• اخر الاخبار

    السبت، 20 مارس 2021

    الإختزال وعلم المنظور عند العراقيين القدماء ..بقلم : أ.د. هانيء محي الدين الحجحمد .



    ومن خلال البحث والتقصي حول ظهورهذه الظاهرة الفنية ( التقنية البحتة ) في أعمال الفن الرافديني بشكل عام ، فقد وجدت ان مثل هذه الظاهرة ( الأختزال ) قد ظهرت في اعمال فنية ( أشورية ) لشخصيات مختلفة من ألهه وملوك وضباط وجنود ، يحاولون الرمي بواسطة القوس والنشاب ، ويبدو ان الفنان قد حافظ على عدم اظهار الجزء الأعلى من ( وترالقوس ) ، وذلك لغايات تقنية وجمالية لتفادي حالة التشويه التي تحدث في وجوه هذه الشخصيات نتيجة مرور ( وتر القوس ) من خلالها ولدينا أمثله كثيرة على ذلك منها ، قوس الصياد الذي يظهر في ( مشهد صيد ) يعود الى ( القرن 8 ق.م ) في عهد سرجون الثاني ( اللوح 9 ب ) في قصر سرجون الثاني ( خرسباد ) ، ومنها الأقواس التي تظهر بايدي الجنود الأشوريين المهاجمين في مشاهد الحرب التي تظهر على بوابات بلوات في ( كار شلمنصر ) في ( القرن 9 ق.م ) ( اللوح 9 ج ) ، وأقواس أخرى كثيرة تظهر في مشاهد القتال التي زينت جدران القصر الشمالي الغربي في ( كالح ـ نمرود ) ( القرن 9 ق.م ) منها القوس الذي يظهر بيد الملك آشورناصربال الثاني وهو بحالة قتال فوق عربته ( اللوح 9 د ) ، واقواس مجموعة أخرى من المهاجين ( الضباط ) يقاتلون فوق عربتهم مثل المقاتل الذي يظهر في ( اللوح 9 هـ ) ، والقوسان اللذان يظهران بيد جنديين يهاجمان قلعة ( اللوح 10 آ ) واقواس اخرى كثيرة لجنود بحالة قتال يرمون من فوق القلاع مثل ( اللوح 10 ب ) ، كما يمكننا تتبع هذه الظاهرة في فن الأختام الأسطوانية من هذا العصر في ( كالح ـ نمرود ) ايضا ( اللوح 11 آ ) ، كما ظهرت هذه الظاهرة في قوس الأله أشور وهو بحالة القتال ( اللوح 10 ج ) ، كما ظهرت في منحوته من ( النحت البارز ) تعود الى نفس مدة ( حدود البحث ) تعود لملك يقاتل بقوسه فوق عربته في ( كركميش ـ القرن 11 ق.م ) (26 .161 ) ( اللوح 10 د ) . ومن الجدير بالأهتمام ونتيجة لتكرار هذه الحالة في فن النحت البارز الأشوري ، حيث يمكن عدها سمة مميزة من سمات ( التقنية الفنية ) لهذا الفن في الحضارة الأشورية بشكل خاص ، الا ان هذه الظاهرة لم تظهر في أعمال الرسوم الجدارية الأشورية ، اذ حافظ الفنان على أظهار الوتر كاملا على الوجه دون المساس بالناحية الجمالية له على انه يمثل خطا مرسوما يمر من خلاله ، وهذا ما يوضحه مشهد الصيد للملك أشور بانيبال ( اللوح 10 و ) . ويمكننا عدها من سمات ( التقنية الفنية ) الرافدينية ( العراقية الأصل ) بشكل عام ، وذلك لظهورها في عصور سبقت العصر الأشوري ، حيث ظهرت على قوس الملك ( نرام سن ) من العصر الأكدي ( 2230-2371 ق.م ) ( اللوح 11 ب ) . كما تأثرت فنون بلدان مجاورة لحضارة وادي الرافدين بهذه الظاهرة الفنية المميزة ، حيث نجد ذلك التأثر يبدو واضحا في فن الأختام الأسطوانية ( الأخميني )( 330-558 ق.م )( اللوح 11 ج ) .

    ويمكن تتبع ظاهرة ( الأختزال ) بشكل عام في مختلف عصور الفن العراقي القديم ، ونجد ذلك في أحجار الحدود الكشية ( القرن 12 ق.م ) ( اللوح 4 آ ) ، فتظهر لحية ( أله العقرب ) كاملة دون ان يمر( السهم ) من فوقها وذلك في محاولة من الفنان تفادي التشويه الذي يحصل فيها . كما يمكننا تتبع هذه الظاهرة او ما يسمى بحالة ( التراكب الشكلي الجزئي ) على انها تمثل نوعا من أنواع ( الأخنزال ) في عصور سبقت هذه المدة الزمنية ( القرن 11 ق.م ) ، ونجد ذلك في نماذج متعددة في الفن الرافديني القديم مثل أخفاء ( العجلتين الخلفيتين ) لعربة الملك في راية أور ( منتصف الألف الثالث ق.م ) . كما ظهرت في عصور لاحقة وخاصة في فن الرسم الجداري الأشوري ، حيث أظهرت الرسوم الجدارية في قصر ( تل بارسيب ـ الأقليمي ) هذه السمة بشكل واضح في أخفاء بعض اجزاء مفردات الموضوع مثل ( أخفاء الأيدي خلف الجسم ) او اخفاء ( الرجلتين الخلفية ) للعرش الملكي وأظهار ( الرجلتين الأمامية ) فقط ( اللوح 10 هـ ) أو أخفاء خيول متعاقبة وأظهار الحصان الأول فقط ) (*17) (اللوح 10 و ) او أخفاء العجلة الخلفية للعربات واالأكتفاء باظهار العجلة الأمامية فقط ( اللوح السابق ) . وباعتقادنا ان هذه السمة هي سمة رافدينية أصيلة من روح ( الأختزال والبساطة ) في الفن العراقي القديم ، واللتان ظهرتا في هذين العملين ( اللوح 9 أ ، 9هـ ) ، اي ان الفنان في هذين المشهدين ، لم يظهر بالحالة التي وصفها به ( اندري بارو ) فيذكر على حد قوله ( ان النحات يعجز احيانا عن اظهار وتر القوس وقاعدة السهم اللذين يجب ان يشاهدا فوق وجه رامي السهام )( 2 : ص104 ) . بل نعتقد ان الفنان كان يمارس هذا ( التقليد ـ الظاهرة ) عن معرفة للتراث الفني الرافديني وسماته الفنية المعروفة حيث لانزال نجد في هذين المشهدين سماتا فنية اخرى ماثلة امامنا مثل نحت الوجه بهيئته الجانبية والصدر امامي والجذع جانبي والرجل جانبية .

    وعودة اخرى الى المشاهد الأخرى والتي اظهرت بعض الشخصيات الأسطورية للميثولوجيا العراقية القديمة منها شخصية ( كلكامش وانكيدو ) وهما يحملان شعارا مجنحا بهيئة ( النسر فاردا جناحيه برأس قرص الشمس ) (18* ) ( اللوح 8 ب ) ، حيث تتضح سمة التناظر والتماثل في التكوين الفني لمفردات هذا المشهد ، كما ظهرت مشاهد اخرى تعبر عن اسد مكشر عن انيابه ( اللوح 8 ج ) ، يتقدم ماشيا ( بايقاع حركي ) معروف في الكثير من الأسود الرافدينية بحالة السير ، حيث تظهر مثل هذه الأسود في واجهات المعابد الأشورية مثل ( معبد سين ) في ( دور شاروكين ـ خرسباد ) وفي شارع الموكب في مدينة بابل ، ويعكس هذا العمل طبيعة الفكر الرافديني الذي ينتمي اليه الفنان ، والذي يؤمن بالحركة المستمرة بعدها حياة ، والسكون والجمود بعدهما موتا ، والذي أثر بدوره في مجمل النتاجات الرافدينية من خلال مواضيعها ومفرداتها ورموزها التي تعبر عن الأيقاع الحيوي للحركة المستمرة للحياة . ومنها هذه الأسود التي تكون بحالة السير بأيقاع واضح مميز . كما ظهر مشهد آخريمثل الأله ( تيشوب ـ أله العناصر ) ( اللوح 8 د ) الذي ظهر ملوحا بصولجانه وآلته الطقوسية ( عصا معقوف ) والتي يظهر ما يماثلها في المنحوتات التي ذكرت سابقا . كما يظهر مشهد آخر يمثل ( ثورا مجنحا ) هائلا ( اللوح 8 و ) براس بشري ملتفت الى الأمام حيث تظهر مثل هذه الألتفاته في فن النحت المدور في عصر الأنبعاث ( السومري ـ الأكدي ) ، وفي فن النحت البارز الأشوري كما في منحوتات قصر ( سرجون الثاني ) في ( خرسباد ـ القرن 8 ق.م ) .

    ولا بد ان نتوجه الى ما قاله كلا من الأستاذين ( اندري بارو وثروت عكاشه ) في كتابيهما ، حول اخفاق النحات في هذه المنحوتات وعجزه عن اظهار التفاصيل الدقيقة لمفرداتها ، وبأنها تنتقص لمهارة الفنان ودقته وتظهر عدم اعتناء في بعض الأحيان (*19) . الا ان الباحث يعتقد ان الفنان هنا محلي يتمتع ( بأسلوبه البدائي ) الذي يختلف عن أسلوب الفن ( الكلاسيكي ) الذي ظهر في العواصم الرافدينية المعروفة ، كما يظهر مقدرة فطرية في الأداء والتعبير وصفات جمالية مميزة في التكوين الفني لمفرداته من حيث التناظر والتماثل والأيقاع الحركي والحيوية ، فيقول ( هربرت ريد ) في معرض تحليله للفن البدائي ( بأنه ناتج عن الصفات المتعلقة بالأيقاع والتماثل والحيوية ، التي هي الصفات الجمالية بصورة متميزة )(7: ص38 ) وهذا ما أتصفت به هذه الأعمال بصورة عامة والتي جعلها تبدو فنا تعبيريا ورمزيا مؤثرا .

    ضمت المتاحف العالمية منحوتات اخرى لهذا الفن ( المحلي ـ الأقليمي ) والتي ظهرت في هذا ( القصر ـ المعبد ) ، تميزت بنفس روح الأسلوب ، تعبر عن مواضيع مختلفة منها :

    1 ـ مصرع خمبابا على يد كلكامش وانكيدو ، وهو يمثل مشهدا مستلهما من الميثولوجيا السومرية القديمة ( اللوح 12 آ ) وفيه تظهر سمات التناظر والتماثل في التكوين الفني وبشكل واضح ، كما يظهر المشهد ايضا احساس الفنان بما يشير الى فراسته في التعرف على اولى قواعد وقوانين المنظور المتعارف عليها بأظهار الرجل القريبة ثم تليها الأبعد ثم الأبعد كما في ( اللوح السابق ) .

    2 ) مشهد اسد يقف على ارجله الخلفية مكشرا عن انيابه ( اللوح 12 ب ) وحسبنا هنا ان نجد استلهاما فنيا لوقفة هذا الأسد اذا ما عدنا القهقري الى المدة السومرية ، فنجدها في تلك الوقفة لأسد يظهر في مسلة الأسود السومرية ( اللوح 12 ج ) ، كما نجد مثل هذه الأسود تتكرر بكثرة وهي واقفة ( تهاجم ) في فن الأختام السومرية والأكدية وفن النحت البارز الأشوري .

    3 ) مشهد أله مجنح ( اللوح12 د ) يظهر وهو يرفع رجله اليمنى محاولا الطيران بواسطة زوج الأجنحة التي يمتلكها .

    4 ) مشهد لصياد مع قوسه ( اللوح 9 أ ) ، تظهر ظاهرة ( الأختزال ماثلة للعيان في هذا المشهد وذلك ( بعدم اظهار الجزء الأعلى لوتر القوس على وجه الصياد ) للمبررات التي ذكرت سابقا . فضلا عن ذلك فأن وقفة الصياد تفصح عن تفكير الفنان في معالجة أحدى قوانين المنظور الرئيسية بأظهار الرجل ( اليسرى ) أقصر ( اي أبعد ) من الرجل اليمنى ( القريبة ) لأبراز حالة التهيء عند الصيد . كما تظهر مثل هذه القوانين في الشكل السابق ايضا ، وذلك لأظهار الرجل ( اليمنى ) أطول ( اي أقرب ) من الرجل اليسرى ( البعيدة ) للتعبير عن حالة الأله المجنح وهو يحاول الأنطلاق نحو الأعلى ( اللوح 12 د ) . ومثل هذه الحالة تنطبق على الرجل اليمنى للثور في مشهد ( صيد الثور ) ( اللوح 8 أ ) وعلى الرجل ( اليسرى ) للوعل في مشهد ( صيد الوعل )( اللوح 8 هـ ) . كما تظهر هذه الحالة أيضا في مشهد ( لثلاثة شخصيات اسطورية ) ( اللوح 8ب ) ، بما يوحيه لنا الفنان بأظهار الرجل اليسرى فتظهر وهي ( منثية ) لأسناد الثقل المركزي للجسم . وتتضح هذه الحالة ايضا بأظهار الرجل ( اليسرى ) لأنكيدو أطول من الرجل ( اليمنى ) ، وبأختزال واضح للفضاء الداخلي المتكون نتيجة أزدحام مواقع الأرجل ، فقد جعل الرجل ( اليمنى ) لأنكيدو تحط فوق الرجل ( اليسرى ) لكلكامش ، تفاديا لحالة التقائهما في موقع واحد .

    وهكذا يكشف لنا مشهد ( الشخصيات الثلاثة ) عن ميكانيكية عالية في حركة الأشخاص وحيويتها لرفع الشعار (20*) . اذ يحاول كلكامش رفع أذرع أنكيدو ويحاول انكيدو الشعار بكلتا ذراعه ، وبالتالي يرفع الأثنان معا الشعار بحركة ميكانيكية واضحة . - الكشف عن علم المنظور : انظر ( اللوح الاشوري والشكلين ادناه )

    5 ) مشهد فرقة موسيقية ( اللوح 13 آ ) ، وهو يمثل مجموعة من الحيوانات بحالة عزف ورقص ، أذ يعد مشهدا فريدا من نوعه لم يظهر مثله في تأريخ الفن الرافديني الا في مقدمة القيثارة السومرية التي وجدت في مقبرة أور الثالثة والتي صنعت قبل ألفي سنة من مدة نحت هذا المشهد ، وفي هذا احياء للتراث السومري القديم .

    وفي هذا المشهد سيكشف الباحث عن قواعد وقوانين المنظور التي استخدمها الفنان لتادية دور ذي اهمية قصوى في ترتيب مفرداته المكونه من ( مجموعة من صفوف الحيوانات ) المتعاقبة والتي تسير على أرجلها الخلفية وتمسك بالدفوف بحالة العزف والرقص كما في المحاور ( آ ، ب ، ج ، د ، هـ ، و ) والتي تعبر عن الخطوط العامة لتتابع الصفوف ( اللوح 13ب ) ، ويجد الباحث ان هذه المحاور تلتقي في نقطة تلاشي مركزية واحدة ( على الجانب الأيمن ) ، ويمكننا تثبيت ( الأفق او مستوى النظر) ايضا ( اللوح السابق ) . حيث تبرز الصورة النهائية للأنشاء التصويري لهذه المفردات المستندة في محاورها على اسس الأنشاء الشعاعي ، كما يمكننا تثبيت نقطتا المسافة ( ق ، ق )( اللوح14) . وبهذا تتضح قواعد المنظور وأسسه ، كما تتضح قوانينه الواضحة وبشكل رئيسي في المحور( ج ) ، حيث يمكننا تطبيق معظم النظريات الأساسية في المنظور على هذا المحور منها نظرية السلم القياسي المتلاشي ونظرية اختزال الأشكال وتقليل المسافة21*)) ، كما هو موضح في ( اللوح السابق ) ، فتظهر الحيوانات رقم ( 1 ) و ( 2 ) و( 3 ) بأنها تصغر في الحجم كلما ابتعدت عن عين المشاهد ، كما تقف بقية الحيوانات بحالة المنظور بشكل متسلسل حسب احجامها في المحور رقم ( أ ) و ( ب ) و ( ج ) ، بينما تظهر ظاهرة ( الأختزال في التراكيب الشكلي للمفردات ) في المحاور ( د ، هـ ، و ) فيظهر الفنان حيوانا واحدا فقط للتعبير عن بقية الحيوانات والتي يفترض ان تكون في صفه كما في الحيوان رقم ( 1 ) في المحور ( د ) والحيوان رقم ( 1 ) في المحور ( هـ ) والحيوان رقم ( 1 ) من المحور ( و ) ، اذ ان الفنان قد حرص على عدم أظهار بقية الحيوانات في هذه المحاور وذلك تفاديا لحالة التشويه التي قد تحدث للصف البارز والرئيسي من الموضوع وهو المحور ( ج ) نتيجة لتراكب الأشكال وازدحام المفردات ، ونستنتج من كل ذلك ان الفنان الرافديني ، كان سباقا في التعرف ومعالجة اولى قواعد المنظور وقوانينه ونظرياته التطبيقية في عصور سبقت عصر النهضة الأيطالية (22*) بمئات السنين .

     ملاحظة : حاولت التأكيد على الاشكال التي توضح اسس وقوانين ونظريات علم المنظور التي تعرف عليها الفنان الاشوري في الدولة الاشورية الوسطى ( 11 - 9 ق . م )في القصر المعبد في كوزانا - تل حلف ، ( لانها موضوعة البحث ) دون غيرها .

    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: الإختزال وعلم المنظور عند العراقيين القدماء ..بقلم : أ.د. هانيء محي الدين الحجحمد . Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top