شوارع العاصمة القطرية الدوحة، المنسقة المنظمة،
النظيفة الجميلة، المزدانة جوانبها بالأعشاب المنبسطة كسجادٍ أخضرٍ طويلٍ ممتد، التي
لا تخالف فيها السيارات أنظمة المرور وإشارات السير، ويلتزم سائقوها القوانين والأعراف،
وتكثر فيها السيارات العابرة، وتكاد تخلو من المشاة والمارة.
عماراتها شاهقة ومبانيها عالية، وهي في أغلبها
جميلة، ويكاد بعضها يناطح السماء علواً، وتنعكس على واجهاتها أشعة الشمس الساطعة، وترتد
على العيون بريقاً وتلفح وجوه الناس حرارةً، في أول أيام آب اللهاب، المميز بحره القائظ
وشمسه الحارقة.
إنه يوم العطلة الأسبوعية الرسمية في الدولة،
الذي فيه تهدأ الحركة وتتوقف السيارات، وتتعطل مرافق الدولة وتتوقف المؤسسات، ويقر
الناس في بيوتهم، أو يخرج بعضهم لقضاء بعض حاجاتهم أو أداء صلاة الجمعة.
بدت الدوحة في هذا اليوم، يوم الجمعة، كئيبةً
حزينةً، كسيرةً مكلومةً، وكأنَّ الحزن قد جللها والأسى سكنها، وبدت أثواب الرجال البيضاء
التي تعمر المساجد وتشد الرحال إليها، رغم نصاعتها سوداء قاتمة، وقد علا الوجوم الوجوه،
وسكتت الألسنة إلا بالدعاء وكلمات الرجاء.
رغم أن المساجد كانت تصدح، والناس إليها كانت
تسعى، وقد اغتسلت وتطهرت، وتزينت وتطيبت، لكن الحزن كان طاغياً، والألم كان بادياً،
فالمدينة الهادئة الوادعة، كانت تتهيأ لتشييع شهيدٍ قد ضجت له الدنيا، وصخب من أجله
العالم، وتفتحت له أبواب السماء، وتهيأت له الجنان، وهو الذي كان قبل أيامٍ قليلة يجوب
شوارعها ويتنقل بين جنباتها، ويسكن فيها ويدير حركته منها، وينظم شؤون أهله ويتابع
حاجات شعبه منها.
ربما لم تعتد الدوحة يوماً كهذا اليوم، ولم تعش
مثله قبل اليوم، فهي قد اعتادت أن تتزين وتزدان، وتتجمل وتتهيأ، وتلبس أزهى الحلل وأجمل
الثياب، لتكون قبلة القصاد، ومدينة الرواد، وعاصمة الإعلام، وأرض المونديال، ومنتدى
رجال الأعمال، تجذب إليها أصحاب المشاريع والرؤى، ومؤتمرات المال والاقتصاد، والثقافة
والإبداع، والحوارات واللقاءات، وغيرها من المؤتمرات التي ميزها عن غيرها، وقدمها على
سواها.
لكنها اليوم كانت وكأن ثقلاً كبيراً قد طرح عليها
وألقي على ظهرها، فناءت لكنها قامت، وانحنى ظهرها أسىً ولكنها تكابرت ونهضت، وقدمت
نفسها ليعلو ذكرها، وعرضت ما عندها ليتبارك وجودها، فهي في حضرة الشرف وفي ركاب الكرامة،
تودع رجلاً نسج الكرامة بخيوطٍ من دمٍ، وصنع العزة برؤوسٍ تشمخ نحو الشمس، وأقسم بالله
عز وجل على النصر ولو كان تحت الثرى شهيداً، وكان واثقاً أن الله سيبره وسيحقق وعده،
إذ كان يعرف أن من بعده سيكونون أشد على العدو وأنكى، وسيحفظون عهده، وسيوفون وعده،
وسيكونون أمناء على ما ترك وأوفى، وأصبر على القتال وأقوى، وأثبت على الأرض وأبقى.
فتحت الدوحة أبوابها وجندت أبناءها، وأكثرت رمادها،
ونصبت سرادقها ومدت موائدها، ومهدت للوافدين زيارتها، الذين خفوا إليها وجاؤوا من كل
حدبٍ وصوبٍ، وتهيأت ليدفن في ثراها، ويوارى تحت ترابها، رجلٌ قد زفته ملائكة السماء،
ووقفت على أبوابها السبعة تنتظر وصوله وترقب عروجه، إنه شهيد القدس والأقصى، وابن غزة
العزة، ومخيم الشاطئ الثورة ونبض الانتفاضة الأولى.
سأكتب لكم تباعاً، من جوار جسده الطاهر، وبالقرب
من جثمانه المسجى في صحن مسجد محمد بن عبد الوهاب، وبينما كنا نصلي على روحه الطاهرة
صلاة الجنازة، والحناجر تصدح والأصوات تجلجل، ومن على قبره الذي وري فيه ودفن، وقد
ألقى عليه مئات المحبين نظرة الوداع، وقرأوا عليه سورة الفاتحة......
...................................................................
كلماتٌ في وداع إسماعيل هنية "أبو العبد".."2"..في طهران تشييع
مهيبٌ وثأرٌ قريبٌ
لم تنم طهران ليليتها، ولم يعد أحدٌ من قادتها
إلى بيته، بل استنفرت الدولة كلها، وهب على أقدامهم رجالها، وانتقل إلى مكان الحادث
كبار مسؤوليها، وتنادى إليه حرسها الثوري وقادة فيالقها، وسبقها إليه قائد فيلق القدس
وكبار مساعديه.
وعلم لساعتها قائد ثورتها ومرشد بلادها الأعلى،
الذي هاله ما حدث، وأحزنه كثيراً ما وقع، فأيقظ بلاده واستنفر جنده، ولبس لَأْمَتَه،
وتقدم شعبه وأطلق موقفه، وبدا حكيماً صارماً حازماً واثقاً غير وجلٍ، وعبر بكلماتٍ
فاصلةٍ عن موقفه ولم يخف، فكانت حرَّى حزينةً، غاضبةً أليمةً، فيها غصة ولوعةٌ، وأسى
وأسفٌ، وفيها بأسٌ وشدةٌ، وفيها عزمٌ وثورةٌ، ووعدٌ ووعيدٌ، وثأرٌ وانتقامٌ قريبٌ.
انتفضت إيران كما لم تنتفض من قبل، وانتابها
غضبٌ كاللهب امتد كالمدى ودوى كالرعد، صدمت وذهلت فقد قتلُ ضيفها، واغتيل حليفها، واعتدى
العدو على شرفها، وانتهك حرمتها، ومس سيادتها، واخترق وهو الأخرق الأحمق كل النظم والأعراف،
وخالف كل التوقعات والتنبؤات، وفكر وقدر ونفذ فقتل كيف قدر ونفذ، فاعتدى على الضيف
الزائر، وهو الذي يعلم عظم ذنب قتل الضيف الوافد، والغدر بالمبعوث والرسول.
الحدث جلل والمصيبة مهولة، والمستهدف كبير، والخرق
خطير، والحادث غير متوقعٍ، وهو آخر ما كان يتخيله أحدٌ منهم، فطهران آمنةٌ مطمئنةٌ،
آمنٌ أهلها ومطمئنٌ ضيفها، وهي حرزٌ وأمانٌ، ومأمنٌ وسلامٌ، عصيةٌ على العدو بعيدة
عنه، لا يطالها ولا يصل إليها، ويخشى الاعتداء عليها والمساس بها، ويحسب خطواته نحوها
ويتردد في الغارة عليها، ويدرك أبعاد عدوانه عليها وحتمية الرد عليه وكف يديه.
لكن العدو الإسرائيلي الذي أعيته المقاومة الفلسطينية
في غزة، وعجز عن مواجهتها، بات يتخبط بحثاً عن صورة نصرٍ، ويتعثر سعياً وراء إنجازٍ،
وجرياً وراء أملٍ كالسراب، وانتظاراً لرجاءٍ كالوهم، وهدفٍ يبعد عنه كلما تقدمت به
الأيام، فظن أنه بقتله قائدٍ ينتصر، وباغتياله غيلةً لمسؤولٍ سياسيٍ يتحرك في العلن،
ويزور البلاد رسمياً ويتجول في شوارعها آمناً مطمئناً، يستطيع أن يحبط المقاومة، ويضعف
رجالها، ويدفع قادتها نحو اليأس والاستسلام،
ويأخذ منها ما عجز عن نيله بالقوة وبالمذابح والمجازر اليومية التي يرتكبها.
ربما لا يقل غضب الجمهورية الإسلامية في إيران
باستشهاد الأستاذ إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، عن غضب الشعب الفلسطيني
الذي إليه ينتمي، ولا عن حركة حماس وقادتها وكوادرها التي يترأسها، وكتائبها المقاومة
التي يقود ركبها، ويتقدم صفها، ويثق بها ويراهن عليها، وهي في غضبتها صادقة، وفي غيرتها
على فلسطين وأهلها، ودعمها لشعبها ومقاومتها جداً صادقة، وقد علم الشهيد صدق نواياها،
وثبات مواقفها، وإخلاص رجالها، فحالفها كما حالفته، وبادلها الحب الذي أعطته، والوفاء
الذي حملته.
لعل غضب إيران بلغ مداه، واستنفذ الصبر الاستراتيجي
الذي أخطأ العدو قراءته وأساء فهمه، ولن يبرد غضبها حتى تثأر وتنتقم، فهذه الجريمة
التي نفذها العدو في بيتهم هي جريمة شرفٍ وكرامةٍ، ولا يغسل الشرف ويعيد الكرامة سوى
الدم، وقد أقسم قائد ثورتها ومرشدها الأعلى على الثأر والانتقام، وتلقين العدو درساً
وتدفيعه ثمناً قاسياً، يذوق بنفسه وبال فعلته، ويرتدع حليفه عن عونه ومساعدته، وهو
ثأرٌ نراه قادماً لا محالة، ويعلمه العدو حقيقةً لا خيالاً، وقد بات يترقبه، ويخشاه
ويتحسبه، فاستنفر قواه وجهز طيرانه، واستدعى جنده، ومنع الإجازات، وألغى العطل والاستثناءات،
وأغلق المناطق وعطل الحياة، وأبعد المستوطنين وفتح عميقاً الملاجئ والمقرات المحصنة،
انتظاراً لوعدٍ قادمٍ، وردٍ حتميٍ لن يتأخر.
لم يكن الإيرانيون في حاجةٍ إلى نداءٍ يخرجهم،
ولا إلى جهةٍ توجههم، أو جماعةٍ تحرضهم، فقد خرجوا غضبى من تلقاء أنفسهم، وانتظموا
في مسيراتٍ حاشدةٍ في طهران ومختلف المدن الإيرانية، حزناً على الشهيد، ووداعاً له،
ووعداً بالثأر والتهديد، فكانوا عشرات الألوف في الشوارع يزحفون، وبالشعارات الغاضبة
يصدحون، وصور الشهيد يرفعون، وأبناءه يقدمون، في مشهدٍ لم يألفه الإيرانيون مع غير
إيراني، ولم يسبق أن قاموا بمثله مع مقاومٍ منهم، فقد غدت شوار طهران بحراً من الغاضبين
ثائراً، وطوفاناً من البشر يغلي ناراً، فالشهيد ابنهم وهو حليفهم، ومن قبل هو ضيفهم
وزائر بلادهم، وشاهدٌ على تنصيب رئيسهم، وبداية عهدٍ جديدٍ لبلادهم.
نعى قائد الجمهورية الإسلامية ومرشدها الأعلى
الشهيد بنفسه، وتوعد العدو بصوته، وأَمَّ المصلين في مصلى جامعة طهران بنفسه، وتقدمهم
وخطب فيهم، ودعا للشهيد وشعبه، واستقدم أولاده وقبلهم، وهمس في آذانهم ووعدهم، واستبقى
رفاقه وأوصاهم، وتذكر المرافق الشهيد ولم يغفل عن ذكره، وأشاد به ومدحه، ووصفه بالبطل
الشهيد والمقاوم الأصيل، ودعا الله واستغفر له، وعاد من مصلاه إلى مقره وهو يشحذ الهمم،
ويستدعي القادة، ويستشير الخبراء، ويؤكد على الثأر والانتقام، ويقول بأسى قد أصابنا
الشهيد بالثكل.
ليس غريباً أن يقتل العدو إسماعيل هنية في طهران،
وأن يستهدفه في إيران، فهو يريد أن يقطع هذا الحبل المتين، وينهي هذا الحلف الوثيق،
ويتخلص من هذا الخطر المكين، ظناً منه أنه يستطيع أن يخيف الاثنين معاً، ويرعب الحلفاء
الآخرين وأطراف محور المقاومة الباقين، ولكن الله عز وجل الذي مكن للمقاومة في إيران،
وأمدها بجندٍ وعتادٍ، وسلاحٍ ورجالٍ، سيرد كيدهم إلى نحرهم، وسيخرج إلى العالم أضغانهم،
وسيغرقون في الفتنة التي أرادوها، وسينتهون بنار الحرب التي أشعلوها، وسيعلمون أنهم
ضلوا الطريق وأخطأوا الهدف، ولعلهم الآن يتساءلون عن مخرجٍ يرجون، وعن أمنٍ مستحيلٍ
يبحثون.
.........................................
كلماتٌ
في وداع إسماعيل هنية "أبو العبد".."3"..وصية الشهيد لإخوانه
ولسان حاله من عليائه
ارتقى القائد إسماعيل هنية إلى العلى شهيداً،
ورحل إلى جوار ربه راضياً مرضياً، وسَعِدَ مع الأنبياء والصديقين والصالحين، والتحق
بمن سبقه من الشهداء إلى جنان الخلد من أهله وولده، وأحبابه وأحفاده، وجيرانه وأصدقائه،
وإخوانه وأصحابه، وأبناء شعبه الذين حزن لحالهم، ورَقَّ لأوضاعهم، وتألم لمعاناتهم،
وعمل جاهداً لنجاتهم، وبذل حياته من أجلهم، وسعى ما استطاع لإنقاذهم، واستعادة بلادهم،
وتحرير وطنهم، وعودة أبنائهم الأسرى أعزةً أحراراً من سجون العدو ومعتقلاته، وما ادخر
جهداً ولا وفر وقتاً في سبيل أهداف شعبه العليا، وغاياتهم السامية، التي آمن بها وضحى
في سبيلها، وختم حياته وهو يدافع عنها ويسعى لتحقيقها.
رحل هنية وعينه على فلسطين لم تغب، وقلبه على
غزة يضطرب، وعيونه إليها ترحل، ونفسه إلى العودة إليها تهفو، فغزة تسكنه وتعيش في قلبه
بين الحنايا والضلوع، ومخيمه الشاطئ يتجذر في أعماقه وطناً، ولا يغيب عن ذاكرته يوماً،
ففيه ولد ونشأ، وفي أزقته كبر ودرج، وعلى بيته فيه حافظ وما فرط، وقد عرفه سكان مخيمه
وأهل منطقته وأحبوه شاباً، وعرفوا خلاله وأحبوا شمائله ابناً لهم، وقد عهدوه طويلاً
ملتزماً مساجدهم، ولاعباً في ملاعبهم، ومدرساً للقرآن وحافظاً له ومعلماً لأولادهم،
ثم فخروا به نائباً عنهم وممثلاً لهم، ثم رئيساً لحكومتهم وخادماً لهم وراعياً لشؤونهم،
وقد أدركوا صدقه فأحبوه، ولمسوا إخلاصه وصدقوه، وعملوا معه ولازموه.
وما نسي يوماً وطنه الكبير فلسطين، ولا غابت
عنه القدس والأقصى، ولا شطب من حساباته النقب وحيفا، ولا الجليل وعكا، ولا تسرب اليأس
يوماً إلى قلبه، ولا عرف القنوط في دربه، ولا شكا من تعب، أو تذمر من نصب، ولا انكسرت
ارادته، أو لانت عريكته، ولا أضعفته دمعةٌ أو أدمته حسرةٌ، ولا أضناه فقدُ ولدٍ أو
رحيلُ حفيد، بل بقي حتى شهادته شامخاً كجبال القدس والخليل، وسهوب حيفا والجليل، فهو
يؤمن أن فلسطين كلها له ولشعبه وطناً، وللأجيال من بعدهم سكناً، ويقينه بالله عز وجل
أن الغد مهما تأخر فسيكون لهم، وستطلع الشمس على أرضهم وهي محررة، وهم فيها أسياداً
بررةً، فهذا وعد الله الخالد لأمته.
لعله اليوم في عليائه لا يشعر بحزنٍ ولا جوى،
ولا يشكو من ضيقٍ ولا نوى، ولا يعاني من ظلمٍ ولا أسى، ولا يقلق من حرمان ولا قلى،
فهو في كنف الرحمن ورعايته، وفي جوار ربه وصحبة خير خلقه، لكنه حزينٌ على شعبه، ومتألمٌ
لحالهم، ويخشى على مصيرهم، ويتمنى لو صلح حالهم، وتحسنت ظروفهم، وانتهت معاناتهم، واتفقت
فصائلهم، واتحدت قواهم، وأخلص قادتهم، وأنهوا خلافاتهم، ووضعوا حداً صادقاً لانقسامهم،
وأصبحوا في مواجهة عدوهم جبهةً واحدةً، وإرادةً موحدة، وصوتاً ممثلاً لهم معبراً عنهم،
يوحدهم ولا يفرقهم، ويمثلهم ولا يجزئهم، فشعبهم الذي قدم وأعطى، وقاوم وضحى، يستحق
منهم الإخلاص له، والعمل من أجله، والوفاء له والصدق معه.
ولعله وهو الذي ترأس حركته، وكان رئيساً لمكتبها
السياسي، فجمع أقطابها، ووحد صففها، وتوسط بينها، ونظم عقدها، ورصع جمعها، واعتصم وإخوانه
بحبل الله المتين ونهجه القويم وتمسك بها، وكان رؤوفاً بها حريصاً عليها، رائداً لها
وخادماً لأبنائها، وقد شهد له إخوانه والمحبون أنه كان وسطاً عدلاً، سهلاً ليناً، أليفاً
مألوفاً، صادقاً محبوباً، يستشير ولا يجور، ويشارك ولا يتفرد، ويتنازل ولا يعاند، ويصغي
ويسمع، ويلين ويخضع، هادئاً لا يغضب، وحكيماً لا يشتط، ووسطاً لا يتطرف، وعدلاً لا
يظلم، يبش في وجه إخوانه، ويشاركهم أفراحهم، ويخف ليكون معهم في أحزانهم، يتصل ببعيدهم،
ويطمئن على مريضهم، ويقلق على غائبهم، ولا ينسى صديقاً قديماً ولا أخاً بات غريباً.
ربما كان الشهيد يتمنى أن يستمر عدله، وأن يتواصل
نهجه، ويتواصى خلفه، فتجتمع كلمة إخوانه من بعده على رجلٍ يجمع كلمتهم، ويوحد صفهم،
ويواصل دربهم، ويقيم الحق بينهم، ويتمسك بالثوابت ولا يفرط، ويصر على الحق ولا يساوم،
ويتواضع فيهم ويعدل بينهم، ويكون قريباً من الكل، محباً للجميع، مستفيداً من كل الطاقات،
موظفاً لكل القوى، حريصاً على العمل، ومخلصاً في الحكم، عاملاً بجدٍ، مترفعاً عن كل
عيبٍ، فلا يجور ولا يظلم، ولا يقصي ولا يبعد، ولا يحرم ولا يمنع، ولا يعاقب مزاجاً
ولا يُقرب إلا صادقاً، ولا يصغي وشايةً ولا يسمع إلا نصيحةً، ولا يصنع حاشيةً ولا يخلق
جوقةً، بل يكون بالحق صادحاً وبالعدل حاكماً.
يغيب عنا الأخ إسماعيل هنية ولكنه يتمنى على
من يخلفه، أن يجعل فلسطين همه، وحاجة شعبه غايته، ومصلحة وطنه دليله، فلا يتحالف إلا
مع من ثبت صدقه، وجرب جده، وأخلص عمله، ولا يبتعد عمن كان معه ووقف إلى جانبه، ولا
يتخلى عمن يعرض خدماته ويقدم مساعداته، ولا يحابي على الحق، ولا يجافي على الموقف،
فالحق بَيِّنٌ والباطلُ بَيِّنٌ، فلا يضل الطريق، ولا يزيغ عن الصواب، ولا يغتر بالوعود،
ولا يستجيب للإغراء، وليكن مع من يحب فلسطين ويخلص لها ويعمل من أجلها، شعوباً ودولاً،
ولا يضيره المستنكفون، ولا يحزنه المتنكبون، ولا يضعفه المتولون.
سلام الله عليك أبا العبد، سلام الله عليك في
الخالدين، وهنيئاً لك صحبة الأنبياء الأخيار والشهداء الأبرار، وجعل خَلَفك من بعد
بعدك صدقاً وعداً، حكماً وسطاً، رحمةً عدلاً، لا يضيع الأمانة، ولا يضل الطريق، ولا
يحيد عن الدرب، ولا يفرط في الحق، ولا يخلف الوعد، ولا ينكث العهد، ولا يفض الجمع،
ولا يفتت الصف، ويلقى الله عز وجل حافظاً للأمانة وصائناً للحق، ثابتاً على الدرب،
وفقه الله وأيده، وسدد خطاه وحفظه، وأعانه وسهل مهمته، وهيأ له بطانة الخير وشورة الحق،
وأنجز على يديه وعده، وحقق هدفه، وأفرح شعبه، وأذل عدوه.
0 comments:
إرسال تعليق