كيف يتصرف العرب مع الوضع العالمى الجديد المصاحب لحرب أوكرانيا ؟ ، فلم يعد من أحد عاقل يجادل فى تغير الموازين على القمة الدولية ، ولا فى كون القطبية الأحادية الأمريكية صارت من الماضى ، بل أن هيمنة الغرب بشقيه الأمريكى والأوروبى دخلت من زمن فى مرحلة الذبول ، وهو ما تسلم به عقول الغرب الاستعمارية الكبرى ، وكان آخرها صوت "تونى بلير" رئيس الوزراء البريطانى الأسبق ، وقد نعتته الصحافة البريطانية وقت حرب العراق بأنه "ذيل الكلب الأمريكى" ، وهو يقطع اليوم باستحالة فوز الغرب فى الحرب العالمية الجديدة ، وسبقه "هنرى كيسنجر" أفضل عقل استراتيجى غربى ، الذى نصح مبكرا بإعطاء روسيا ما تريده فى أوكرانيا ، ومحاولة استمالة موسكو فى تعبئة شاملة ضد الصين العدو الأخطر ، وحين استبطأ "كيسنجر" رد فعل القادة الغربيين ، راح ينعى عليهم تواضع شأنهم ، ويتحسر على زمن مضى ، كان الغرب يملك فيه قادة بوزن "ونستون تشرشل" و"شارل ديجول" ورئيسه الأسبق "ريتشارد نيكسون" .
ربما ما لم يدركه "كيسنجر" المتفجع صاحب
المئة عام عمرا ، أن حرب أوكرانيا لم تنشئ الوضع الجديد ، وأنها فقط أزاحت الغطاء عن
تحولات جوهرية فى موازين قوة الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا ، توالت سراعا فى الأربعين
سنة الأخيرة ، وترسم صورة ما يمكن أن نسميها مرحلة "تجاوز الغرب" ، أى امتلاك
ذات قوته المادية والتقنية ، ثم تخطيه بأشواط متلاحقة ، دفعت "صندوق النقد الدولى"
مثلا ، وهو مؤسسة مالية غربية الهوى والتكوين ، أن يعترف بالحقيقة البليغة فى تقرير
حديث ، يجزم بأن الصين صارت قوة الاقتصاد الكونية الأولى فعلا لا احتمالا ، وبحسب معايير
القوى الشرائية ، وتجاوزت الولايات المتحدة الأمريكية من سنوات ، وكانت الصين قبل قرنين
من الزمان ، مجرد مرعى مفتوح لنهب وهيمنة القوى الغربية الاستعمارية ، فى "حروب
الأفيون" وما تلاها ، كانت الصين كغيرها من ضحايا مرحلة "سيادة الغرب"
، التى بدأت صعودها مع اكتشاف الأمريكتين وسقوط "غرناطة" عام 1492 ، وثورات
الصناعة وسباق الموارد ، ودامت مرحلة سيادة الغرب فى غالب القرون الخمسة الأخيرة ،
وإلى أن جرى إنهاك الغرب الأوروبى داخليا فى ما عرف باسم الحرب العالمية الأولى ، وفى
الحرب العالمية الثانية بالذات ، وهو ما خلق بيئة مواتية لحركات التحرير الوطنى فى
عوالم المستعمرات الغربية ، قادت لانتصارها ، والدخول فى مرحلة يمكن تسميتها"
تحدى الغرب" ، برزت فى ظواهر ماعرف باسم المعسكر الاشتراكى وحركة عدم الانحياز
ورفض القواعد والأحلاف الغربية ، وقد هزم وغاب الكثير منها فى المواجهة الضارية مع
القيادة الأمريكية للتحالف الغربى بعد الحرب الثانية ، وكانت أمريكا وقتها تملك مؤهلات
قوة جبارة ، كان لديها نصف اقتصاد العالم كله ، وفرضت قواعد هيمنتها الاقتصادية والمالية
عبر "البنك الدولى" و"صندوق النقد الدولى" و"اتفاقية بريتون
وودز" ، التى كرست سيادة الدولار كعملة احتياط عالمية ، ثم حين تقلصت كفاية الغطاء
الذهبى الأمريكى ، فرضت أمريكا مع عهد "نيكسون" و"كيسنجر" وضع
هيمنة "دولارية" جديدة ، بتقرير استخدام الدولار كأداة لتسعير البترول وغيره
، وجعلت من مجرد طباعة أوراق "الدولار" أداة للهيمنة ، مع تسييد نظام
"سويفت" للتحويلات المالية البنكية ، ولم يكن لذلك أن يستمر للأبد مع التحولات
المتزايدة فى موازين القوة الدولية ، ومع صحوة الشرق الصينى وما حوله بالذات ، وتبدل
المواقع فى نظام العولمة الاقتصادية ، وتحول الصين إلى مصنع العالم الأول ، وحيازتها
وحدها لأكثر من 35% من مجموع التجارة العالمية ، ولفوائض تجارية هائلة فى موازين تعاملاتها
مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى ، مع الضعف المتزايد للاقتصاد العينى الأمريكى
، والاتحاه إلى "رأسمالية الكازينو" والبورصات والمضاربات ، وإثقال الاقتصاد
الأمريكى بديون فلكية داخلية وخارجية ، جاوزت حتى اليوم رقم الثلاثين تريليون دولار
، ففى الوقت الذى انتفخت فيه عضلات أمريكا العسكرية ، وزاد إنفاق السلاح فيها إلى نحو
800 مليار دولار سنويا ، ونشرت المئات من قواعدها العسكرية باتساع المعمورة ، فى الوقت
الذى جرى فيه كل هذا التضخم العسكرى ، وتوالت حروب واشنطن الخاسرة فى عشرات الحالات
، كان السند الاقتصادى يتخلخل فى إطراد ، اللهم إلا فى باب شركات التكنولوجيا الكبرى
، التى راحت شركات الصين تنافسها بشدة ، وتتفوق كثيرا فى منتجاتها التكنولوجية ، وعلى
نحو ما بدا فى اختبار جائحة كورونا ، التى نهشت البدن الأمريكى بضراوة ، وجعلته الضحية الأكبر عالميا ، وعرت سوءات نظامه
الصحى ، فيما أظهرت الصين تقدما باهرا فى سياسة "صفر كوفيد" ، وامتيازا مذهلا
فى التعبئة والانضباط والكفاءة التكنولوجية ، وواصلت زيادة فوائضها المالية التريليونية ، ومد نفوذها الكونى
عبر خطط "الحزام" و"الطريق" ، وصارت "بكين" المانح الأول
دوليا للقروض والمعونات ، وأنشأت أطرا لنظام اقتصادى ومالى جديد ، من معاهدة
"شنجهاى" إلى تحالف "بريكس" إلى "بنك التنمية" وغيرها
، وبلورت نظما بديلة لنظام "سويفت" الغربى المنشأ ، وقادت وتقود نظما جديدة
لاستبدال التعامل بالدولار ، وبهدف كسر احتكاره ، وتحطيم الأساس النقدى للهيمنة الأمريكية
، وهو ما بدا طريقا مغريا بالاحتذاء ، حققت فيه روسيا خطوات إضافية ، واستنادا إلى
"علاقة بلا حدود" جمعت بكين وموسكو ، وهو ما يفسر الصمود المذهل للاقتصاد
الروسى ، المتوسط حجما ، ولكن بميزات نوعية فارقة ، وبجرأة واعية فى مواجهة عشرة آلاف
صنف عقوبات فرضت على روسيا مع حرب أوكرانيا ، انتهت إلى عكس ما كانت من أجله ، فلم
يركع اقتصاد روسيا ، وصار "الروبل" الروسى أفضل عملات العالم أداء ، بينما
امتد الأذى الثقيل إلى الاقتصاد الأمريكى والاقتصاد الأوروبى بالذات ، وهو ما دفع ويدفع
الغرب إلى التراجع ، وإلغاء الحظر على استيراد الأغذية والحبوب والأدوية والأسمدة الروسية
، فضلا عن إلغاء "عقوبات ليتوانيا" فى إعاقة تجارة روسيا مع إقليمها
"كالينينجراد" المنفصل جغرافيا ، ولا تزال التراجعات متصلة ، برفع الحظرعلى
تداول شركات الطاقة الغربية الكبرى للبترول الروسى وبيعه لأطراف ثالثة ، خصوصا مع تكشف
العجز العسكرى الغربى فى الميدان الأوكرانى ، وتدحرج رءوس الحكومات الأوروبية ، ومآزق الرئيس الأمريكى "جوبايدن" داخليا
، وضغط روسيا بالتحكم فى إمدادات البترول والغاز الطبيعى على دول أوروبا الكبرى ، وتدفيعها
ثمنا فادحا لانسياقها الأعمى وراء أمريكا فى محاربة روسيا ، والجرى وراء أوهام إمكانية
هزيمة روسيا وإضعاف رئيسها "فلاديمير بوتين" .
ومع هذه التحولات العاصفة كلها ، يبدو العرب عموما
كأنهم من عالم آخر ، فقد انقطعت صلات العرب بحس التاريخ الجارى منذ نحو خمسين سنة ،
وبالدقة منذ مقدمات ووقائع حرب أكتوبر 1973 ، وقد جرى فيها انتصار عسكرى لا ينكر ،
أعقبته للمفارقة هزيمة حضارية شاملة ، خرج بها العرب من معادلات التاريخ وسباقات العصر
، بأثر مما جرى من انهيارات فى مصر بالذات ، مصر ذاتها التى كانت فى قلب تحولات التاريخ
العالمى ، وقطعت ذيل "الأسد البريطانى" فى حرب السويس 1956 ، بينما مشت فيها
السياسة بعد "أكتوبر" 1973 على العكس بالضبط من مغزى انتصار السلاح ، وسادت
خرافات من نوع ملكية أمريكا لمئة بالمئة من أوراق اللعبة ، والاكتفاء بالعبودية لأمريكا
قياما وقعودا ، والمشى خلفها فى حرب تحطيم العراق ، ثم إدمان التطبيع مع كيان الاحتلال
الإسرائيلى ، وتوارى مشروع النهوض القومى العربى بالجملة ، وتوحش أدوار الجوار الإيرانى
والتركى على حساب قلب عربى كف عن الخفقان ، وغرق طويلا فى نومة أهل الكهف ، ثم كانت
صدمة الاستيقاظ المتأخر مع حرب أوكرانيا ومضاعفاتها ، التى لم نشعر بتحولات العالم
الجارية إلا معها ، وفى لهيب نيرانها ومعاركها وانقلاباتها ، وهو ما يفسر حيرة الحكومات
العربية الظاهرة اليوم ، فهى تشهد مصارع القطبية الأمريكية الأحادية المتحكمة ، وكانت
تظن أن واشنطن هى رب الكون المعبود ، ثم حين أصبح الإله الموهوم صنما من "عجوة"
، راحت تشك فى جدوى الاعتماد على حمايته ، وحفظه للوعود والدعوات ، على نحو ما ظهر
فى قمة الرئيس الأمريكى "بايدن" مع قادة تسع دول عربية فى "جدة"
، ومن دون أن تقطع وصال الود معه ، ولا أن تغلق الباب على تفاهمات ممكنة مع روسيا والصين
، وحتى مع "إيران" حليفة القطب الشرقى الصاعد ، وعلى نحو ما بدا فى اتصالات
"بوتين" مع حكام السعودية ، وفى لقاء وزير الخارجية الروسى "سيرجى لافروف"
فى القاهرة ، واجتماعه بالرئيس المصرى ، ثم مع المندوبين العرب فى مبنى الجامعة العربية
، بدا الزحف الدبلوماسى الروسى معاكسا فى المغزى لقمة "جدة" المتعثرة ، ووقع
العرب المعنيون فى حيرة الاختيار ، أو الاكتفاء بإمساك العصا من المنتصف ، ودونما مراجعة
جدية حتى اليوم ، تعيد النجوم إلى مداراتها الأصلية ، وتجد للعرب مكانا تحت شمس العالم
الجديد .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق