بعد توقف برى فى الحرب الأوكرانية لبضعة أسابيع ، عادت القوات الروسية مع الحلفاء إلى حركة محسوسة متصاعدة ، تهدف لإجلاء القوات الأوكرانية عن مدن "كراماتورسك" و"سلافيانسك" و"باخموت" ، وهى المدن الثلاث الأكبر المتبقية خارج السيطرة الروسية فى مقاطعة "دونيتسك" ، وجرى الاستيلاء على بلدات مهمة فى الطريق إلى "باخموت" ، وبذات النفس الهادئ السلس لعمل القوات الروسية ، ودونما إعلان لحالة طوارئ ولا لتعبئة عامة ، ولا استدعاء لقوات الاحتياط الروسى ، وهو ما يرشح شهر الحرب السابع الذى يبدأ فى 24 أغسطس الجارى ، ليكون نقطة البدء فى إكمال استيلاء روسيا على كامل منطقة "الدونباس" ، وفى معارك شديدة الضراوة ، بعد حسم سابق فى كل مقاطعة "لوجانسك" انتهى بضم "ليسيتشانسك" ، يكتمل فيما يلى بإحكام السيطرة على سائرنواحى مقاطعة "دونيتسك" .
ولم يحدث أبدا للروس ، أن حددوا وقتا للحرب ، ولا
لحدود الجغرافيا التى يريدون ضمها من أوكرانيا ، باستثناء مقاطعتى أو جمهوريتى
"لوجانسك" و"دونيتسك" ، وقد بدأت العملية العسكرية الروسية الخاصة
عقب اعتراف الرئيس الروسى باستقلال جمهوريتى "الدونباس" ، لكن الوقائع الحربية
على الأرض ، دارت فى محاور أوسع ، وشملت حتى اليوم مقاطعات "خيرسون" و"خاركيف"
و"ميكولاييف" و"زاباروجيا" ، وكلها خارج إقليم "الدونباس"
، إضافة لغارات ليلية عنيفة بالطائرات والصواريخ الموصوفة بعالية الدقة ، لم تستثن
العاصمة "كييف" نفسها أحيانا ، ولا حتى "لفيف" فى أقصى غرب أوكرانيا
، وإن ركزت على "خاركيف" ثانى أكبر مدن أوكرانيا ، والواقعة على مسافة عشرين
كيلومترا فقط من الحدود الروسية ، وعلى الأرض بدت الصورة أكثر وضوحا ، وبدت الحركة
الروسية المتمهلة شاملة لقوس الشرق والجنوب الأوكرانى كله ، كانت المعركة فى
"ماريوبول" نقطة تحول ، ومكنت الروس من حرمان كامل لأوكرانيا من إطلالتها
على "بحر آزوف" ، بعد الاستيلاء المبكر على "ميليتوبول" و"خيرسون"
جنوبا ، والسعى للسيطرة على "ميكولاييف" ، بهدف تحصين الوضع الروسى فى
"خيرسون" بالغة الأهمية فى تزويد شبه جزيرة "القرم" بالمياه العذبة
، والتواصل البرى المباشر عبر "البحر الأسود" ، فوق أهمية "ميكولاييف"
لخنق ميناء "أوديسا" الأشهر ، وقد عادت الغارات الروسية عليه بعد توقف جزئى
موقوت ، ربما لمنح فرصة لتسهيل تنفيذ اتفاق تصدير الحبوب ، وإلى الشرق من "خيرسون"
، جرت السيطرة الروسية إلى الآن على ثمانين بالمئة من مقاطعة "زاباروجيا"
، بما فيها محطتها النووية ذائعة الصيت ، بينما يبدو اتساع السيطرة الروسية فى مقاطعة
"خاركيف" ، وإلى نحو خمسين بالمئة من مساحتها ، نوعا من الدعم الميدانى الضرورى
لأمن جمهوريتى "الدونباس" .
وتجميع أجزاء الصورة بعد تفصيلها ، يكاد يوحى بخرائط
الهدف الروسى العسكرى المباشر ، الذى قد يتعرض لإعاقات وقتية ، من نوع الهجمات الأوكرانية
من "ميكولاييف" على "خيرسون" ، فى هجوم مضاد روجت له الدوائر الغربية
، لكن حدته سرعان ما انكسرت ، وحلت محلها إغارات تخريب وراء الخطوط الروسية ، خصوصا
فى بعض قواعد ومطارات شبه جزيرة "القرم" ، التى سبق لروسيا أن ضمتها بهجوم
خاطف عام 2014 ، ومن العبث أن يفكر أحد فى استعادة أوكرانية للقرم ، أو حتى للمناطق
التى سيطرت عليها روسيا فى قوس الشرق والجنوب الأوكرانى ، فلم يعد من أحد عاقل يجادل
فى النصر العسكرى الروسى المحقق والمتوقع ، حتى وإن صح الاختلاف على مداه ، ولا فى
طبيعة النزاع العسكرى الدائر ، فى صورة حرب ذات طابع عالمى جارية فى الميدان الأوكرانى
، حشد فيها الغرب وحلف الأطلنطى كل ما يملك من مال وسلاح ، وبإدارة مباشرة أمريكية
وبريطانية بالذات لمعارك الميدان من "كييف" ، وبخيوط تحرك "عروسة ماريونيت"
اسمها الرئيس الأوكرانى اليهودى الصهيونى "فولوديمير زيلينسكى" ، الذى يسعى
بإلحاح متواترمحموم للقاء مع الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" ، يمتنع عنه
الأخير ويضع شروطا قاسية ، أقرب لتوقيع أوكرانيا على وثيقة استسلام شامل ، وهو ما يحاول
التوسط فيه الرئيس التركى "رجب طيب أردوغان" ، بذهابه للقاء "زيلينسكى"
فى مدينة "لفيف" ، بعد لقاء ذهب إليه "أردوغان" مع "بوتين"
فى "سوتشى" ، وعاود عرض استضافة قمة روسية أوكرانية فى تركيا ، بعد نجاح
الأخيرة فى إبرام اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية والروسية ، وهو ما قد يغرى الرئيس
التركى بتكرار المحاولة على نطاق أوسع بحثا عن نهاية للحرب ، يستعين فيها باصطحاب أمين
عام الأمم المتحدة "جوتيريش" ، وإن كانت المحاولة تواجه بحزم "بوتين"
وشروطه من جهة ، وبامتعاض غربى أطلنطى من اقترابات "إردوغان" مع "بوتين"
، فلم يعد الغرب يأمل فى نصر أوكرانى ، ولا فى هزيمة روسية ، تروج لها حروب الدعاية
"الكاريكاتيرية" ، وإن كان الغرب "الأنجلوساكسونى" بالذات ، يصعب
عليه أن يسلم بالنتائج ، وبقدرة أثبتتها روسيا على التدمير المنتظم لأكثر الأسلحة الغربية
تطورا فى الميدان الأوكرانى ، فقد أدت الضربات الروسية إلى إعطاب نحو خمسين ألف طن
من الأسلحة المهداة غربيا للجيش الأوكرانى ، إضافة لتحلل متزايد فى بنية الأخير ، وسريان
موجات من التمرد والعصيان فيه ، أطفأت نار ووهج أساطير المقاومة الأوكرانية العنيدة
، وحولت دعما غربيا بما يزيد على مئة مليار دولار ، إلى بضاعة تسرق وتباع فى سوق العصابات
، أو تذهب الأسلحة بشحمها إلى حوزة روسيا رأسا ، فى عمليات متصلة ، برغم إقالات
"زيلينسكى" لعشرات من رجاله بتهمة "الخيانة العظمى" ، ولا يعقل
أن يتقدم "بوتين" لاعب الشطرنج المحترف ، وأن يمد حبل نجاة إلى "زيلينسكى"
فى لحظة انكشاف خيبات الأخير ، الذى لا يرجح أن ينجح "إردوغان" فى تعويمه
، اللهم إلا إذا وقع اتفاق استسلام للروس ، وهذا ما لا يستسيغه الرئيس الأمريكى
"جوبايدن" ، الذى أفلت منه زمام القصة كلها ، ويستعد لتلقى هزيمة حزبه المرجحة
فى انتخابات تجديد نصفى للكونجرس أوائل نوفمبر المقبل ، الذى قد يكون التاريخ نفسه
، الذى قد يلجأ فيه "بوتين" إلى وقفة تعبوية لقواته ، بعد تحقق غالبية أهدافها
، وإعلان هدنة سلاح مشروطة مع تساقط أوراق الخريف ، وفرض أمر واقع معزز فى الشرق والجنوب
الأوكرانى ، وجعل المساس به سببا فى عودة لإطلاق النار ، وتوريط الغرب كله فى
"حرب شتاء" قاسية ، يكسبها الروس كما العادة التاريخية .
والمحصلة بالجملة ، أن الكسب الروسى يبدو ظاهرا
فى مطلق الأحوال ، سواء فى الدائرة الأوكرانية الأضيق ، أو على النطاق العالمى الأوسع
، فقد انتهت العقوبات الغربية ذات العشرة آلاف صنف إلى بوار أكيد ، وعادت بآثارها الوبيلة
للمفارقة على اقتصاد الغرب أولا ، وضرب التضخم والركود اقتصادات أمريكا وأوروبا الأطلنطية
، وتدحرجت رءوس حكومات غربية أوروبية ، وبات الرئيس الأمريكى نفسه ، مهددا بالتحول
إلى "بطة عرجاء" فى البيت الأبيض ، مع الخسارة المرجحة لحزبه "الديمقراطى"
فى انتخابات مجلسى النواب والشيوخ ، وقد يتحول "بايدن" بعدها إلى نصف رئيس
أو حتى ربع رئيس ، وبالذات مع تدهور صحته البدنية والعقلية وتكاثر علامات "خرف"
الشيخوخة ، وفشله الظاهر فى تحويل حرب أوكرانيا إلى "أفغانستان ثانية" لاستنزاف
الروس ، بينما نجح "بوتين" بثباته العصبى المذهل فى قلب المائدة ، وتحويل
حرب أوكرانيا إلى "أفغانستان ثانية" لأمريكا وحلف الأطلنطى ، وصولا ربما
لتكرار ذات الخروج المهين ، على النحو الذى جرى قبل شهور فى مطار "كابول"
، مع تزايد صرخات الأوروبيين حكومات ومحكومين ، وسريان الفزع من تلاحق كوارث الاقتصاد
والمناخ وجفاف الأنهار ، والضيق الشعبى المتزايد بعبء فواتير أوكرانيا الثقيلة ، والميل
للتملص من تعهدات التورط من وراء ومع أمريكا ، التى لم تجلب لهم سوى دواهم الأزمات
المتفاقمة ، والرعب المقيم من شتاء قارس البرودة ، مع إنخفاض إمدادات الطاقة الروسية
بالغاز والبترول ، فيما يبدو الاقتصاد الروسى متماسكا لا يزال ، وتأثره بالعقوبات أقل
مما كان منتظرا ، وعملته "الروبل" فى أقوى حالاتها على مدى عشرين سنة مضت
، وتحالفه مع الصين أكثر وثوقا وفاعلية ، وبالذات مع استفزازات أمريكا للصين فى جزيرة
"تايوان" وحولها ، فالاقتصاد الصينى هو الأكبر والأول عالميا بمعايير تعادل
القوى الشرائية ، وبدا كوسادة هوائية هائلة ، امتصت صدمات العقوبات الغربية على الاقتصاد
الروسى متوسط الحجم ، وأضافت لميزاته الفريدة من موارد الطاقة والحبوب ، وفتحت لها
أسواقا بديلة ، شجعت موسكو على الضرب بقسوة فى حروب التطاحن الاقتصادى مع الغرب ، وتحدى
هيمنة الدولار، ومد شبكات أمان عالمية ، وطرق تبادل ودفع جديدة بالمقايضات والعملات
الوطنية ، عبر منظمات اقتصاد تتحلق حول الصين ، من نوع "منظمة شنجهاى" ودول
"بريكس" و"بنك التنمية" العالمى الجديد ، وعلى أساس علاقة
"بلا حدود" ، توافقت عليها موسكو وبكين فى وثيقة صدرت قبل عشرين يوما من
اطلاق شرارة الحرب ، لن يكون ذهاب قوات مناورات صينية إلى روسيا آخر أشواطها وعناوينها
.
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق