بعد إقامة الحجة الدامغة عليهم، هل انتهوا عن ضلالهم
وإضلالهم؟ بالطبع لا، فأنّى للظالم ومن معه من منتفعين على شكل ساسة وكهنة وأصحاب
مصالح، الاعتراف بالخطأ الذي كان واضحاً جلياً في وجدانهم، وإن بدا ظاهرهم أنهم مع
الملك نمرود، أو مع كل ما يبقي على مصالحهم.
كانت حيلتهم للخروج من ذلكم المأزق الذي وضعهم إبراهيم
فيه، وكعادة الظلمة في كل زمان ومكان، هو التخلص منه، لوأد فكرته ودعوته قبل أن
تنتشر وتتوسع، ولإرهاب من تسول له نفسه النيل مما هم عليه من معتقدات وأفكار، وإن
كانت بالية تافهة. ثم كان القرار الحاسم. إحراق إبراهيم في نار عظيمة يشترك الجميع
في جمع حطبها. فبدأ الجميع تنفيذ ما قرره نمرود، ليتفاجأ هذا الجمع بمعجزة تقع
أمامهم لن تتكرر تارة أخرى في عالم البشر، وقد احتشدوا لرؤية إبراهيم وهو يحترق في
نارهم، لتكون حجة أخرى أخيرة عليهم، تؤكد صدق إبراهيم في دعوته.
بل ران على قلوبهم
لكن هيهات هيهات أن تتأثر قلوب ران عليها ما كانوا
يكسبون، كما في الحديث الصحيح: إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن
تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه منها، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي
ذكر الله في كتابه (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). انتهى المشهد بنجاة
إبراهيم الخليل – عليه السلام – الذي جعل الله النار عليه برداً وسلاما، فخرج ولم
تحترق إلا الحبال التي تم ربطه بها في مشهد مخالف للسنن والقوانين الطبيعية، ومع
ذلك كله، لم يؤمن أولئك القوم!.
* هو
حجة له وحجة عليهم؟
وأحياناً قد يستفيد آخر سامع قد يكون بالنسبة لهؤلاء
سواء عليهم لكن حتى لو نقل هذا أو سمع أحد هذا عن طريق الاستهزاء قد يقتنع شخص
آخر، محتمل. أحياناً أنت تنقل كلاماً عن شخص وأنت كأنما تستهزئ به لكن السامع
يقتنع به فقد ينتفع آخر بهذا الإنذار إن لم ينتفع هؤلاء فقد ينتفع آخر مما يسمعون.
ثم أنت عليك أن تبلِّغ سواء استجابوا أم لم يستجيبوا (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلاَغُ (40) الرعد) وهذه في قائمة حسناته على كل حال.
* هل
نفهم من هذا أن الله تبارك وتعالى قضى عليهم أنهم لن يؤمنوا أبداً؟ علِم ذلك.
* ربما
في خارج القرآن نقول أنذرتهم أو لم تنذرهم؟
لا، بعد همزة التسوية تأتي أم وليس أو، هذه قاعدة وأم
غير أو أصلاً. لاحظ سندخل في حكم نحوي: أنت تقول هل عندك فلان أو فلان؟ لا يجوز أن
تقول عندك فلان أم فلان؟ لا يصح. لما تقول هل عندك فلان أو فلان؟ تقول نعم أو لا،
يعني هل عندك أحدهما؟
* يعني
هل عندك محمد أو أحمد؟ هل عندك واحد منهما؟
* هذا
أو ذاك. بماذا ستجيب؟
* نعم
عندي فلان. هذه للتصديق، بينما (أم) للتعيين أعندك فلان أم فلان؟ تقول عندي فلان
ما تقول نعم. * إذن
الأول للاستخبار هو موجود أو غير موجود هذا أو ذاك، لكن الثانية يحتمل أن أحدهما
موجود؟ تعيين طبعاً، (أم) للتعيين ولذلك تقع بعد الهمزة لا تقع بعد (هل). قال
تعالى (هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ (93) الشعراء) لم يقل (أم) يعني لا
هذا ولا ذاك، هل ينصرونكم أو ينتصرون؟ لا هذا ولا ذاك، هل تحس منهم من أحد أو تسمع
لهم ركزا؟ لا هذا ولا ذاك، (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ
تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) مريم) ستجيب عنها
لا، أما (أم) فهي للتعيين.
خلاصة ما يمكن به ختم هذا الحديث، أن أصحاب الدعوات هم
هكذا. ثبات على طريق الحق، في صراع مستمر لا يتوقف مع أصحاب الفكر المشوش والمغلوط
أو العقائد الفاسدة. صراع قد تضطر في إحدى مراحله أن تكسر وتحطم أوثان الباطل
بصورة وأخرى، ضمن مشاهد متنوعة
تجد أن كل فريق يسعى لإقامة الحجة على الآخر بطريقة
وأخرى، فهكذا هي مشاهد الصراع بين الحق والباطل في كل زمان ومكان. الفريقان لا
يعرفان اليأس.
لكن ما يميز فريق الحق أن حججه دامغة حاسمة، مقابل
حجج للباطل، خادعة كاذبة خاطئة، والعاقل من ينظر لعاقبته، ولا يغترُّ بعاجلته، كما
قال أبو حامد الغزالي. فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً
وارزقنا اجتنابه.
المحاجة هي: المجادلة بين اثنين فأكثر, تتعلق بالمسائل
الخلافية, حتى يكون كل من الخصمين يريد نصرة قوله, وإبطال قول خصمه، فكل واحد
منهما, يجتهد في إقامة الحجة على ذلك، والمطلوب منها, أن تكون بالتي هي أحسن,
بأقرب طريق يرد الضال إلى الحق, ويقيم الحجة على المعاند, ويوضح الحق, ويبين
الباطل، فإن خرجت عن هذه الأمور, كانت مماراة, ومخاصمة لا خير فيها, وأحدثت من
الشر ما أحدثت، فكان أهل الكتاب, يزعمون أنهم أولى بالله من المسلمين, وهذا مجرد
دعوى, تفتقر إلى برهان ودليل.
فإذا كان رب الجميع واحدا, ليس ربا لكم دوننا, وكل منا
ومنكم له عمله, فاستوينا نحن وإياكم بذلك.
فهذا لا يوجب أن يكون أحد الفريقين أولى بالله من غيره؛
لأن التفريق مع الاشتراك في الشيء, من غير فرق مؤثر, دعوى باطلة, وتفريق بين
متماثلين, ومكابرة ظاهرة.
وإنما يحصل التفضيل, بإخلاص الأعمال الصالحة لله وحده،
وهذه الحالة, وصف المؤمنين وحدهم, فتعين أنهم أولى بالله من غيرهم؛ لأن الإخلاص,
هو الطريق إلى الخلاص، فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان, بالأوصاف
الحقيقية التي يسلمها أهل العقول, ولا ينازع فيها إلا كل مكابر جهول، ففي هذه
الآية, إرشاد لطيف لطريق المحاجة, وأن الأمور مبنية على الجمع بين المتماثلين,
والفرق بين المختلفين.
أما المعجزةُ العظيمةُ التي آتاها اللهُ -تعالى-
لنبيِّنا -عليه الصلاة والسلام- التي تَبقى إلى قيامِ الساعةِ التي بَهَرَ الله -تعالى-
بها الأولينَ والآخِرين وأعجزت البُلَغاءَ، وحَيَّرَتْ الشُّعَراء، وأذلَّتْ
كثيراً من الحُكَماءِ، والتي لا تزالُ إلى اليومِ لها أثَرُها على من يَفهَمونَ
العربيةَ ومن لا يَفهمونَها، تلكَ المعجزةُ هي التي قالَ اللهُ -جَلَّ وعلا- عنها:
(وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ
عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ)[العنكبوت:50]، ثم قالَ جلَّ
وعلا: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى
عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ)[العنكبوت:51].
أما يَكفيهم القرآنُ ليكونَ حُجَّةً، وتَصديقاً ومُعجزةً
وبَيِّنَةً تُبَيِّنُ أنَّكَ نبيٌّ مبعوثٌ من رَبٍّ -جَلَّ وعلا- في السَّماءِ،
ولِذلَكَ جعلَ اللهُ -تعالى- هذا القُرآنَ مُعجِزَةً ظاهرةً تَبقى للناسِ جميعاً
وتُتلى بَينَهم.. وقد مَدَحَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قُرَّاءَ القرآنِ وأثنى
عليهم؛ فقد جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه جلسَ يوماً إلى أُبَيِّ بنِ كعبٍ
-وكانَ أبيٌّ -رضي الله عنه- قارِئاً للقرآن بارِعاً في تِلاوَتِهِ صارِفاً فيهِ
آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار-، فجلسَ النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- إلى أبيٍّ ثم
قال له: "إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا" فانْتَفَضَ أبيٌّ قال: يا رسولَ اللهِ وسَمَّاني اللهُ
لك؟ -يعني هل قالَ اللهُ اقرَأْ على أحدِ أصحابِكَ فأنتَ اختَرتَني أم أنَّ اللهَ
-جلَّ وعلا- في مُلْكِهِ العظيمِ وفي عُلاهُ وفي جَبروتِهِ سَمَّاني لك، اختارَني
من كلِّ المخلوقاتِ ليَجريَ اسمي هناك ولِيَتَكَلَّمَ اللهُ باسمي؟- قال: يا رسولَ
اللهِ، وسماني اللهُ لكَ؟ قال: "نعم"، فانفجرَ أبيُّ باكِياً(متفقٌ عليه).
**كاتب المقال
دكتور القانون
العام والاقتصاد
عضو المجلس
الأعلى لحقوق الانسان
مدير مركز
المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية
مستشار وعضو مجلس الإدارة بالمعهد
العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا
مستشار الهيئة
العليا للشؤون القانونية والاقتصادية بالاتحاد الدولي لشباب الأزهر والصوفية
مستشار تحكيم
دولي محكم دولي معتمد خبير
في جرائم امن المعلومات
نائب رئيس لجنة
تقصي الحقائق بالمركز المصري الدولي لحقوق الانسان والتنمية
نائب رئيس لجنة
حقوق الانسان بالأمم المتحدة سابقا
عضو استشاري
بالمركز الأعلى للتدريب واعداد القادة
عضو منظمة
التجارة الأوروبية
عضو لجنة
مكافحة الفساد بالمجلس الأعلى لحقوق الانسان
محاضر دولي في
حقوق الانسان
0 comments:
إرسال تعليق