ربما لا خلاف كثير على طبيعة النظام الإيرانى ، ولا على دولته الدينية ، ومذهبيته الضيقة ، وديمقراطيته الصورية ، وترسانة صناعاته العسكرية الذاتية ، وجوهره القومى الفارسى ، وطبائعه المفرطة فى البراجماتية ، التى أكسبته توحشا فى النفوذ وخرائط التوسع ، وعلى حساب العرب الغائبين بالذات .
وربما لا جديد جوهرى يذكر مع فوز آية الله "إبراهيم رئيسى" الموصوف
بالتشدد بمنصب الرئاسة الإيرانية ، فالرئيس فى النظام الإيرانى معقد التكوين ، ليس
رئيسا بالمعنى المفهوم ، بل أقرب إلى وزير أول أو رئيس وزراء فى نظام رئاسى مطلق
فردى الصلاحيات ، وقد يدير بعض أعمال السلطة التنفيذية ، لكن ليس بوسعه اتخاذ قرار
أساسى ، لا فى السلاح ولا فى السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية ، ولعبة توزيع
الأدوار بين إصلاحيين ومحافظين فى السياسة الإيرانية ، محكومة أساسا بقرار المرشد
الأعلى ، الذى لا ينتخب من الشعب على أى صورة ، بل يجرى اختياره من مجلس كهنوتى ،
يسمونه "مجلس خبراء القيادة" ، الذى يعين المرشد نفسه نصف أعضائه من
رجال الدين ، إضافة لهيمنة المرشد المطلقة على الجيش والمخابرات والحرس الثورى
وقوات "البسيج" ، وعلى "سلطة القضاء" و"مجمع تشخيص مصلحة
النظام" و"مجلس صيانة الدستور" ، والأخير مكلف بفحص أوراق وتقرير أهلية
المرشحين لأى انتخابات برلمانية أو رئاسية ، أى التحكم من المنبع فى أى عملية
انتخابات ، وكما جرى فى آخر انتخابات برلمانية لمجلس الشورى ، ومن بعدها فى
الانتخابات الرئاسية الأخيرة ، وقد جرى شطب مرشحين بالآلاف فى انتخابات البرلمان ،
وبالعشرات فى انتخابات الرئاسة ، وبينهم أسماء بارزة ، عملت فى ظل نظام المرشد
نفسه ، كما جرى مع "أحمدى نجاد" الرئيس الأسبق ، ومع "على لاريجانى"
رئيس البرلمان فيما سبق ، ومن دون الحاجة لإبداء أسباب ، وقد كان قرار المرشد هذه
المرة ظاهرا من البداية ، بإفساح المجال لاختيار "إبراهيم رئيسى" ،
ونقله من رئاسة السلطة القضائية إلى رئاسة الجمهورية ، برغم خسارة "رئيسى"
للمعركة الانتخابية السابقة عام 2017 ، أمام الرئيس المنتهية ولايته قريبا الشيخ
حسن روحانى ، ويوصف روحانى بالاعتدال مقابل تشدد رئيسى ، لكن لا فارق سياسى يذكر ،
ربما سوى فى كاريزمية روحانى الشخصية ، وسوى فى تراجع نسب المشاركة الانتخابية
الأخيرة إلى أدنى حد منذ قيام ثورة الخمينى عام 1979 ، وقد كان رئيسى ـ كما روحانى
ـ من أبناء الإمام الخمينى المخلصين ، ونسبت إلى "رئيسى" فظائع مفزعة ،
ربما كان أقدمها ماجرى عام 1988 ، حين كان الرجل معاونا للمدعى العام فى المحكمة
الثورية ، التى قررت إعدام عشرات الآلاف من المعارضين دفعة واحدة ، لم يعثر بعدها
على أثر للضحايا ، لا على جثث ، ولا على شواهد قبور .
وبرغم إدعاءات أمريكا والغرب الكاريكاتيرية عن الديمقراطية وأولوية حقوق
الإنسان ، فلم نسمع سوى همهمات إعلامية انطباعية ، وتقارير موسمية للمنظمات إياها
من نوع "العفو الدولية" و"هيومان رايتس ووتش " ، بينما لم
يصدر عن واشنطن سياسيا أى اعتراض جدى على انتخاب رئيسى ، بل مجرد تعقيب لطيف من
متحدثة البيت الأبيض ، يقول أن الرئيس جو بايدن لا يخطط للقاء قريب مع الرئيس
الإيرانى الجديد ، بعد أن سبق "رئيسى" بتأكيد أنه يرفض لقاء بايدن ، ومن
دون أن يؤثر ذلك على مجرى مفاوضات فيينا ، التى تهدف إلى إعادة واشنطن للاتفاق
النووى الإيرانى ، ورفع العقوبات أو أغلبها بالجملة عن طهران ، واستعادة الأخيرة
لمئات المليارات من الدولارات ، والعودة إلى التصدير الحر لثرواتها الهائلة من
البترول والغاز الطبيعى ، وتهدئة التوترات السياسية والاجتماعية فى الداخل المأزوم
اقتصاديا ، ومن دون التخلى كلية عن الطموح النووى ، ولا إبداء الاستعداد لأى نقاش
فى برنامج إيران الصاروخى ، وشبكات نفوذها الإقليمى ، وحجة واشنطن ، أن القرار فى
يد المرشد ، وليس رهينا بسياسات تنسب روحانى ولا لرئيسى من بعده ، وهو اعتراف
وتسليم بالأمر الواقع فعلا ، ومقابلة للمصالح بمقتضى المصالح لا المبادئ المزعومة
، فهدف واشنطن كسب تواصل مع إيران برغم انقطاع العلاقات الدبلوماسية المباشرة
لأكثر من أربعين سنة ، وليس تركها حكرا لنفوذ "العدو" الصينى والروسى ،
خصوصا بعد اتفاقية ضخمة وقعتها إيران قبل شهور ، تتيح لها كسب 400 مليار دولار
استثمارات صينية على مدى ربع قرن مقبل ، ومقابل نفوذ لوجيستى وتجارى وعسكرى لبكين
ورفيقتها موسكو ، وهذا ما تتحسب له واشنطن ، وتضعه فى اعتبارها الأول ، ومن دون
التفات إلى صرخات أتباعها العرب الملتاعين على الشاطئ الغربى من الخليج ، ولا إلى
تسول عطف أمريكى صار بغير محل فى اللعبة الكبرى الجارية فصولها ، فالتشدد الإيرانى
يكسب أرضا ، وينوع فى فرصه مع الكبار ، بينما المتراخون العرب الخليجيون يخسرون
الجلد والسقط برغم مئات مليارات الدولارات التى دفعوها لواشنطن ، ويتخلى عنهم
سيدهم الأمريكى ، ويسحب قواته وبطاريات "الباتريوت" من أراضيهم ،
ويتركهم فى العراء الموحش ، نهبا لتحفز القوة الإيرانية المتنامية المجاورة ،
وسيطرتها على أربع عواصم عربية ، حتى لو سقطت الخامسة فى "غزة" من حساب
الأيام الإيرانية المقبلة بسبب عودة حائط الصد المصرى .
وقد لا يفيد البكاء ولا الولولة على اللبن المسكوب ، كما يفعل أيتام واشنطن
فى الحكومات والمعارضات إياها ، فحقائق الحياة لا تعترف بغير منطق القوة ودوراتها
، ولا مكان للضعفاء تحت نور الشمس ، وكل فراغ تتركه خلفك يحتله غيرك ، وقد وجدت
إيران فى الربع العربى الخالى فراغا مغريا فاحتلته ، ولم تكن مجرد مصادفة وقت ، أن
ثورة الخمينى قامت فى العام 1979 ، وهو نفس العام الذى عقدت فيه ما تسمى معاهدة
السلام المصرية الإسرائيلية ، التى كانت فى وقتها إشارة ظاهرة لخروج مصر من خط
المواجهة مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، فوق كونها بظروفها وتمهيداتها علامة أخيرة
على نهاية المشروع القومى العربى ، الذى كانت تقوده مصر ، وهو ما أتاح لصانع
القرار الإيرانى فرصة وراثة دور مصر فى المشرق العربى عموما ، وعلى خطوط الصدام مع
إسرائيل بالذات ، وتقوية ارتباطها ودعمها بالمال والسلاح لحركات المقاومة
اللبنانية والفلسطينية الإسلامية بالذات ، وهكذا تخفت طهران بمطامعها القومية
الفارسية الأصلية ، وصنعت لنفسها صورة القيادة الممانعة لاستسلام حكومات المنطقة ،
ثم كانت قفزة النفوذ الإيرانى الكبرى ، بعد دعم حكومات الخليج الثرية للمجهود
الحربى الأمريكى ، وتحريضه على احتلال العراق فى غزوة 2003 ، وتحطيم الدولة
العراقية جيشا وإدارة وتكوينا واقتصادا ، وهو ما انتهى إلى فراغ مضاف واسع مجاور ،
تمددت فيه القوة الإيرانية ، وحصدت ثمار الاحتلال الأمريكى المدعوم خليجيا ، وكسبت
نفوذا مسيطرا ، توسع بعدها إلى سوريا ، مع الحرب الطائفية الكافرة التى دارت ،
وطمست ملامح الهبة الشعبية السلمية الأولى التى انطلقت من "درعا" ،
ودفعت بأشباح وكوابيس التنفير والتكفير إلى خشبة المسرح الدموى ، ومن وراء أقنعة
دينية كذوب ، دعمها المال الخليجى بعشرات تلو عشرات المليارات من الدولارات ،
ونافست فى همجيتها ووحشيتها جماعة بشار الأسد ، وإلى أن احترقت سوريا ودمرت وتمزقت
شعبا وأرضا ، ولا تجد على أطلالها اليوم ، سوى جحافل الإيرانيين والروس والأتراك
والأمريكيين ، بيما لاحس ولا خبر عربى هناك ، فقد صرف العرب الأثرياء أموالهم
لخدمة الآخرين ، ولخدمة إيران بالذات للمفارقة ، ولعبوا أوراقا و"كروتا"
هدت حيلهم ، وأنفقوا تلال المال على حروب تكفير الشيعة ، فخسروا الشيعة العرب فى
المشرق والخليج ، وأضافوهم لحساب الرصيد الصافى لإيران الشيعية ، فالتشيع "الصفوى"
فى إيران ليس محض نزعة دينية ، بل قضية تماسك داخلى ، فى بلد متعدد القوميات
والأعراق البلوشية والآذرية والكردية والتركمانية والعربية وغيرها ، بينما لا تمثل
القومية الفارسية سوى مايزيد قليلا على ثلث إجمالى السكان ، ولم تكن للهيمنة
الفارسية على مصائر طهران أن تتم ، سوى من خلال تشيع دينى خاص ، جرى فرضه منذ عهد
الشاه إسماعيل الصفوى "الآذرى" فى أوائل القرن السادس عشر الميلادى ،
وصار يشمل نحو تسعين بالمئة من كل القوميات الإيرانية اليوم ، ويجعل المرشد الأعلى
على خامنئى ذى الأصول الآذرية ، فى وضع مبعوث السماء و"الولى الفقيه" ،
ونائب الإمام المهدى الغائب حتى يعود فى الأساطير الدينية ، بينما الواقع ينتهى
إلى شئ آخر ، يجعل خامنئى إمبراطورا فارسيا مطلق السلطات ، برغم جنسه "الآذرى"
، فالتشيع "الصفوى" إلى التشيع "الخمينى" ، هو الصورة المقنعة
الأحدث لهيمنة القومية الفارسية وبعث امبراطوريتها القديمة .
وكما تمددت القومية الفارسية الإمبراطورية الجديدة فى فراغ تركه العرب ، فإن تحجيمها أو تقليصها
يحتاج إلى عروبة من نوع مختلف ، إلى عروبة الحضارات لا عروبة الصحراوات ، وتلك قصة
أخرى على أى حال .
0 comments:
إرسال تعليق