انقلاب "الجابون" الأخير هو الثامن من نوعه فى غرب أفريقيا منذ 2020 ، وجاء بعد شهر وأيام من انقلاب "النيجر" ، مع اختلاف ظروف البلدين ، فالنيجر عدد سكانها كبير نسبيا (27 مليون نسمة) ، وعظيمة الفقر والشقاء على غنى مواردها الطبيعية من اليورانيوم والذهب ، بينما "الجابون" دولة صغيرة سكانيا (2.3 مليون) ، ومتوسط دخل الفرد فيها يصل إلى تسعة آلاف دولار سنويا ، بسبب امتيازها البترولى كخامس منتج فى أفريقيا ، إضافة لموارد طبيعية أخرى بينها "المنجنيز" والأخشاب ، وما من عدالة ولا مشاركة فيها ، برغم نظامها متعدد الأحزاب متوالى الانتخابات ، وتحكمها عائلة واحدة منذ 56 سنة (!).
والقاسم المشترك الأعظم بين "النيجر"
و"الجابون" وسواهما على امتداد الساحل والغرب الأفريقي ، هو الميراث
الثقيل للاستعمار الغربى ، والتغول الوحشى الفرنسى بالذات ، فقد ظلت "الجابون"
ـ وجوارها ـ تحت احتلال برتغالى ففرنسى لمئات السنين ، وكانت كغيرها من مراكز قنص
ونزح العبيد إلى أمريكا عبر المحيط الأطلنطى ، وجرى محو الهويات الثقافية الأصلية
لسكانها ، ودفعهم للانتساب قسرا إلى فرنسا ثقافة ولغة ودينا ، فيما ظل 1% لاغير من
السكان على الدين الإسلامى ، مع نسب أخرى على دياناتهم الطبيعية الأفريقية ، ومع الاستقلال الإسمى للجابون مع "النيجر"
عام 1960 ، حكم "ليون إمبا" ، وإلى أن وقع البلد فى حجر "عائلة
بونجو" الموالية تماما لفرنسا ، فقد صعد "عمر بونجو" إلى الرئاسة
عام 1967 ، وظل فى الحكم إلى أن توفى عام 2009 ، واتخذ لنفسه اسم "عمر" بدلا
من "ألبرت" مع اعتناقه الإسلام عام 1973، لكن ظل على حاله كحاكم "شهريارى"
متكبر، يحكم بإرادته المنفردة ، ويترأس ـ للمفارقة ـ حزبا أسماه الحزب "الديمقراطى"
، وعبر حزبه "الملاكى" ، انتقل الحكم عائليا لابنه "على بونجو"
، الذى حكم لمدة 14 سنة ، ولم تعقه حوادث إصابته بجلطة دماغية عام 2018 ، ولا
إنقلاب عسكرى أجهضه عام 2019 ، وإلى أن جاء أجله السياسى مع الانقلاب الأخير ،
وذهب مع أعضاء حكومته وعائلته وحزبه إلى العزلة ، غداة إعلان فوزه الإنتخابات
بفترة رئاسة جديدة ، وهو ما اعتبر صدمة إضافية لفرنسا بعد انقلاب "النيجر"
، وما جرى قبله من انقلابات فى "غينيا" و "مالى" و"بوركينا
فاسو" ، وما قد يأتى بعدها من انقلابات ، ومن ذات الجيوش ، التى تدرب فرنسا ضباطها
، وتحتفظ فى بلدانها بقواعد عسكرية برية وجوية ، فلفرنسا قاعدة جوية فى "الجابون"
، يعمل فيها 370 جنديا فرنسيا ، وفى "النيجر" وجود فرنسى أكبر بكثير ،
وفى البلدين مع غيرهما ، تحتكر شركات التعدين الفرنسية أغلب الموارد ، وإن كان
انقلاب "النيجر" أوقف توريد "اليورانيوم" إلى مفاعلات فرنسا
الذرية الكهربية ، فإن شركة التعدين الفرنسية "إيراميت" اختصرت الطريق ،
وعلقت فور الانقلاب أعمالها فى "الجابون" ، التى دخلتها "الصين"
من سنوات كشريك تجارى واستثمارى رئيسى ، وتشترى من "ليبرفيل" ـ عاصمة
الجابون ـ بترولا قيمته 4 مليارات دولار سنويا ، وبما لا يترك للوجود الفرنسى قيمة
اقتصادية كبيرة ، فوق أن فرنسا التى تنهب "الجابون" ومعادنها ، تسند
هناك "حكم دمى" ، على حد وصف "جان لوك ميلانشون" زعيم حزب "فرنسا
الأبية" اليسارى المعارض ، وقد ولد "ميلانشون" نفسه فى مستعمرات
فرنسا الأفريقية ، وتناسل آباؤه وأجداده فى الجزائر والمغرب ، واعترافه بجرائم
فرنسا يحرج خصمه الرئيس الفرنسى "ليونيل ماكرون" ، الذى جمعته صور
احتضان حميمى مع الرئيس الجابونى المخلوع "عمر بونجو" المتزوج من فرنسية
، وواصل سيرة أبيه فى منح ثروات "الجابون" كهدايا نفيسة لرؤساء فرنسا
المتتابعين ، من "جاك شيراك" إلى "ماكرون" ، فلا تزال فرنسا
تنظر لمستعمراتها الأفريقية ـ السابقة ـ كبقرات "حلوب" ، وتضئ بيورانيوم
"النيجر" ـ وغيرها ـ مدنها وقراها ، وتصنع من معادنها وأحجارها الكريمة "إكسسوارات"
بيوت الأزياء ، وتصور "باريس" كأنها عاصمة النور ، بينما قد لا تنافسها
مدينة عالمية أخرى فى نشر الظلام والقبح ، فما من مقدرة على إحصاء عدد قتلاها
وضحاياها ، وهم بالملايين فى أفريقيا ، ولا تعداد صنوف القهر والاستعباد التى
مارستها بتلذذ سادى ، ولا محو هويات السكان الأصلية وتصويرهم كقرود ، علمتهم النطق
باللغة الفرنسية ، واعتبرت نفسها مكلفة بإدارة حياتهم البائسة ، واصطفاء حكامهم من
الحواشى الفرنسية المفضلة ، وتنصيبهم عبر انقلابات أو بانتخابات ، والتبجح بما
تسميه حماية الديمقراطيات الناشئة ، ودعم أمثال "محمد بازوم" و"على
بونجو" ، بدعوى أنهم ديمقراطيون ومنتخبون ، بينما الحقيقة الظاهرة للكافة ،
أن فرنسا تعتبر الانقلابات الأفريقية الأخيرة تدميرا لنفوذها المفروض ، واطاحة
برجالها المختارين ، وما من فرصة على ما يبدو لباريس هذه المرة ، فلا أحد يريدها
هناك ، فالنخب الأفريقية الجديدة ، قررت إطلاق النار على البؤس الموروث ، الذى
يرونه ممثلا فى فرنسا بالذات ، وهى التى خبروا وقاسوا قهرها ودمويتها واستغلالها
واستعلائها لمئات السنين ، وهم لا يحبون من حكامهم ، إلا أن يكرهوا فرنسا ، وأن
يطردوا شركاتها وقواعدها من بلادهم ، وعلى نحو ما فعل حكام "النيجر" الجدد
، الذين ألغوا من جانبهم كل الاتفاقات الأمنية والعسكرية مع "باريس" ،
وربما يفعلها حكام "الجابون" الجدد ، فقد كان رد "باريس" على
مطالب قادة "النيجر" غليظا فجا منافيا مجافيا لأبسط قواعد العلاقات بين
الدول ، ولاتفاقات "فينيا" التى صنعها الغرب نفسه ، فعندما قررت حكومة "نيامى"
طرد السفير الفرنسى ، واعتبرته شخصا غير مرغوب به ، كان رد "باريس" ،
أنها لن تنفذ القرار ، برغم صدوره عن "سلطة أمر واقع" فى بلد آخر ،
يعترف القانون الدولى بحقها المقرر فى اتخاذ ما ترى من إجراءات ، لا يصح فى
مواجهتها ، أن ترفضها فرنسا ، ولا أن تفتى بشرعية أو عدم شرعية سلطة "النيجر"
، وقد سبق لباريس نفسها ، أن نفذت بغير تعقيب أوامر انقلابات "مالى" و"بوركينا
فاسو" بإجلاء قواعدها العسكرية ، بل ونفذت "الأمم المتحدة" ذاتها
أوامر قادة انقلاب "مالى" ، وأجلت قوات حفظ السلام ، فالحقوق السيادية
معترف بها لكل صور السلطات ، ونوع الحكم فى أى بلد يقرره شعبه ، لكن فرنسا التى
تحس بدنو أجل سيطرتها فى أفريقيا ، تتصرف بتعنت وجلافة تتعارض مع كل المواثيق ،
ولا تريد أن تعترف حقا باستقلال مستعمراتها السابقة ، وربما تحلم بإعادة استعمارها
وإخضاعها بالقوة العسكرية المباشرة ، ومن دون أن تدرك عجزا آلت إليه قوتها ، وميل
حليفتها وقائدتها أمريكا إلى سلوك آخر ، تعترف فيه مؤقتا بسلطات الأمر الواقع ،
وعلى أمل تغييرها فيما بعد ، بانقلابات أو بانتخابات ، وتترك واشنطن فرنسا وحيدة
فى حالتها العصبية الهائجة ، وشعورها المفزوع بأن الأرض تميد من تحت أقدامها ،
بينما أمريكا تريد مرونة فى السياسة ، قد تفيد فى مواجهة النفوذ الصينى المتضخم
الزاحف فى أفريقيا ، المتأهب لوراثة الغرب كله فى القارة السوداء ، وبديناميكية
اقتصادية هائلة ، ومن دون التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأفريقية ، وخلف الصين
بخطوات ، تأتى حليفتها روسيا ، التى تعتمد على صادرات وهبات القمح والسلاح وتمدد
جماعات "فاجنر" ، وتقدم وعدا ضمنيا للحالمين بالتخلص من الداء الفرنسى ،
بأن تقدم لهم الحماية المطلوبة ، وهو ما يفسر جاذبية علم روسيا الطاغى فى أوساط
المتمردين الأفارقة اليوم ، ورفعه فى كل مناسبة احتجاج وسخط على الغرب ، وعلى
فرنسا بالذات .
وقد يقول البعض ، أنه على فرنسا أن تراجع
تاريخها الأسود ، وأن تعتذر عن فظائعها بحق شعوب أفريقيا بالذات ، لكن فرنسا تكابر
، وتعتبر أنها هى التى خلقت دول أفريقيا "الفرانكوفونية" ، تماما كما
تدعى أنها خلقت "الجزائر" ، لكن التاريخ لا يخضع لمشيئة فرنسا ، ولا
لعنصريتها الفاقعة ، وكما يقول النص القرآنى "ويمكرون ويمكر الله" ، فإن
للتاريخ مكره وسخرياته ومفارقاته ، فقد سعت فرنسا إلى "فرنسة" الجزائر
وغرب أفريقيا ، ودار التاريخ دوراته ، وزحف الجزائريون بالهجرة إلى فرنسا ، وفعلت
شعوب أفريقية أخرى اضطرارا ، وكادت أمنية "فرنسة الجزائر" ، تنقلب إلى "جزأرة
فرنسا" ، وربما "أفرقة فرنسا" فى ديارها ، وعلى نحو ما تعكسه
انتفاضات الضواحى فى باريس وغيرها من المدن الفرنسية ، وآخرها ما جرى عقب مقتل
الشاب "نائل" ذى الأصول الجزائرية ، وكانت النتيجة ، اشتعال حرائق غضب ،
كادت تدمر أمان فرنسا ، إن لم يكن اليوم فغدا ، إنه انتقام التاريخ الماكر ، الذى
ترافقه موجات "خلع" تتقيأ فرنسا فى عواصم أفريقيا الفرانكوفونية ، والتى
لن يكون انقلاب "الجابون" الأخير نهايتها ، فما زال بطن أفريقيا منتفخا
بالغيظ من فرنسا ، التى تعتبر نفسها راعية للحرية ، وهى من أمهات القهر والإذلال
والاستعباد .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق