ربما لم نكن ندرك من قبل أن للزمان فماً ذا أضراس تهثم الأحياء ، حتى أطل الوسمي علينا بجسده الكليل فكان خير شاهدٍ لزمان عاتٍ، فمن صروفهِ عرف الرحيل ومعناه ، وبه اصاب علو اللسان ومغناه ، وفيه أجاد قوة الأداء بحديث عن الأسلاف الأحبة وماالتذّ منهم من خصيصاتهم ، ومااستطعمه فيهم من حكاياتهم ، ومااستمرأ من خلة لهم طويلة ، وصحبة معهم جميلة .
ولعل الأيام وسبلها المتشعبة هي
ماجعلت شاعرنا يشكو ما ألمّت به يد القدر العابثة في ركن مهشم ، وما رسمته الغمائم
في صفحة سمائه ذات الستين حولاً ، إذ ليس في كل مفاتن الطبيعة وروائع الحياة
مايحرك باطنه إلا لعنة الدهر ودواهي الأيام التي أرَته في نفسه وهناً من بلوى ،
فلاينقذه مما منَته ُ صنوف البلاء بغدرٍ حاضر وأمانيّ مسلوبة سوى العودة الى الرب
الذي يرفع عنه الخمول والحسرة أينما وجدهما فيه ، وهو يرى في ذلك الرب نوراً يعصمه
من غرقٍ بطوفان الأوحال النفسية مدفوناً بقبرٍ في بُكمهِ العجيب ، وأي بُكمٍ أعظم
مما أصيب به شاعرنا المنكود الذي لايكفيه النطق ما بين غواية وهداية ، ومابين طلولٍ وذكرى ، وأكذوبةٍ كبرى .
فهو على الرغم من معرفته بأن الشعراء
يتبعهم الغاوون إلا أنه اعتزم أن يكون شاعراً ، وهو عليمٌ بأن من أراد ان يدين
بدين الشعر فعليه أن يجول في ميدانِ ذهنٍ
مشبوب ، وعواطفَ سخية .
لقد جال شاعرنا في شوارع الأدب حاملاً على كتفه الخائرة قيثارة ً
لطالما أطربتنا بها أنامله المحنّاة بالآه ، وأوجعتنا بما يلُوح في قسمات محيّاه ،
من أسى وشكوى ، وهو يتنقل مابين ليلٍ أحكم اوقاته عليه ، ونهارٍ غادره ُ كخاطرة
مرت عليه بسرعة البرق الخاطف ، وقد أحاط بصروف الدهر ، واطلع على قدرٍ بما تواري
له ايامه بعض جروحه من شظاياها التي استقرت في جسده الخامل ، وطعناتها العديدة
التي انتثرت في وجهه وقفاه كما لو كان فلاح ٌ ينثر بذوره في أرضه .
ولشاعرنا الوسمي طرس بأصداء متقطعة ،
وقلم بأصوات مبحوحة ، فقد ألمّت به فاجعة
، وهاج به الوجد حتى لَيُخيَّل إلينا لكثرة شكواه أنه هو المنعيّ لا الناعي
.
ويعدو الوسمي في غياهب فم زمانه الذي لاينصفه ، حتى اذا تظاهر له
بالإطمئنان كان له حِمام البين بالمرصاد ، فيفطن إلى أن ارتياحه له كان رهناً
لأوهام دانية راودته فعرف أنها العلة التي نخرت حياته سنة بعد سنة ، هذه العلة
التي كانت تسقمه بألف حجة دون ذنب اقترفه
سوى أنه هجر الكأس والشادي ، لاسيما أنه لم يكن محتاطاً لذلك الدهر الذي روّع فيه
جليلاً ، وقبّح في فمهِ لذيذاً ، وأحجمَ عنه متعةً سلوى ، وأعافه عن مستظرِف يلهى
، وقطع عنه ساعات بهجتهِ ، فجعله للديدان هزواً تقتتل للثأر منه ، وسخرية للنوى
الذي تجرّعَه ، فأسقاه كأس لوعةٍ ليصرعَه ، وربّاه ُ كسير َ قلبِ دون أن يرضعَه ،
واغتال دمعته في ظلمةِ جُبّ ، وقيّده ُ بسرابيل من قطران بحجةِ ذنب .
وفم ُ الزمان نفسه ُ قد نفح على (الوسمي
) بما جعله يحتسي الألم والمضض بديلاً عن الخمرة والدِعة ، وان كان في ما مضى
غرّيداً لعينَي حسنائه وقد اشرأب لها فؤاده في محرابها ، وبات يرتقب أجفانه في
أجفانها ، فكان غاية مايرجو في حياته أن يفوز بلحاظها ، تنسيه الليل إذا سجى ،
يخلد الى السكوت ليصدح شعراً ، ويحبس الدمع في عينيه ، وينأى بآماله به عن دائرة
القدر الضيقة .
إن الوسمي قد ورد شرعةَ غرامٍ تحدّر
فيه ، مابين حلمٍ حلمَه ُ ،
وعتاب ِ عاذلٍ لامَه ُ ، دون أن
يتحرج من أن يبلَّ طرف لسانهِ من معينهِ الفيّاض ، فاتسعت ْعنده مذاهب الشوق حين
هم ّ أن يبتدئ الحكاية ، وتعلّق في فضاء وجه معشوقته المشرق في ليل من تحت العباية
.
وخلافاً لما قيل أن أعذب الشعر أكذبه
... فقد كان شاعرنا أنموذجاً لشاعر امتهن وظيفته بصدق ، فأصبح بين فكّي الزمان بحق
، حتى لم يعد له حمل إلا أعياه ، ولا قصيدة
الا روت بؤسه ، بين كلمٍ حلو ، ومعنى صادق ، أذاقه جمراً ودرباً موحشاً دون
نجمٍ يهديه ، ولا حادٍ يحتديه .
0 comments:
إرسال تعليق