المعادلة واضحة تماماً: بقدر ما يتخلى العرب عن موجبات عروبتهم وتتزايد اسباب فرقتهم متحولة إلى خصومة فعداء، تتعاظم قوة العدو الاسرائيلي ويصبح بإمكانه أن يفيد من انقسامهم للتعامل مع كل طرف منهم، سواء أكانت مملكة ام جمهورية ام امارة ام منظمة تستبطن “السلطة الفلسطينية” التي لا سلطة لها، بمعزل عن الباقين فتضيع “القضية المقدسة” وتتهاوى كإطار جامع، ويتفرق العرب ايدي سبأ..
هكذا تدرجت قضية فلسطين من منطلق للثورة، كان الأمل أن تشمل “اصحابها”، أي العرب جميعاً، إلى “منظمة” متعددة الرأس وان هي حافظت على وحدة القرار، أقله حتى اشعار آخر.
ولقد جاء التحول الجوهري سريعاً بعد “زيارة العار” التي أقدم عليها الرئيس المصري، وريث جمال عبد الناصر، انور السادات إلى الكيان الاسرائيلي ووقوفه امام الكنيست منادياً بالصلح وطي صفحة الحرب، وتكريس ذلك كله تحت الرعاية الاميركية في اتفاق كمب دايفيد.
سيقايض ياسر عرفات، بعد ذلك، مع الدول الصديقة: لا مانع من أن تعترفوا بإسرائيل بشرط أن تعترفوا بي وبحكومتي في المنفى (منظمة التحرير) كسلطة شرعية على ما يتبقى من فلسطين بعد “التخلي” لإسرائيل عن الارض التي احتلتها، غصباً، في العام 1948، أي عن الضفة الغربية وغزة..
في هذا المناخ، تم التوصل إلى اتفاق اوسلو، بينما قادة العرب مجتمعون في مدريد “للتفاهم” على قواعد الحل السياسي، واستباقاً لما قد يقررونه..
في العام 2002، وفي القمة العربية في بيروت، ادخل قادة العرب ـ بمبادرة سعودية ـ تعديلات جوهرية على مبادراتهم في القمم السابقة مقدمين تنازلات إضافية “طلباً للسلام”، وقد شارك ياسر عرفات عبر خطاب متلفز، موافقاً على المبادرة والتنازلات الجديدة.. طلباً للسلام المستحيل، طالما أن العدو الاسرائيلي يعتمد على تفوقه العسكري والدعم الدولي المفتوح لتحقيق مزيد من التنازلات بتواقيع القادة العرب جميعاً، المتطرف بينهم والمعتدل، في ظل وعود اميركية مبهمة حول “الحل السلمي المنشود”.
..ولسوف يرحل ياسر عرفات بعد مرض غامض كان منطلقاً لتكهنات عديدة تشكك في اسباب وفاته… وكان بديهياً أن يتولى محمود عباس (المفاوض الممتاز والذي انجز “الحل السياسي” عبر محادثات هاتفية بينه في اوسلو وبين رئيس السلطة في تونس) “السلطة” بعد “القائد ـ المؤسس”.
ها هو المشروع الجديد لتصفية القضية يطرح من قبل “السلطة” في رام الله، وهو يقضي بقيام دولة فيدرالية تضم اسرائيل والاردن والضفة الغربية ـ أي ما تبقى من فلسطين.
ولقد أظهرت اسرائيل تحفظها وان هي لم تقرر موقفاً نهائياً، في حين طلبت عمان مزيداً من الايضاحات.. أما محمود عباس فقد أوحى بأنه يقبل بالمشروع، مبدئيا، ولكنه لن يقرر قبل الطرفين الآخرين المعنيين!
ولا شك أن المشروع “طريف” اذ انه يوحد بين القاتل والضحية وشاهد الزور الذي سوف يستفيد من “الصفقة” من دون أن يتكلف شيئاً.
*****
معروف أن قضية فلسطين قد صارت في ضمير الغيب.. فقد تجاوز بعضهم قداستها وانشغل بعضهم الآخر في حروبهم الخاصة (حرب الابادة التي تقودها السعودية ودولة الامارات ضد شعب اليمن) او في تدمير دولهم (كما يحصل لليبيا ما بعد القذافي).. اما البعض الثالث فقد عاد يطلب الملجأ والحماية من مستعمره القديم، او من مستعمر جديد يفضل أن يكون اميركيا (امارة قطر). هذا في حين تغرق دول عربية أخرى في دماء ابنائها (سوريا اساسا، والعراق الذي يعيش نظامه في ظل توازن هش ينذر انفراطه او تصدعه بفتن طائفية وعنصرية في ظل الصراع على النفوذ بين الولايات المتحدة وإيران… بينما يعاني شعبه من الجوع والعطش، في ارض الرافدين ـ دجلة والفرات).
من يفكر بفلسطين، اليوم، غير شعبها الذي يخرج فتيته في تظاهرات يومية، ولا سلاح، فيحصد رصاص الاحتلال بعضهم، فيحمله الآخرون ـ مع الجرحى ـ ويشيعون الشهداء، ويودعون الجرحى الاماكن الشاغرة في المستشفيات القليلة ويعودون إلى التظاهر..
بالمقابل فان الانقسام بين الضفة (التي تخضع للسلطة، ولو نظريا) وبين غزة (التي تخضع فعلياً لـ”حماس” ومن معها من المنظمات التي ما تزال ترفع السلاح) قد وصل حد القطيعة، بل وتجاوزها إلى حد التهديد بالحرب، لا سيما بعد المفاوضات الاخيرة التي تمت بين القاهرة و”حماس” والتي انتهت، في ما يبدو إلى اتفاق.
*****
أية فلسطين هي التي يجري الآن، التفاوض من حولها؟
إن فلسطين التي يعرفها اهلها، فضلاً عن العرب والعالم، لم تعد موجودة الا في الوجدان العربي، وفي الملفات الدولية النائمة في المنظمات الدولية (الامم المتحدة ومجلس الامن)..
فلا “السلطة” هي فلسطين..
ولا “حماس” هي فلسطين..
.. وها هي وكالة غوث اللاجئين (التي أنشأتها الامم المتحدة في الاصل من اجل فلسطين) مهددة بوقف انشطتها واقفال مدارسها وتشريد طلابها والعاملين فيها نتيجة القرار الهمايوني لإدارة الرئيس الاميركي ترامب، بوقف مساهمتها في ميزانية هذه المنظمة الدولية..
وبطبيعة الحال فان توقف هذه الوكالة عن العمل سيفاقم من الازمة المعيشية التي تظلل اللاجئين الفلسطينيين في ديار الشتات.
وليست المشاريع الخرافية التي تطرح الآن (كالدولة الاتحادية بين الجناة والضحايا) الا بدعة للتضليل واشغال العرب، والفلسطينيين منهم بشكل خاص، بخرافة جديدة، تزيد من خلافاتهم وانقساماتهم، بينما تزداد إسرائيل قوة بالاعتراف الاميركي (والدولي) بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، في حين تزداد فرقة العرب ويتعاظم انقسام الفلسطينيين.
والاتحاد الثلاثي خرافة جديدة يضفي مزيداً من الشرعية على المحتل الاسرائيلي الذي يتعاظم قوة ومنعة..
..ويا فلسطين جينالك جينا وجينا جينالك!
*تنشر بالتزامن مع السفير العربي
0 comments:
إرسال تعليق