من البدهيات أن (الإبداع) إتيان بجديد في مجال من مجالات الحياة، وأنه موجود مع الإنسان في كل زمان ومكان، ويظهر في الإنسان عن طريق اكتشاف الموهبة، وإعمال الخيال، واستثمار الطاقة العقلية، والتفنن في المخزون الثقافي والثروة اللغوية المتنوعة الحقول الدلالية. ولفظة (الإبداع) عربية أصيلة، واردة في الشعر العربي العريق، ومثبتة في المعاجم اللغوية العتيقة، ودار أصلها العربي حول "ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال" كما يقرر العلامة ابن فارس(ت395هـ) في مقاييسه، و(الإبداع) حاضر -كذلك- في مدونات النقد الأدبي العريق عند أسلافنا، بدءًا بالأديب الموسوعي الكبير الجاحظ (ت٢٥٥هـ) ومن أتى بعده من نقاد عرب أماجد في وصفهم للعملية الأدبية. ويُقصَد بـ(الإبداع الأدبي) مدى قدرة الأديب على الإتيان بجديد أو إعادة صياغة القديم في شكل أدبي حديث أو مغاير، وعرض الأشياء المألوفة بقالب غير مألوف، والشعور بما لا يراه أو يشعر به الآخرون. ولا ريب في أن مصر ذاخرة في كل عهد بالمبدعين البارعين والمبدعات المدهشات في ميادين ثقافية شتى، وعندما نتدبر سِيَر حياتهم ومسيرتهم مع الإبداع، نقف على جملة من مُحَفِّزات الإبداع ومُثيراته ومُكَوِّناته، تكاد توجد فيهم أجمعين بطريقة عجيبة، تتمثل في: الأصل، والنشأة، والتعليم، والعلاقات الاجتماعية، والأحداث السياسية، والوظائف والحِرَف والمِهَن، والتفاعل مع مجريات الواقع المعاش... والمنهج النقدي الأمثل والأنسب لدراسة هذه الظاهرة هو (المنهج التاريخي)؛ إذ يوظف هذا المنهج في ميدان الدراسات الأدبية والنقدية؛ لتحقيق عدة أهداف، من أهمها الدراسة التاريخية للمبدعين لتبيُّن الأوضاع السياسية والدينية والاجتماعية والفكرية زمنَ إبداع النصوص وموقف المبدع منها تأثرًا وتأثيرًا، انفعالاً وفعلاً؛ لنصل إلى مدى كون الأديب ابن بيئته، وحقيقة أن النص الأدبي خلاصة لحظة في العصر الذي أبدع فيه وثمرة ثقافة مبدعه وتجاربه.
ويعد "بيرم التونسي" (١٨٩٣-١٩٦١م)
من أبرز مبدعي مصر ومثقفيها في فترة فارقة من تاريخنا، منذ العقد الثاني حتى بداية
الستينيات من القرن العشرين، كما تقرر كثير من مصادر ترجمته الورقية والرقمية؛ إذ
تنوعت أعماله فيها بين الشعر الفصيح، والمقال، والمقامة، و الزجل الغنائي
والمسرحيات والدراما. وقد جمعت الهيئة المصرية للكتاب أعمال ذلكم المبدع في اثني
عشر مجلدًا، ولكن لم تضم جميع أعمال زجالنا الكبير؛ لأن بعض كتاباته على مدار رحلة
حياته لم توثّق بشكل كامل! وقد عده النقاد رائدًا للزجل العامي في مصر، و سار على
نهجه من تبعه من زجاليها، وحظيت إبداعاته بتلق شعبي ورسمي ونُخْبَوي كبير، حيث
تلقى إشادات طيبة من كثير من النقاد والمفكرين المعاصرين له. كما تلقّى التقدير
الرسمي إلى جانب التقدير الشعبي، فحصل على جائزة الدولة التقديرية سنة ١٩٦٠م؛
ليرحل بعدها بعام واحد عام 1961م، عن ثمان وستين سنة، تاركًا إرثًا كبيرًا من
بوحياته الزجلية وسردياته الدرامية، التي صيغت بطريقة ساحرة جاذبة وساخرة جالدة، و
التي لا يزال كثير منها باقيًا في وجدان الناس حتى الآن؛ مما جعله يستحق عن جدارة
ألقاب: "فنان الشعب، وأمير شعراء العامية، وهرم الزجل"... ولكن كيف
تكوَّنَ الإبداع في شخصية "بيرم" ومسيرته؟ وما أثر بيئته ومجتمعه
وثقافته في تكوين ملَكته وتطويرها؟ وما مدى تعبير إبداعه عن حَيَوَات عصره
سياسيًّا ووطنيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا وثقافيًّا؟ أسئلة ضرورية في عقل كل مثقف
مطلع اطلاعًا أوليًّا على نتاج هذا الأديب الوطني الثائر، والمثقف الناقد! وعندما
نتدبر حياته ومراحل إبداعه نجد عدة عوامل متنوعة أسهمت في تكوين شخصيته الأدبية،
وجعلته منفعلاً ببيئته ومجتمعه وثقافته، و فاعلاً في حَيَوات عصره، ويمكننا عرضها
على النهج الآتي:
١-مُرَبَّاه وتعليمُه:
هذا هو المُكوِّن الأول لشخصية
أديبنا، ذلك الأصل التونسي المعروف بروحه الحرة الوثابة وإبداعه المبهج، وتلك
البيئة الإسكندرانية، عروس البحر المتوسط، المعروفة بتأثيرها الفني العالي وخفة دم
إنسانها؛ فقد ولد أديبنا بحي السيالة، في 23 مارس سنة ١٨٩٣م، وظل تونسيَّ الجنسية
حتى عام ١٩٥٤م، حيث مُنِح الجنسية المصرية في سنة1960م. وقد عاش طفولته فى حي
الأنفوشي، والتحق بكُتّاب الشيخ جاد الله، ثم كره الدراسة فيه؛ لما عاناه من قسوة
هذا الشيخ، ثم ذهب إلى المعهد الديني في مسجد المرسى أبو العباس، ثم تُوفِّي
والده، وكان "بيرم" في الرابعة عشرة، فانقطع عن المعهد. وقد عانى من
عقبات منذ طفولته حتى شبابه، حيث فُوجِئ بمولد أخته وموتها بعد هذا الميلاد بثلاثة
أيام، واكتشاف أمه أن زوجها تزوج عليها سرًّا من فنانة، وكان لهاتين الحادثتين أثر
كبير على نفس الطفل حيث أصبح طفلاً حزينًا، لا يقبل على اللعب مع الأطفال، بل
يكتفي بمراقبتهم وقت اللعب، وزاد من ذلك الحزن وتلك التعاسة المبكرة موت الأب الذي
لم يترك للأم والأخت والابن غير المنزل الذي يعيشون فيه، حيث استولت زوجة أبيه علي
ثروته لحظة موته، والتي كانت خمسة آلاف جنيه ذهبًا! واستولى أبناء عمِّه على تجارة
أبيه! ونتيجة لذلك انقطع "بيرم" عن الدراسة واضطر للعمل في محل بقالة،
حيث أصبح رجل البيت، إلا أنه لم يستمر في هذا العمل حيث طُرِد منه، ولم ينتهِ الأمر
عند هذا الحد من التعاسة حيث تزوجت أمه، والتحق "بيرم" بالعمل مع زوج
أمه في عمله الشاقِّ، وكان يعمل بصناعة هوادج الجمال، ثم تُوُفِّيت أمه. وقد علق "بيرم"
على موت أمه بقوله: "ابتدأت حياة من الضياع؛ فقد انتقلت للإقامة مع أختي لأبي
المتزوجة من خالي، وكانت تعد علي الأنفاس والحركات والسكنات، وتضيق ذرعًا بأية
خدمة تؤديها لي!". وقد عانى "بيرم" في زواجه أيضًا؛ حيث ماتت
الزوجة بعد ست سنوات زواج؛ تاركة له ولدًا اسمُه محمد وبنتًا اسمها نعيمة، وعندئذ
لم يجد طريقًا سوى الزواج مرة ثانية!... وهكذا يمر "بيرم" في حياته بسلسلة
من المتاعب الجمَّة، لتخرج لنا فنانًا فذًّا، فلم تكن صنوف المعاناة، سببًا للضياع
والانحراف، ولم تكن معوِّقًا! بل كانت سبب الإبداع ومصدره؛ فكم من أديب عانَى
معاناة شديدة، أدت إلى إخراجه الكثير من الإبداعات التي أغنت الأدب والفن
إنسانيًّا وحياتيًّا... ودليل ذلك معايشة أول تجربة زجلية لـ"بيرم"؛ حيث
بدأت نجوميته عندما كتب قصيدته "المجلس البلدي"، التي انتقد فيها المجلس
البلدي بالإسكندرية، لفرضه ضرائب باهظة، أثقلت كاهل السكان بحجة النهوض بالعمران! ونشرت
القصيدة كاملة بجريدة "الأهالي"، وفي الصفحة الأولى، وكانت أول قصيدة
تُنشر لـ"بيرم"، وقد طُبع من العدد الذي نشرت فيه أربعة آلاف نسخة، وهو
عدد كبير في ذاك الوقت، وكانت النسخة تباع بخمسة مليمات! وأحدث نشرها دويًّا؛ فلم
يعد في الإسكندرية من لم يتكلم عنها، أو يحفظها أو يرددها، ليذيع صيت هذه الأبيات
في الإسكندرية كلها، وتبدأ موهبة "بيرم" بالظهور للناس، ومن ثم كانت هذه
التجربة الزجلية الأولى دليلًا على أن المعاناة مصدر إلهامه، وأساس حضوره الأدبي
بين الناس، ودافعًا على الإبداع؛ فبعد هذه القصيدة انفتحت أمام "بيرم" أبواب
الإبداع الأدبي وتنوعت شعريًّا وزجليًّا وغنائيًّا، فانطلق فيها؛ فقد بدأ "بيرم"
بعدها يتجه إلى الأدب، فترك التجارة واهتم بتأليف الشعر، إلا أنه أدرك بعد فترة أن
الشعر وسيلة محدودة الانتشار بين شعب معظمه عامي! فعزف عنه وأقبل على الفنون
الأدبية الشعبية! ليصف مجتمعه وصفًا دقيقًا كاشفًا وفاضحًا وناقدًا، متحدثًا عن
أمراضه وسوءاته ومشكلاته، ومقترحًا الأدوية والعلاجات في نظره، وهكذا لم تكن حياة "بيرم"
منذ ولادته حتى رحيله إلا سلسلة من المتاعب والمضايقات والمنافي، لكنه استطاع
بإرادته الفتية وهمته العالية أن يحول كل تلك الكوارث إلى إبداعات وأزجال كمطارق
على رءوس الفاسدين والهمجيين والمحتلين وأذيالهم.
2- ثقافته الأدبية والشعبية:
ظهر أثر الثقافة الأدبية بجلاء في
شخصية "بيرم" منذ زمن مبكر من حياته، حيث كان يقرأ في الورق الذى يلف به
أنواع البقالة التي كان يبيعها، وقد تأثر كثيرًا بما قرأه، لكنه لم يستطع استكمال
مشروع البيع والشراء، بعد أن خسر فيه الجلد والسقط كما يقول المثل، ثم راح يعمل مع
خاله المقاول، حيث التقى (بيرم) ذات يوم بأحد البنائين، الذين يأتون لخاله في
نهاية الأسبوع لأخذ أجرتهم، وتجاذب الحديث معه، فروى له البناء قصة "السلك
والوابور"، وهي محاورة خفيفة الظل بين التلغراف والقطار، وعشق بيرم حديث هذا
البنَّاء، فصار ينتظره كل أسبوع؛ ليروي له بعض القصص الشعبية التي يحفظها، وتطورت
تلك الهواية الجديدة عند (بيرم)، إلى حد أنه أصبح لا يكتفي بسماعها، بعد أن عرف
مصدرها في حي الشمرلي؛ فبدأ يقتصد من مصروف يده؛ ليشتري به من مكتبات هذا الحي كتب
الأساطير الشعبية مثل "ألف ليلة وليلة "و"أبو زيد الهلالي"، "عنترة"،
و "سيف بن ذي يزن"، وغيرها، وكانت بعض تلك الأساطير تتخللها أبيات من
الشعر، وجدت هوًى في نفس الصبي، وأقبل على شراء دواوين الشعر التي كان يقرؤها في
نهم وشغف. ومن هذا يتضح أنه تسلح بالزاد الأول والعميق لكل زجال، وهو ذلك التراث
الشعبي المصري الساحر الآسر الفاتن!
أما عن تزوده بالأدب الرسمي
الفصيح الخاص فتمثل في أنه اطلع في باكر حياته على مجموعة من أشعار الشاعر العباسي
الكبير ابن الرومي(ت283هـ) ففُتن بها وعدها أمتع ما قرأ؛ وتعلم منها -كما كان يقول
دائمًا- روح الهجاء، فكانت هذه المجموعة الشعرية وأزجال محمد أفندي توفيق- صاحب
جريدة "حمارة منيتي" -وهي صحيفة أسبوعية توصف بأنها جريدة "هزلية
فكاهية شقلباظية وأحيانًا أدبية سياسية انتقادية حلنجية-بداية سريان روح النقد
اللاذع في دمه، وكان أسلوب "محمد توفيق" في هذه الجريدة قمة في السخرية..كما
قرأ في الأدب الشعبي لعبد الله النديم(ت1896م)، وحفظ أزجال الشيخ النجار وأزجال
الشيخ القوصي، وحاول تقليدهم.وقد اكتمل ارتشاف الطفل المبدع من الفن والأدب، عندما
سكن في منزلهم أستاذ تركي اسمه محمد طاهر، وقد رأى في "بيرم" ميله للشعر
فأهداه كتابًا في فن العروض، وكان هذا الكتاب نقطة تحول في حياته؛ فما كاد يقرؤه
حتى بدأ محاولاته في عمل بعض الأزجال والأشعار، وتتطور ثقافة "بيرم" حين
يقرأ -وهو في عمر السابعة عشرة- كتابًا في الصوفية لمحيي الدين بن عربي)ت638هـ)،
وما إن قرأ الكتاب وحل ألغازه فهام به، وبدأ يبحث عن كتب أخرى من هذا النوع، وأخذ
يشتري كتبًا لكبار أدباء العربية من الصوفية والفقهاء والمؤرخين والأدباء.
3-عمله الصحفي وعلاقاته الفنية:
لا ريب في أن للصحافة زمانَ "بيرم"
أثرًا في الإبداع الأدبي، وفي الإنجاز الثقافي، فمن يتابع سيرته يجد حرصه على
إيصال كلمته بكل وسيلة نشر متاحة، ومنها وسيلة الصحافة؛ إذ أنشأ صحيفتي-المسلة
والخازوق- بجهد ذاتي خاص، حيث كتب العدد الأول من صحيفة (المسلة) من الغلاف إلى
الغلاف، ونزل في يوم 4 مايو 1919م؛ ليوزعها بنفسه على المقاهي، وفي محطة
الإسكندرية، وعلى الطلبة، وموظفي دواوين الحكومة والتجار، وأصبحت هذه الصحيفة منذ
أول أيام صدورها حديث معظم أهالي الإسكندرية؛ فهي تهتم بمشكلات الناس الاجتماعية
وتقف بجانب القضية المصرية المناهضة للاحتلال الإنجليزي، ولهذا أحبها الناس
وتحمسوا لصدورها، ثم صدر الأمر السلطاني بإغلاقها، بلا رجعة، وبعد إغلاقها أصدر
مجلة "الخازوق"، وصُودرت أيضًا! ثم نفته السلطات إلى بلده تونس، بسبب
مقالة انتقص فيها من العائلة المالكة! وهكذا يكون الفن بالنسبة إلى الفنان هو
المعاناة التي من خلالها يعرض نفسه لمزيد من المعاناة! كما يقول الأديب التشيكي
كافكا(ت1924م)، ثم شارك "بيرم" عبر مسيرته بإبداعه في كثير من صحف عصره
ومجلاته! فعمل "بيرم" كاتبًا في (أخبار اليوم)، وبعدها عمل في جريدة (المصري)،
ثم في جريدة (الجمهورية)؛ مما جعل الصحافة عاملاً بارزًا في شخصية "بيرم"
وأدبه... وتعد علاقاته الفنية عاملاً بارزًا في حياة "بيرم التونسي"؛
ففي وقت مبكر من صدر شبابه، ربط الفن بينه وبين "سيد درويش"، وعمق
صداقتهما، وجمعهما في السهرات الفنية التي كانت تشهدها الإسكندرية في ذلك الوقت،
وكتب بيرم لسيد درويش عدة أغان... ثم دخل "بيرم" المجال الفني فألَّف
الكثير من الأغاني والمسرحيات الغنائي لنجوم المطربين ولوامع المغنيات، كما قدم
العديد من الأعمال الإذاعية الدرامية المشهورة، منها "سيرة الظاهر بيبرس"،
و"أوبريت يا صلاة الزين" المستوحى من السيرة الهلالية، عن قصة "عزيزة
ويونس"، وكان "بيرم" أول من كتب "فوازير رمضان"، و أول
من كتب "المسحراتي"، وقد دأبَ على إصدار كتيبات صغيرة بها أزجال بها
مختلف الانتقادات الاجتماعية...
4- وطنيته ونفيه:
تدل معظم مراحل حياة "بيرم"
على أنه كان ذا نزعة وطنية وثورية مشتعلة وصادقة، وقد عانى بسبب ذلك ما عانى من
مطاردات ونفي، فكانت بداية انطلاقته الحقيقية من الإسكندرية في أوج ثورة سنة 1919م،
التي شهدت تصاعدًا كبيرًا للحسّ الوطني في كل أنحاء مصر، والتي فرح بها وأيَّدها،
وقال فيها الأشعار والأزجال، وتعاون مع صديقه "سيد درويش" ليقدم الثنائي
مجموعة من أروع الأعمال التي تنبض بالوطنية، والتي تُعدّ الآن من التراث الثقافي
المرتبط بهذه الحقبة الجميلة لمصرنا والمعبِّر عنها خير تعبير! وقد مثل النفي عدة
مرات عاملاً مؤثرًا في شخصية "بيرم"؛ فقد نُفي من مصر إلى تونس ثم إلى
باريس، ثم تم ترحيله في سنة 1932م من فرنسا لتونس بعد طردها الأجانبَ! وهناك أعاد
نشر صحيفة "الشباب"، وأخذ يتنقل بين لبنان وسوريا، وقامت السلطات
الفرنسية بإبعاده عن سوريا إلى إحدى الدول الأفريقية، وظل منفيًّا زمنًا طويلًا،
قارب ستة عشر عامًا بعد أزمة مع الملك، بسبب أشعار كتبها ينتقد فيها سياساته، إلا
أنه لم يتوقف عن الكتابة حتى في أصعب الظروف! فألّف مجموعة من أروع أعماله في
المنفى؛ لتصير حياته إلى مجموعة مآسٍ حيث يعاني النفي والفقر والتشرد، ويحن إلى
وطنه، وحيث الغربة والأمراض، والعَوَز والظروف المعيشية القاسية، والتربُّص
والمتابعة من السلطات القائمة حينئذ باعتباره شخصًا مقلقًا غير مرغوب فيه، لما
عُرِف عنه من نفس ثورية متمردة!.... وتستمر نزعته الوطنية مع كل ثورة وحركة
شبابية، إلى أن تنتقل وطنيته إلى ثورة يوليو 1952م، فيكتب عددًا من الأشعار
الداعمة للثورة حتى إنه أول من ألقى شعرًا بصوته في الإذاعة المصرية احتفاءً بقيام
الثورة، وقال عنها في مذكراته: "قامت ثورة 23 يوليو، وقام الجيش بما كنت أنا
أنادي به من إصلاح، كما قضى على كل ما كنت أهاجمه من فساد، والحمد لله أنني لم أمت
قبل أن تتحقق آمالي"! وقد حصل "بيرم" على الجنسية المصرية عام 1953م
بعد قيام هذه الثورة؛ لانتقاده الكثير من السياسات في العهد الملكي! وأثناء العدوان
الثلاثي على مصر كتب "موال في كل منزل"، وبعد اندحار العدوان الثلاثي
كتب "صوت السلام"...، وهكذا نبع (الإبداع) عند "بيرم" من
موهبة فطرية، ونمت هذه الموهبة عن طريق تفاعله مع بيئته، وتزوده بثقافة أدبية
وشعبية متنوعة؛ وعمله بالصحافة وعلاقته بأهل الطرب، واندماجه مع مجريات وطنه، فكان
عضوًا فاعلاً في أبرز الأحداث، حيث أبدع تجاربَ سياسية حية، وعبر عن آلام مجتمعه
وآماله، وأمراضه وسلبياته، ووصف العلاج والدواء لكل مرض وسلبية، ومن ثم كان إبداعه
وثيقة لواقعه ومرآة لحياته، ودليلا على شخصيته، وكان هادفًا واسعَ الانتشار، قويَّ
التأثير...
0 comments:
إرسال تعليق