قرأتها مرات.. لأنها اجتذبتني بشدة..وأصارحكم بترددي.. ولكن مثل هذه القصيدة لم تطاوعني نفسي دون أن أعلق عليها لا من باب نقد فشاعرتنا تمتلك من الفصاحة والبلاغة وحسن السبك والنظم ما لا يخفى على أهل العلم.. فتقحمت على بركة الله هذا المضمار الحرج كما أحرجني من قبلها حين مررت مرور الكرام على قصيدة(هو الدم.. يا علي) لمؤسس هذا الصرح الأخ الدكتور ابو آشرف الخفاجي ... وإليكم أحبتي خواطري المتواضعة معتذرا عن كل تقصير
الحاج/ أبو ايمن..الخادم الفضلى
.............................................
" حكايةُ جُرح
"
………………
(1)
…….
وهي حكاية رسمت رحلة ما بين حيوية
الشباب وعنفوان المشاعر وبين خطاب العقل والبلوغ ورزانة وحكمة الكبار.. حكاية
تنتجها مشاعر شخصية تحمل في طيات أعماقها وسرائر ذاتها وكنه وجودها تجربة حياة غير
عابرة ذات أبعاد وعبر وتلك التجربة بضخامتها أجتمع فيها الوجع الإنساني لكل فئات
العمر من أول نبضة قلب تراقصت لأحاسيس الحب وأمل الوفاء إلى آخر المشوار حيث ينفتق
ذلك الجرح الكبير في قلب وسع المودة بأفقها اللامتناهي وحتى صدمته خناجر غدر كان
قد وعاها منذ أول لحظة فخلص في آخر المشوار للإلتفات إلى ما يهم هذا الإنسان واصفا
المصير ببصيرة ثاقبة وشارحا لنا بطريقة أستاذ الأساتيذ في تبسيط المعادلة لكلا
طرفيها والوصول لنتائجها بدقة عالية وحكمة متناهية.. فكانت (حكاية جرح).. حكاية
مجتمعنا بعد أن عصفت بالنفوس رياح جديدة
غريبة مكوناتها فضيعة آثارها..
وحين يحكي الجرح قصته لا يحتاج إلى
شهود ولا إلى محلل خبير لتفكيك الحكاية لأنها ستكون خارجة من العمق ومن قلب الحدث
فإذا كان اللسان معرضا للإشتباه أو المبالغة أو القصور في رسم الحقيقة فإن الجرح
وحده سيكون قادرا لتوصيف الأحداث توصيفا تاما لا خطأ ولا خطل فيه بما لا تستوعبه
كل لغات العالم..... وتذكرني هذه الحكاية بملحمة كبرى ورائعة من عيون الشعر لشاعر
العرب الكبير محمد مهدي الجواهري بعنوان أخي جعفر ، يرثي فيها أخاه محمدجعفر الذي قتل في معركة
الجسر ، ويقول فيها :(( أتعلم أم أنت لا تعلمُ .... بأن جراح الضحايا فمُ فمٌ ليس
كالمدعي قولةً ....وليس كآخر يسترحم.. يصيح على المدقعين الجياعِ أريقوا دماءكم
تُطعموا.. ويهتف بالنفر المهطعينَ أهينوا لئامكم تُكرموا... ))
.................
لذا وبحرص شديد أطلقت شاعرتنا من
أعماق قلبها وواقعيتها في صدق. المشاعر والخطاب المخلص بلا تصنع ولا تزييف '
تحذيرات أمان لستر الحال لأنها تدرك أن الجرح إذا تحدث فسيكشف ما لو تم ستره لكان
أنفع لكل الأطراف.. لا سيما للطرف الجارح في المعادلة المرسومة من لهب ودم وربما
سيلحق السائل عن ذلك الجرح ما يؤذيه حتى وإن لم يكن طرفا وكان سؤاله بريئا.. فتقول
:لا تفتح الجرح... ويبدو أن ذلك الجرح مرت عليه يد الزمن بمرهم من تراب وإبرة من
التحمل لتغلقه كيفما اتفق.. فلا تفتح الجرح..دعه خامدا ففي إيقاظه ثورة بركان لا
تحمد عقباها ورب صمت أعلى من صراخ ورب سكوت يستبطن هياج والهدوء يسبق العاصفة..
...............
وكم من جراحات لنا لو تترك لحالها
لكي لا تضطرم نارها ولا تتفتق من جديد.. فلعلها لو تركت لتماثلت لتندمل شيئا فشيئا
فالزمن كفيل بعض الحالات بإخماد لهبها.. ومداواتها..
وأجد هنا أثارة من علم نفس إلى جنب
ألمعية في البلاغة وفصاحة الألفاظ - فالمرء العاقل كلما حاول إصمات جراحاته
وتناسيها كلما تماثل للشفاء من طعنات أقعدته لينهض من جديد قويا متماسكا فإن
الحياة لا تتوقف والشخص القوي في بناء ذاته الحريص على تفعيل قدراته الساعي إلى ما
يراد منه وبه في هذه الحياة فإنه يتوكأ على جراحه لينطلق مرة أخرى ويصنع منها
قاربا للعبور وسط نهر دمائه.. حتى يصل ضفة آماله..
وثمة شيء آخر يكمن وراء هذا النهي
الممزوج بالألم بأن لا تفتح الجرح.. فربما لا يفهم لغته إلا صاحبه أو من كان مثله.
لا تفتح الجرح... إن الجرح منفصم..
منفصم ولم يكن منقسما.. منفصم لأن صاحبه كان يقاوم ويكابر ولم يستسلم من أول
طعنة.. الشيء الذي ينفصم ويتباعد جزءاه فيه صفتان : المقاومة والليونة أو المرونة
بالمصطلح الفيزيائي.. نعم فيه مقاومة ومرونة فهو يأخذ وقتا بيد فاصمه أو تحت خنجره
ليظهر عليه أنه انقسم بعد جهد وإصرار وعنف من حامل خنجر كان يخفيه تحت لسانه أو
وراء نظراته ويغلفه بكلمات معسولة تشيد قصرا من سراب ووعود خلابة لحياة لا خطوات
باتجاهها فهي وهم على وهم..
(لا تفتحِ الجُرحَ إنّ الجُرحَ
منفصمُ
شطرٌ بهِ لهبٌ
شطرٌ غزاهُ دمُ) :
ولأن ذلك الجرح من لهب ودم.. فهو
يفور كما لو كان لتوه رغم أنه يبدو قد أطبق طرفيه ليعض على أوجاعه
بصمت................
(2)
…...
(من أدمنَ الهجرَ لا تطلب مودّتَهُ
شَحتُ المودّةِ فيهِ الذّلُّ
والنّدمُ)
وهذه حكمة عالية ووعظ بليغ.. فإن من
تجهد نفسك في وصاله وتركب الأخطار للتواصل معه وهو يتجاهلك في كل مرة وتعود للمرة
الثلاثين وتتمها بعشر فلا يقابلك بواحدة وجميل ما قيل :((ومن البلية أن تحب.. ومن
تحبه لا يحبك.. أو أن تزوره كل يوم فلا يزورك أو يغبك.. ومن البلية أن تحب.. ومن
تحبه يحب غيرك.. أو أن تريد الخير للإنسان وهو يريد ضيرك..)).. فإذا توالى الهجر
صار إدمانا وعلاج الإدمان صعب على المداوي مستصعب على صاحبه..
وتذكر شاعرتنا المبجلة بأن كرامة
المرء فوق كل شيء واستجداء المودة وتسول
الحب في أبواب المنشغلين بأنانيتهم القابعين في قصور وهمهم وتكبرهم الزائف
وغرورهم التافه بدنياهم التافهة.. ففي ذلك مذلة يعقبها ندم لا محالة.. وهذه تجربة
واقعية ربما مر بها كل ابن حواء.. …
……………………
(3)
…...
(لا تشتكِ الحالَ من ضعفٍ ولا حَزَنٍ
كم شامتٍ فيكَ حالًا سوفَ يغتنمُ)
وتسترسل في مواعظها وحكمتها لتضع على
جرحها بلسما وتزيد قوة شخصيتها قوة لتقف كالجبل في مهب العاصفة فتأنف الشكوى لكي
لا تسلط على جرحها طعنات الشامتين
المتربصين بها لاغتنام أية فرصة لنفث سمومهم.. وكنت أقول (الشامتون لهم يا سيدي
مقل.. أعتى من الرمح في نظراتها المقل)..
……………………..
(4)
…….
(فالصّبرُ مكسبةٌ والبوحُ مَنقصةٌ
إنّ اللبيبَ الذي
بالعقلِ يَفتهِمُ) :
..............++........++.............
وحين تنهى عن الشكوى تبادر قبل أن
يسأل أحد :لا نشكوا ولا نبوح إذن ماذا نصنع؟.. إنه الصبر.. وما أدراك ما الصبر!!..
سلاح الأنبياء والأولياء.. فهذا القرآن يخاطب الحبيب المصطفى ((فَاصْبِرْ كَمَا
صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ
بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ))..
………………………..
(5)
…..
(دارِ الفؤادَ الذي في نبضِهِ وجعٌ
لا تسكبِ الزّيتَ فوقَ النّارِ
تَحتَطمُ)
وتؤكد شاعرتنا بحكمتها للتعالي على
الجراح حتى التعافي منه ومن أوجاعه فإن فؤاد المرء حرم لكل جمال وهو حرم الله
فمداراته ومداواته وجبت على من يقدس هذا الحرم وينقيه ويبقيه على طهارة فطرته
الأولى.. (.. فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ...).. والتشبيه والإستعارة السليمة تجعل الكلمات تنساق بسلاسة
دون تعثر أو تعقيد. وهذه هي الفصاحة وتلك هي البلاغة وهذا هو السهل الممتنع الذي
لا يوفق إليه إلا ذو حظ عظيم..
.................
(6)
(مثلَ اللهيبِ الذي في البحرِ
مُشتعلٌ
لا البحرُ يُطفؤهُ
والغيثَ يَلتهمُ)
وتترقى متصاعدة في تشبيهاتها لتركز
الحكمة والموعظة للمتلقي.. فتشير هنا إلى حقيقة علمية أشار لها القرآن من قبل
((..وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ..))..ووجود النار في المياه بحث علمي له
تفصيله.. وأحسنت شاعرتنا كثيرا حيث اختارت هذا التشبيه لتوحي إلى أن القلب ممكن أن
يتسع كالبحر ويحفظ في مكامنه اللئالئ والمرجان.. ويتسم بنعومة ونداوة مائه في
الوقت الذي يحمل في مكوناته نارا مضطرمة فلا ماؤه يطفؤها ولا المطر يمثل شيئا
لأعماقه وسعته بل أن المطر من جنس ذلك البحر وهو أصله وإن تسامى..
.....................................
(7)
…...
(لا يحرقُ الجمرُ إلّا جسمَ حاضِنِهِ
لا يصرخُ الآهَ
إلّا من بهِ ألمُ) :
و تتوالى الصور الجميلة في سبكها
وألوانها، المؤلمة في إشاراتها وإثاراتها.. وباستطاعة شاعرتنا أن تقول :لا يحرق
الجمر إلا كف صاحبه.. ولكنها قالت :لا يحرق الجمر إلا جسم حاضنه.. وهنا إشارة لحجم
وسعة جرحها وتأججه واحتضانها له وكأنه كان بملء إرادتها واختيارها.. وهذا مما يزيد
الحزن حزنا والألم ألما حتى يتميز الصراخ الناجم عنه عن صراخ المرائين والمخادعين
فلا آه حقيقية إلا تلك التي تعلوا من بين شطري جرحها أو من هو مثلها..
............. ++........
++...............
(😎
…...
(لا تظلمِ الجُرحَ إن هبّت مواجعُهُ
شكوى الكريمِ هوانٌ كُلّها ضرمُ) :
هو وحده صادق في خبره مفتن في وصف
وجعه.. إنه فم الجرح.. فإن طفحت آلامه فدع الحديث له وحده ولا تظلمه بالتشكي والتأفف
فإن شكوى كريم النفس عزيزها هوان على كل حال ووجع إلى وجع... وقد أسلفت أن الدواء
الناجع هو التصبر فإنه محمودة عواقبه..
………………………
(9)
….
(إدفن جروحكَ إنّ الجُرحَ مُرتهنٌ
إن لم تبح صُنتَهُ كالسّرّ ِ يُكتَتَمُ) :
وهنا إشارة واضحة وترابط تام ومكمل
لما سبق من المعاني والصور.. فكما أن كتمان السرائر من الملكات الكمالية الراقية
والمتعذرة على من هانت نفسه وضعفت شخصيته.. فكذلك أن تخفي جرحك عن الآخرين فذلك
ملكة تضيف لك كمالا نادرا..وقد نهي عن الشكاية للغير من البلوى.. كما نهي عن إفشاء
السر.. وما أجمل ما ورد في القول المنسوب
لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام :
إذا ما المرء لم يحفظ ثلاثا.. فبعه
ولو بكف من رماد... وفاءا للصديق وبذل مال.. وكتمان السرائر في الفؤاد......
............ ++.........
++...........
(10)+(11)
……..
(لا البوحُ يُشفيكَ من همّ ٍ ولا
وجعٍ
هوّن مَصابًا
إذا ما ماتتِ القِيَمُ
هذا
الزّمانُ الذي أيّامُهُ
نكدٌ.
وحلٌ دوائرُهُ إن دارتِ
التُّهمُ) :
وتصل شاعرتنا إلى القمة في المقارنة
والتقابل هنا : فلا البوح ولا النوح ولا الشكاية تعالج الجراح وتنفي الهموم.. كما
أن كل أوجاعنا والبوح عن أعماقنا لا يجدي نفعا ولا يجد أذنا واعية طالما أن القيم
قد ماتت.. وأرى أن هذا هو الأنكى والأنكد والأوجع لما أصاب مجتمعاتنا.. فحين تموت
القيم وتتحجر الضمائر فعلى الحياة السلام وعلى الأنسانية فليبك الباكون لان
المجتمع إذا فقد القيم فقد فقد كل ما يمت للإنسانية بصلة وقضى على كل فضيلة بل
الأشد من ذلك أن تصبح الرذيلة فضيلة ويستبدل الفجور والخيانة بالعفة والوفاء .
وبستبدل الصدق بالكذب ويلبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا.. كما وصف أمير المؤمنين ذلك
في بعض خطبه يصف أهل( هذا الزمان.. على ما أرى) :(وَكَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ
ذِئَاباً وَسَلَاطِينُهُ سِبَاعاً وَأَوْسَاطُهُ أُكَّالًا وَفُقَرَاؤُهُ
أَمْوَاتاً وَغَارَ الصِّدْقُ وَفَاضَ الْكَذِبُ وَاسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ
بِاللِّسَانِ وَتَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ وَصَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً
وَالْعَفَافُ عَجَباً وَلُبِسَ الْإِسْلَامُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً)..
..................
(12)
…...
(لا تَنكسر إن رماكَ الحاسدون دمًا
كم ناجحٍ قد رماهُ الحاقدُ العدمُ)
وتشمخ شاعرتنا أكثر فأكثر حتى تدع
تعيد سهم الحاسد إليه بنهيها عن الإنكسار فقد كان في العرب أن إذا رمى الرجل عدوه
سهما وأعاده العدو عليه مدمى (عليه الدم) أخذه ووضعه في كنانته تبركا به لأنه سهمه
الذي أصاب به العدو.. وهذه الفروسية إن وجدت في فكر امرأة فهي من أولئك اللاتي
حفر التأريخ أسماءهن في ذاكرته بحروف من
نور ... فهي امرأة لا تعرف الإنكسار..
ويؤكد هذه الحقيقة أولئك الناجحون
الذين تسلقوا الذرى رغم تكاثر رمي الحاقدين وشرورهم....
…………
(13)
…...
(لو أطبقَ الفاهَ
لم تَسكُن مآربُهُ
غدرًا يسيرُ
كما الثّعبانِ يَلتَهمُ)
وتسترسل في وصف الحاسد الحاقد فهو
وإن لم ينطق بكلمة أو يفصح بشيء مما يغتلي في صدره فأنه ستبقى مآربه لأنه والعياذ
بالله صفة الحسد والحقد إن تغلغلت فإنها كالأتون بل كالمرجل يحرق من حوله بمجرد أن
تتوجه ألسنة نيران شره..فيتعقب فريسته كالثعابين الملساء تنساب بهدوء وبطريق متعرج
حتى تلتف وتنفث سمها في الهدف بعضة الحنق
والحقد... وهذه الصورة البشعة تناسب الحاسد الحاقد.. وخطره أشد لا ينجو منه القريب
ولا البعيد..
…………………….
(14)
…….
(حَصّن ضلوعَكَ عن عبءٍ يُباغتُها
لو خابَ ظنٌّ بمن للوِدّ ِقد هدموا)
ولكي تتلافى ذلك الخطر المباغت في
أية لحظة.. تقول شاعرتنا :حصن ضلوعك.. وتريد ما تحت الضلوع وهو القلب الذي هو إن
طاب طاب كل شيء في المرء وإن فسد فسد كل شيء لذا ورد وصفه في القرآن الكريم (ولا
تخزني يوم يبعثون*يوم لا ينفع مال ولا بنون *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ) ذلك القلب السليم في وصف الإمام الصادق عليه السلام (قال: القلب السليم
الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه، قال: وكل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط وإنما
أرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة)..
وواحدة من أجل حصانة هذا القلب هو
إبعاده وابتعاده عمن يهدمون المودة في كل مرة ترممها وتعيد بناءها.. أمثال هؤلاء
الإنشغال بهم أو معهم تضييع للوقت وكما قيل :((دقات قلب المرء قائلة له.. إن
الحياة دقائق وثواني..)).. فالعاقل من لا يضيع وقته الذي هو عمره القصير
المتناقص...
………………………..
(15)
……….
(إن حاكموا مُهجةً لاذوا بِتَصفِيةٍ
طعنًا ومن قسوةٍ جاروا وقد
ظَلَموا)..
وأمثال هؤلاء غير منصفين حتى في
المناقشة أو المعاتبة يحكمون جورا دون الإستماع لدليل ولا فرصة لتبرير.. فقد جبلوا
على القسوة والظلم.. لذا لا طائل منهم ولا نائل...
…………………
(16)
…….
(يا قلبُ لا تبتئس من حاقدٍ بَرَقَت
أسنانُهُ كِذبَةً
بالماءِ تَصطَدِمُ) :
وتعود شاعرتنا تحاور ذلك القلب
المجروح فهو محور الحكاية وميدانها وراويها.. وتختار لطمأنته وتطييب الخاطر لئلا
يبتأس من زيف مكشوف كتكشيرة كاذبة ترتسم في وجه الماء......... +... +...
+......... .
(17)
…...
(فالصّبرُ لا صبرُ إن هُزّت
مداركُهُ.
قولٌ وفعلٌ إذًا في وصفِهِ عَلَمُ)
وتربط مدارك الإنسان بصبره وتشترط
لصدقه بعدين :بعد عملي وبعد قولي، وهذه معادلة ذكرتها الأحاديث الشريفة أذكر
طرفيها بمقدمتين منطقيتين : المقدمة الأولى : (عن أبي عبد الله (عليه
السلام)(الإمام الصادق) قال: الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب
الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الايمان.)..
المقدمة الثانية :قول الإمام الصادق
عليه السلام (الايمان هو الاقرار باللسان وعقد في القلب وعمل بالأركان).. وبمعاملة
المقدمتين مع بعضهما واختصار المتشابه انتج حقيقة أن الصبر قول باللسان وعقد
بالقلب وعمل بالأركان.. وهذا ما أشارت له شاعرتنا في شطر هذا البيت (الصبر =قول
+فعل = علم وهذا العلم هو صاحب القلب السليم....
…………………..
(18)
…..
(فالنّارُ آكلةٌ
قلبًا لشاعِلِها
نحوَ الإلهِ
فسر تَنجو وتغتنمُ) :
وبعد عنفوان الحكاية تصل شاعرتنا إلى
قمة ما ينبغي أن يقوم به السالك إلى غاية الغايات فيراجع تلك النفس ويحاسبها ويسير
به نحو بارئها لتعود حيث بدأت وكما بدأت سالمة غانمة.. فالحق تعالى منه المبتدى
وإليه الرجعى والمنتهى (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ
المنتهى) (إنا لله وإنا إليه راجعون) هكذا قال الحق تبارك وتعالى وفي هذا الطريق
فحسب يسلم المرء إن كان عاقلا (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ
قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)
. ..... +... +..... +....
(19)
….
(خيرُ اﻷمورِ التي من كان صاحبها
في عِرضِهِ سالمٌ في فعلِهِ الشّيمُ)
:
......................
تذكرني بقول السموأل ((إِذا المَرءُ
لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ
فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ))..
غير أن شاعرتنا أجادت وفاقت عليه لأنها ربطت بين سلامة العرض وفعل الشيم وهي مكارم
الأخلاق وهذا وصف متناسب تماما مع من يسعى نحو الكمال.
..............
(20)
…...
(لا شّرَّ يدنو لهُ لا
حقدَ يَقرَبُهُ
يخشى الإلهَ وإن قد نالهُ اللممُ):
وتعدد هنا صفات الأبرار الذين لا
يخشون إلا الله ولا تأخذهم فيه لومة لائم
وأنهم (لا يصدر منهم الشر ولا يؤذون الذر). وإن طالتهم صغائر الذنوب.. كما
وصف القرآن الكريم ((الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ
إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ
أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)))
……………………………
(21)
……...
(يُحصي الذّنوبَ التي قد أورثت ندمًا
فالموتُ مُدركُهُ
والرّوحُ تُستلمُ) :
وهذه الحقيقة التي لا يختلف عليها
اثنان مطلقا ولكن ما أقل من يعمل بمقتضاها فالله هو المحصي والعبد راجع إليه لا
محالة ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ
فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ))..
(22)
…...
(تلكَ الضمائرُ لا رسمٌ يُصوّرُها
فاحذر ضميرًا إذا بالظّلمِ ينتقمُ) :
وتقف هنا حائرة في تصوير الضمائر
لكون أصحابها يظهرون شيئا ويبطنون خلافه.. كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في
ديوانه المنسوب إليه ((يعطيك من طرف اللسان حلاوة.. ويروغ عنك كما يروغ
الثعلب))..لذا تحذر شاعرتنا من أن مثل هذه الضمائر الميتة تغتنم الفرصة للإنتقام
دون أن تلتفت إلى عواقب الظلم الوخيمة..
……………………….
(23)
…...
(إلّا الذي
همّهُ مرضاةَ خالقِهِ
أبشر
بهِ رفقةً بالرّوحِ ترتسمُ) :
وتستثني من تحذيراتها المتوالية من
يسعى لمرضاة الله تعالى فمثله لا يخشى منه وهو الجدير بالرفقة والمودة والصحبة....
.....................
(24)
……..
(صافي الضّميرِ إذا حاكاكَ تعشقُهُ
ذاكَ الحليمُ الذي للغيظِ يكتظم) :
وتختم شاعرتنا بتقرير حقيقة أن صفاء
باطن الإنسان له الأثر البالغ في تولد الحب حتى يصل أعلى درجاته ومراتبه وهو العشق
هذا الأسم الجامع اللامع الذي يأخذ بصاحبه حد الذوبان والإنصهار فلا يرى إلا
معشوقه.. ولم لا وهو يحاكيك في أفكارك وذوقك وسلوكك فلا يكاد يختلف عنك وكأنكما
توأمان في الأطباع والميول وإن اختلفت ما في الشكل والصورة...
وخلاصة هذه القراءة العاجلة المقتضبة
لقصيدة (حكاية جرح) بأنها حكاية الإنسان وما يحمل من إرادة وقوى تمكنه من الإتكاء
على جراحاته لينطلق في أفقه الرحب من جديد.. فلو علم ما فيه من عجيب خلقة وعظيم
آيات لعاش في ستينياته بفتوة العشرين وإن كان في عشرينياته لعاش حكمة وخبرة أهل
الستين ففي خلق هذا الإنسان قوى خارقة وقابلية التكيف والتغيير وله قلب يسع بنقائه
حب بني الإنسان لإنسانيتهم ويلفظ من ساحته من نهى عن طاعته القرآن الكريم ((وَلَا
تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ *هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ *مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
*عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ))....... +++......... +++...
*جنوب العراق/4/7/2021
0 comments:
إرسال تعليق