والمثابرة المتقنة ، وبوسائل فعالة لإدارة الحروب غير المتناظرة ، التى لا يكتب
فيها النصر أبدا للعدو ، رغم التفاوت الرهيب فى حساب القدرات المادية والتكنولوجية
وطاقة النيران الجهنمية ، التى أحرقت البشر والحجر والشجر ، لكنها لم تستطع إرغام
جماعات المقاومة أبدا على إعلان الاستسلام ، ولا التوقف عن التصنيع الذاتى للسلاح
، بما اكتسبته المقاومة من خبرات ، وتطويرها لشبكات الأنفاق المعقدة فى "غزة"
وفى "لبنان" ، وهو ما يؤكد مجددا ، أن قطع خطوط الإمداد الأرضية بالسلاح
لا ينهى المقاومة ، رغم ما يعنيه من مشاكل مضافة ، فهناك دائما حلول بديلة ، بينها
تهريب السلاح من مخازن العدو نفسه ، وإعادة تدوير قذائفه غير المنفجرة ، وتوليد
أجيال المهندسين والخبراء من شباب المقاومة ، وبها وبغيرها ، توالى شمس المقاومة
شروقها ، ما دام الاحتلال والعدوان قائما ، حتى فى سوريا الجديدة نفسها ، فللحرية
الحمراء باب / بكل يد مضرجة يدق .
KANDEL2002@HOTMAIL.COM
0 comments:
إرسال تعليق