أحياناً تهرب الكلمات منى ..ويعجز لسانى عن نطقها ..وتتحجر يداى عند كتابتها ،ويصبح عقل صفحة بيضاء ملساء ،وتُسلب ارادتى عندما أتعرض لحادث عارض ،ولكنه مؤلم لأحد معارفى أو أصدقائى أو أقاربى ؛ويتملكنى شعور رجل زاهد ضرب بالحياة الدنيا عرض الحائط ..فالصمت عنوانى ،وشرود ذهنى حالى!
وتتسربل دموعى على وجنتى فى صمت فتخط وجهى وتنزل إلى قلبى فتعسعس فيه حتى تجده محترقاً حزناً وألماً عما أصاب من نحبهم ؛فأحاول أن أتمالك نفسى ،ولكن الحزن بنى محراباً داخل قلبى يسبح فيه ؛فألجأ إلى المولى سبحانه وتعالى ..فرحمته وسعت كل شىء ؛فأصبر لحكم ربى .
فبالأمس القريب كان يمشى فى مناكب الأرض يسعى على لقمة عيشه .فأجده مستيقظاً فجراً يمرق إلى المسجد ليصلى الفجر حاضراً ..اسمع صوته يخترق سكون الهزيع الأول من الصباح -والأخير من الليل- بينما تخرج الطيور من وكناتها لتغرد وتوقظنا ..كلمات التهجد لله تخترق آذان النائمين ..فتسمعه مواشيه فتنطلق صيحاتها منتصبة وفرحة بِهلِوله عليهم ،فيضع الطعام لهم ويتركهم برهة من الوقت ويحلب أنثاهم ،وبعدها يذهب إلى حقله ممتطياً حصانه ؛وعندما تراه البذور فى الأرض ؛تستيقظ مرحبة به ،وتتسابق فى السلام عليه .
كان هذا حاله قبل أن يتملكه المرض ؛بعده أصبح كل شىء ساكناً ؛إلا من بعض قفشاته ليتغلب على مرضه ،فهو لم يملك إلا بضعاً من الفدادين ،ولكن إرثه الحقيقى "أولاده "،وحب الناس له ولأولاده .
فمن أحبه الله ؛احبه الناس ..ومن كان معه الله فلا يخشى شيئا فى تلك الدنيا الفانية .
النموذج الثانى..قضيت معه قرابة العشر اعوام ..عايشته وكنت اقضى معه ساعات أكثر مما كنت اقضيها مع أسرتى الصغيرة ..اقتسمنا كسرة الخبز سويا واختلفنا كثيراً ..واتفقنا أكثر ..وكان مبدأنا أن الإختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية .
توليت مقاليد امور جريدته ،ووصلت بها إلى مصاف الجرائد المحترمة ،وكانت مدرسة لتخريج الصحفيين ؛ وتخرج على يدى فيها مئات الصحفيين الذين يتبوأون مكانة فى جرائدهم الآن؛ومئات من الشعراء الذين لم يجدوا منفذا لنشر ابداعاتهم ؛أخذت بيدهم وفتحت ابواب الجريدة لهم ..ومنهم الآن أدباء وشعراء.
تعثرت كثيرا فيها وكانت الحرب ضدى أكثر ؛ولما لا.. فالنجاح له ألف عدو..وجدت فيه أبا روحيا لا يجود الزمان بمثله ..كنا نقرأ بعض من نظرات العين ..واجه معى تلك الحروب ولولا ثقتنا فى الله وفى كتيبة المحررين لما كُتِبَ لنا استمرارها حتى وفاته .
وعن بدايات مرضه الذى جاءه فجأة ..تغير صوته وشحب لونه وقتها ،وفزعت ووجدت اوراق التوت تتساقط ،وتملكنى شعور بالخوف عليه وقتها ،وكنت عندما أدخل مكتبه أشعر بقشعريرة فى جسدى فألملم أوراقى وأخرج مسرعا فأجلس على مكتبى ويتملكنى حزن دفين ..فالأحبة داهمهم المرض ؛ حتى استرد الله وديعتيه .
اعوام مضت على وفاتهما ؛واتذكرهما بين الحين والآخر ؛وكانت "الزمان المصرى" هى الملاذ لكتيبة المحررين الذين كانوا معى فيها ؛فمنهم من تزوج وتاه فى أتون الحياة ،ومنهم من صار على الدرب حتى الآن فى بلاط صاحبة الجلالة.
0 comments:
إرسال تعليق