هل يعنى النزاع الداخلى الدائر فى "إسرائيل" شيئا للفلسطينيين ؟ ، حكومة "بنيامين نتنياهو" و"بن غفير" و"سموتريتش" وغيرهم من المجرمين وأرباب السوابق ، نجحت فى كسب ثفة "الكنيست" بالقراءة الأولى لقانون ما يسمى "الإصلاح القضائى" ، وفى القراءتين الثانية والثالثة للقانون نفسه ، لا يتوقع أحد أن يجرى سحب القانون ، الذى عارضه فى الكنيست 47 عضوا فقط من إجمالى المئة والعشرين عضوا ، فيما تبدو المعارضة أوسع خارج الأسوار البرلمانية ، ويتدفق آلاف "الإسرائيليين" إلى الشوارع ، فى مظاهرات بلغ عدد المشاركين فيها إلى مئة ألف ، كلهم يعترضون على تقييد حدود عمل ما يسمى "المحكمة العليا" ، وتشديد قبضة الحكومة فى تعيين قضاتها ، ولا يخفى الهدف من القانون إياه ، فهو يهدف مباشرة إلى إنقاذ رقبة "نتنياهو" المتهم بالاحتيال والفساد والتربح ، ومنع المحاكم من اتخاذ أى عقوبات بحق "نتنياهو" ورفاقه فى الحكومة الموصوفة بالأكثر تطرفا ، وجعل مصير "نتنياهو" وحكومته رهينا فقط بتصويب نواب ائتلافه الإرهابى .
ولا تحتاج القصة لكلام كثير فخيم ، عن تغول السلطة التنفيذية على السلطة
القضائية ، وعن انهاء الفصل بين السلطات ، وعن تدمير حكومة "نتنياهو" السادسة
لأسس ما يسمى بالديمقراطية الإسرائيلية ، وعن سعيها لابتلاع الدولة ، وعن الغاء
المسافة بين معنى الحكومة ومعنى الدولة ، وعن تفكيك حصانة المحاكم ، فهى قصة مكذوبة محصورة باليهود دون العرب فى
كيان الاحتلال ، ولم يسبق لهذه "المحكمة العليا" ، أن أصدرت حكما واحدا
تنصف فيه عربيا فلسطينيا ، ولا أن عارضت قانونا عنصريا فاقعا كقانون "القومية"
مثلا ، ولا أن عارضت إجراء لحكومة إسرائيلية ضد الفلسطينيين فى الضفة وغزة أو
بالداخل ، لا فى سرقة أملاك الغائبين ، ولا فى هدم منزل فدائى أو أسير ، ولا فى
إبعاد وطرد أى فلسطينى ، ولا فى اقتحام مدينة أو قرية أو مخيم فلسطينى ، ولا فى
القتل المجانى الهمجى للفلسطينيين والفلسطينيات داخل بيوتهم أو بالشوارع ، كما
يجرى كل يوم ، وجرى فى "نابلس" وقت كتابة هذه السطور ، وأعطت المحكمة
إياها رخص الإقرار والتسليم و"المشروعية" لكل جرائم كيان الاحتلال
الإسرائيلى منذ وجد ، وكانت دائما عنوانا لافتعال "قانونية" كل عدوان
وفعل وحشى ، ولم يغضب أحد "يهودى" صهيونى منها أو لها ، إلا حين نشب
نزاع مصيرى بين المحتلين الصهاينة ، يهدد بحرب إفناء للصهيونية شبه العلمانية ، فى
مقابل تصاعد واستشراء نفوذ "الصهيونية الدينية" ، ورغبتها فى صياغة
مؤسسات الاحتلال على طريقتها ، وعلى مقاس أساطيرها التوراتية ، وتحويل الكيان
رسميا إلى حكم دولة الحاخامات .
وبطبائع الأحوال ، فنحن لا ندعو إلى تجاهل ما يجرى فى الكيان الإسرائيلى
المحتل ، ولا إلى التهوين من شأن وأثر النزاع الجارى ، فقد لا تكون لنا ناقة ولا
جمل فى مصير هذه "المحكمة العليا" ، التى تخصهم ، ولا تعنى العرب
الفلسطينيين ، لكن ما حدث ويحدث ، يعبر فيما نرى عن تقلصات وتشنجات غير مسبوقة فى
كيان الاحتلال ، تعود إلى ما قد نسميه محنة الموهومين بالنصر الإسرائيلى ، والقصة
ليست وليدة اللحظة ، بل إلى نحو 55 سنة مضت ، ففى حرب 1967 ، حقق كيان الاحتلال
نصره الفعلى العسكرى الأخير ، واقتطع القدس والضفة وغزة والجولان وسيناء فى حرب
خاطفة ، ثم اضطر للجلاء فيما بعد عن سيناء بحرب الاستنزاف وحرب 1973 وتسوية كامب
ديفيد الأولى ، وبدء عصر التطبيع العربى ، والاعتراف الرسمى بشرعية مزورة لكيان
الاحتلال ، وبما زاد الوضع العربى تفسخا وعجزا ، ثم لتناسل صور التطبيع من "أوسلو"
و"وادى عربة" إلى اتفاقات "إبراهام" ، وهو ما بدا معه أن "إسرائيل"
تعيش عصرها الذهبى ، وأن الطرق مفتوحة سالكة أمامها ، لكن المفارقة التى برزت ، أن
"إسرائيل" على تضخم قوتها العسكرية والتكنولوجية ، وعلى ضعف وهوان
المشهد العربى الرسمى المقابل ، لم تتمكن من إحراز نصر عسكرى واحد بعد حرب 1967 ،
لا فى حرب الاستنزاف ولا فى حرب 1973 ، ولا فى غزو لبنان ، الذى اضطرت للجلاء عن
آخر شبر فيه تحت ضغط ضربات المقاومة ، ولا فى حروبها الخمس ضد قطاع غزة ، الذى
اضطرت للجلاء عنه قبلها تحت ضغط ضربات المقاومة فى الانتفاضة الفلسطينية الثانية ،
ناهيك عن تشقق وانهيار "صيغة أوسلو" باتفاقاتها وتوابعها ، وبقرار من
الشعب الفلسطينى ، تتلكأ السلطة الفلسطينية فى التسليم به ، برغم توالى موجات ربيع
الحرية فى القدس والضفة الغربية ، وقد صعدت فى السنوات الأخيرة ، وجندت فى صفوفها
أغلب الفلسطينيين دون سابق تنظيم ، وأثارت هلع مؤسسات وقوات كيان الاحتلال ،
ودفعتها بغرائز الخوف إلى تحطيم اتفاقاتها مع سلطة أوسلو ، وإلى شن حروب القتل والطرد
والهدم والإبعاد ، من حملة "السور الواقى" لصاحبها المجحوم "شارون"
، إلى حملة "تكسير الأمواج" لصاحبها الأخير "يائير لابيد" ،
وحكومته السابقة على حكومة "نتنياهو" و"بن غفير" الحالية ،
ومن دون أن تسفر الحروب كلها عن نصر ما أو حتى شبهة انتصار للاحتلال ، فكلما
أوغلوا فى القمع والقتل والتنكيل ، زادت حرارة المقاومة والعناد الشعبى الفلسطينى
، وكلما تغولوا فى اقتحامات المسجد الأقصى المبارك وتدنيسه ، تدفقت جموع مضافة من
الشعب الفلسطينى إلى ميدان المقاومة الشعبية والمسلحة ، وكلما انتشوا بوهم أن
القدس صارت لهم وللأبد ، وأن واشنطن تدعمهم للنهاية ، وأن أغلب حكام العرب
والمسلمين صاروا فى معسكر "أصدقاء إسرائيل" ، كلما أسكرهم الوهم والاصطناع ، بان الفزع فى
القلوب والعقول ، وهم يرون شعبا مصمما على نيل حريته وهدم صولجانهم ، وليس حكومة
صورية يتفقون معها ، فجوهر ما يجرى هو عودة الشعب الفلسطينى إلى صدارة التاريخ
ومعركة كسب المصائر ، وكأن ما فعلوه وراكموه عبر 75 سنة من الاحتلال ، مهدد
بالتحول إلى قبضات ريح ، بعد أن تضاعف الحضور الفلسطينى فوق الأرض المقدسة ،
وتتابعت مشاهد المقاومين العائدين من الماضى المنفى ، فقبل عشرين سنة من اليوم ،
كان شارون "ملك إسرائيل" يصرخ بعد معركة "جنين" ، ويقول بالنص
"لقد عدنا من جديد إلى حرب 1948" ، ثم ذهب "شارون" بعدها إلى
غيبوبة موت طويلة ، لكن صحوة الشعب الفلسطينى استمرت وتصاعدت ، وتكاثفت الصلات بين
أقسامه فى الضفة وغزة والداخل المحتل منذ وقت النكبة ، وصار العنوان الجامع فى "القدس"
برمزيتها الهائلة ومكانتها الحاسمة ، وفقد "الإسرائيليون" كل شعور
بالأمان ، وبالقدرة على توقى خطر يأتيهم من حيث لم يحتسبوا ، ولم يعد بوسعهم سوى
تجريب حيل الهروب إلى الأمام ، إما بكسب حكومات عربية وإسلامية جديدة إلى اتفاقات "إبراهام"
، أو بالإمعان فى معاندة تيار التاريخ الجارى ، والسير وراء الزاعقين بهتاف "إسرائيل
الكبرى" ، أو ما يعرف باليمين الإسرائيلى الأكثر تطرفا ، وجلب ما يسمى
المعارضة الإسرائيلية وراء اليمين الموصوف ، وهو ما يفسر السلوك المزدوج من جانب "لابيد"
و"بينيت" و"جانتس" و"هرتزوج" وبقايا حزب العمل
المؤسس للكيان ، فهم يصوتون مع حكومة التطرف فى قرارات التوسع الاستيطانى ،
والانتقام من الفلسطينيين وأسراهم ، ثم يدخلون معها بنزاع فى الوقت نفسه ، ليس على
إجرامها وعدوانيتها طبعا ، بل على نصيب من الكعكة الصهيونية الداخلية المنشقة ،
ورفع شعارات الخوف على مصير "إسرائيل" ، وتفويض مسيرة ما يسمى "الديمقراطية
الإسرائيلية" ، بينما يصدمهم "نتنياهو" ، ويتهمهم بالعداء
للديمقراطية والتصويت الشعبى ، ويحذر من إقدامهم على تدبير عمليات لاغتياله ،
ويدعوهم لحوار بغير شروط ، لا يجد استجابة ظاهرة ، وربما لا يهتم "بيبى"
، لثقته فى الفوز بتصويت "الكنيست" بالقراءة الثانية والثالثة لما يسمى "قانون
الإصلاح القضائى" ، الذى يستنقذ به رأسه وعتاة البلطجة فى حكومته .
والمحصلة الإجمالية ، أن تقلصات الكيان الإسرائيلى الداخلية تبدو ماضية إلى
تفاقم أكيد ، وأن وهم "الديمقراطية الإسرائيلية" ذاهب إلى انكشاف مضاف ،
ليس لخلاف على قانون عابر ، بل لمخاوف غريزية تجتاح الكيان وصهاينته ، وضعف الثقة
بسلامة واستقرار مؤسسات كيان ، هو نفسه صار مهددا فى بقائه ، بأثر من صحوة الشعب
الفلسطينى المتكاثر فوق أرضه ، وعلى نحو يعيد السيرة إلى أولها ، حين كان حضور
الشعب الفلسطينى غالبا ، وها هى الصورة ذاتها تعود فى إطراد ، ليس كوجود ساكن يسلم
بأقدر الاحتلال وقوانينه ، بل كوجود حى مقاوم ويتحدى ، تضاعفت خبراته بنقاط قوة
ونواحى ضعف عدوه المغتصب ، ومستعد للتضحية إلى آخر المدى ، فالحق لا يسقط بالتقادم
، والأوهام لا تبنى حقائق قابلة للاستقرار والدوام ، والغاصبون لن ينعموا أبدا
بالأمن ، والديمقراطية لا تقوم فى كيان فصل عنصرى قاتل إرهابى بطبعه ، وإصلاح
التاريخ أولى من إصلاح قضاء كذوب ، لا فارق فى موازين الحق بين إصلاحه وإفساده .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق