في المدينة العراقية الجميلة الصغيرة المطلة على احد فروع نهر دجلة الخالد والتي تحيط بها الاراضي الزراعية الواسعة والقريبة من الاهوار والتي تزرع فيها الحنطة والشعير والشلب ( الرز) على مدار العام مما جعل هذه المدينة الصغيرة ،كبيرة بتجارة الحبوب التي تنتجها تلك الاراض الواسعة ، ومختصة بجرش وهبش وطحن مختلف انواع الحبوب ،بالمكائن الكبيرة والتي تعمل بشكل مستمر وتقوم بتصديرالانتاج الى محافظة البصرة ميناء العراق ومنها يتم اصدار انواع الحاصلات الزراعية الى خارج العراق بعد سد حاجة البلد من تلك الحاصلات ..
يعجز الانسان عن وصف تلك المدينة ومحاسنها ،
شارع النهر مبلط وبيوت الميسورين مطلة على هذا الشارع ، اسواقها تتميز بتوفر انواع
البضائع ..
اغلب الشباب يعملون في المكائن ، او الاعمال
التجارية المختلفة او في اعمال البناء ، او بيع الاسماك ، او بيع الطيور التي ترد للمدينة
من الاهوار ، او السمن الحيواني ( الدهن الحر ) اوبيع الدجاج ، ومن يطلب العمل يجده
بسهولة لذا لاترى من الشباب الا القليل دون عمل ، وإن وجد شابا دون عمل فإن سبب ذلك
يرجع للشاب نفسة لاعتماده على اهله ..
سلمان شاب نشيط عضلاته قوية يعمل في احد المحلات
التجارية للحبوب بصفة ( حمال) ،وما يحصل عليه من اجور الحمالية يدخر نصفه للمستقبل
ويكتفي بالنصف الاخر لسد احتياجاته ..
حمد صديق سلمان يعمل بنفس العمل في محل آخر ،
شاب قوي ومرح لايهتم باي شيء لذا فانه يصرف جميع مايحصل عليه من عمله ، لايفكر في المستقبل
أبداً، ودائما يكرر القول المشهور اصرف ما في الجيب يأتيك مافي الغيب ؛؛
سلمان الابن الوحيد لوالدته، يسكن معها في بيت
من الطين في اطراف المدينة ،في نهاية عمل كل يوم يقوم بتسليم نصف ما يحصله من عمله
الى والدته لصرفه على متطلبات البيت من مأكل ومشرب؛؛وان المبلغ الذي يسلمه لها يكفي
للمصروف اليومي ، ويبقى منه مبلغاً بسيطاً تقوم والدته بادخاره عندها ؛
تستقبله والدته بالترحيب والتشجيع ، والثناء
عليه ، وتقدم له من طبخها اللذيذ، يتناوله
بعد خروجه من الحمام وارتداء ملابسه النظيفة ،سلمان يشعر بالسعادة والفرح وهو يرى والدته
بصحتها الجيدة وتستطيع القيام بواجبات البيت لوحدها..
- اللهم احفظ لي والدتي ومنَ عليها الصحة والسلامة
.
- اراك
مستبشرا ياسلمان ؟
- انا بخير يا أمي ما دمت أنت بصحة جيدة .
- وانا
أيضاً بخير وبصحة جيدة واكون افضل اذا وافقت على الزواج من فتاة تختارها بنفسك
؛
- لا يا أمي لم اتزوج في الوقت الحاضر الا أن
تتحسن ظروفنا
- نحن بخير ؛ والحمد لله ، لم ينقصنا شيء؛؛
- يتحسن حالنا اولاً الى افضل حال وبعد ذلك أفكر
في الزواج ..
- هل ينقصك شيء يا ولدي ؟؟
- الوقت مبكر على الزواج يا أمي ؛؛
- انا اريد ان ارى اولادك يلعبون في البيت ؛
وأطمأن عليك ؛
- ان شاء الله سيكون ذلك عن قريب بإذن الله
...
-احب ان توعدني ان يكون زواجك قريب ؛؛
- انشاء الله ؛
بعد العشاء خرج سلمان من البيت قاصداً المقهى
الذي يرتادها صديقه حمد يومياً ، لم يجده في المقهى في ذلك اليوم فرجع الى البيت
..
حمد يسكن مع والده المتقاعد ووالدته واخواته
الثلاث في بيت مؤجر وسط المدينة ،لم يساعد والده إلا في دفع الايجار الشهري فقط ولايساهم
في مصروفات البيت ،اما باقي المبالغ التي يحصل عليها من عمله ، يقوم بصرفها بالكامل
على نفسه وعلى اصدقاءه؛
وفي يوم من الايام و بعد ان تزوجت اخواته الثلاثة
ولم يبقى في الدار سوى حمد ووالديه التفت اليه والده:
- حان وقت زواجك ياحمد ، وأمنيتي ان اراك متزوجا
واولادك يلعبون امامي ويملؤون الدار فرحا وسرورا..
- لارغبة لي في الزواج يا ابي ..
- الى متى تبقى بدون زواج وأنا رجل مريض ؟؟
- من
اين ادفع مصاريف الزواج ؟
-واين المبالغ التي تحصل عليها من عملك اليومي
؟
- اصرفها بالكامل ؛ وهي لا تكفي لمصروفي اليومي
؛؛
- انت ياولدي لم تدفع سوى الايجار؛ وهل يعقل
ان تصرف
كل الاجور التي تحصل عليها ؛ الا تفكر في المستقبل
؟
- لم افكر في المستقبل ولها مدبر ..
- ياولدي المثل يقول العبد في التفكير والرب
في التدبير ؛ واراك لاتفكر في مستقبلك ؛ وهذ اغير صحيح ..
- الله كريم ياابي ؛
- والنعم بالله ..
لم يخرج حمد في ذلك اليوم الى المقهي الذي يذهب
اليه يومياً ، بل ذهب الى مكان آخر يتواجد فيه شلة من اصحابه الذين يصرف عليهم كل مايحصله
من عمله اليومي الشاق ؛
في اليوم التالي التقى به صديقه سلمان سأله اين
كنت ليلة البارحة؟ لم اجدك في المقهى ..
- كنت في الكازينو مع اصحابي..
- الا يكفيك ياحمد تذهب يومياً لهم وتصرف مالك
عليهم ؛ صدقني ياحمد لن يفيدك احد منهم ، وانا صديقك انبهك على أن تهتم بمستقبلك ،
وتوفر من اجورك للمستقبل ،لزواجك ، او شراء بيت تسكن فيه أنت ووالديك ..
- ضحك حمد مستهزاً بصاحبه ؛ معقولة أنا اشتري
بيت ؛؛
- لماذا لاتشتري بيتً لكم بدلا من بيت الطين
الساكنين فيه في اطراف المدينة ؟
- أما أنا فقد اشتريت داراً في وسط المدينة ،مع
ثلاث محلات
ملحقة في الدار؛ ومؤجرة حالياً، وسوف انتقل للدار
في نهاية هذا الشهر بإذن الله ..
حمد لم يعير اي اهتمام لكلام صديقه سلمان ؛ ولم
يصدق ماقاله ؛؛
واستمر على صرف ما يحصل عليه من اجور على ملذاته
وعلى اصدقاءه ، ولم يستمع لنصائح صديقه او نصائح والده ..
سلمان عندما استلم مفاتيح الدار الجديدة ، ذهب
مباشرة الى والدته يخبرها بانه اشترى داراً مع ثلاثة محلات مؤجرة للغير..
فرحت ام سلمان غاية الفرح وقبلت ولدها بين عينيه
،وقالت له :
- لم يبقى ياولدي الا ان تختار زوجة لك وتحقق
لي امنيتي بأن اراك سعيدا مع زوجتك واطفالك ..
- سيكون ذلك في وقت قريب باذن الله ..
استمر في عمله بعد شراء الدار، لمدة سنة كاملة
استطاع ان يوفر مبلغا محترما من عمله ومن عائدات ايجارات المحلات تكفي أن تكون رأس
مال بستطيع به الاشتغال بالاعمال التجارية..
وتم له ما اراد وباشر في اعمال التجارة بعد ترك
عمله السابق
وبذكاءه وحسن تدبيره ، حقق نجاحاً باهراً في
تجارة القماش وعُرف بصدقه وحسن تعامله ، وذاعت سمعته الطيبة بين اواسط التجار وبين
الناس ..
في احد الايام وبينما هو في محله وسط السوق ،
دخلت عليه امرأة عليها سمت الوقار والحشمة ، وكانت بصحبتها ، فتاة في غاية
الجمال والرقة ، وكانت رغم صغر سنها ، تشبه رفيقتها
الكبيرة في الحشمة والوقار ؛عرف سلمان من جاره
في السوق بعد ان سأله ، ان المرأة الكبيرة زوجة التاجر حسن ومعها ابنتها بلقيس الوحيدة
لهما وهي غير متزوجة ..
طلب سلمان من اصدقاءه التجار ، الذهاب الى والد
بلقيس لخطبتها والموافقةعلى زواجه منها ..
والد بلقيس يعرف سلمان ويعرف سمعته التجارية
الجيدة وكان معجبا به غاية الاعجاب لحسن تصرفه واخلاقة الممتازة لهذا فقد وافق بعد
أن شاور زوجته وابنته الوحيدة التي وافقت على الزواج منه وكانت هي الاخرى معجبة به
عند دخولها في محله في ذلك اليوم مع والدتها ، وسمعت منطقه وعذوبة كلامه وتصرفه المتزن
ذهب سلمان الى صديقه حمد الذي مازال حمالاً في
المحل ، وقدم له الدعوة للحضور الى زفافه ؛؛ فرح حمد كثيرا بخبر زواج صديقه سلمان واوعده
بأنه سيكون اول من يحضروتمنى له التوفيق
وهكذا تم زواج سلمان من بلقيس في يوم بهيج حضرة
كافة التجار
في سوق القماش ، وكان اول من حضر صديقه حمد
..
توسعت تجارة سلمان ، واصبح من كبار الملاكين
، لشراءه عدداً من الدور والمحلات ، والتي كانت تدر عليه بالاموال الكثيرة وخلال ثلاثة
سنوات رزقه الله ثلاثة اولاد كأنهم الاقمار ، وعاش سلمان في سعادة تامة مع والدته وزوجته
وابناءه الثلاثة ،اما حمد فقد بقي لوحده بعد ان فقد ابوية ..
فقد ماتت والدته وهي غير راضية على تصرفاته ،
كما توفي والده بعد مرضه بمدة قصيرة وهو غير راضي عنه ايضاً..استمر حمد على سلوكه ،
يصرف كل مبلغ يحصل عليه من عمله الشاق على نفسه واصدقاءه ، ويقول لمن يسأله عن حاله
،
( اصرف مافي الجيب يأتيك ما في الغيب )ولم يلتفت
الى ماوصل إليه صاحبه سلمان من مستوى تجاري
مرموق ، ومكانة اجتماعية عالية ؛ ومتمتعا بنعمة الاموال وبحياته الرغيدة كل ذلك بفضل
الله وتدبيرة وحسن تصرفه ..
الى ان تعرض حمد في احد الايام الى حادث عند
حمله الاكياس الثقيلة ، ادى الى كسر احد فقرات ظهره ، وعلى اثر هذا الحادث لم يستطيع
حمل اي شيء ،رقد في الفراش ولم يستطيع العمل ، ولايوجد عنده اي مبلغ يصرفه على نفسه
، فقام ببيع اغراض البيت ، الى ان باع كل شيء في البيت ولم يبقى عنده اي مال يصرف على
نفسه ؛
ذهب حمد الى اصدقاءه الذين صرف امواله عليهم
، وطلب منهم المساعدة، وكان كل صديق منهم يعتذر له بعدم وجود عنده شيء يعطيه له ،وقسم
منهم يقول له مع الاسف كانت عندي اموال يوم امس ولكنني صرفتها ولم يبقى شيء عندي ؛وهكذا
لم يساعده احد وقطعوا علاقتهم به ..
واخيراً لم يستطيع دفع ايجار البيت ، وهدده صاحب
الدار باخلاء الدار باقرب فرصة ، وبقي حائرا ً ماذا يعمل ، وهو في هذه الحالة
زاره صديقه سلمان ، ولما شاهده بهذه الحالة تألم
جداً وعتب عليه لماذا لم يعلمه بمرضه وبأحواله
التي وصلت لهذا الشكل؛؛
قام سلمان بتخصيص داراً له مؤثثة من كل شيء وافضل
من داره المؤجرة بكثير ، وطلب منه الانتقال إ ليها ، واخذ يصرف عليه ويدفع تكاليف الطبيب
والعلاج ، الى ان تماثل للشفاء التام وبعد ذلك اخذه معه الى السوق ، وخصص له محلا في
مكان متميز وزوده بالقماش المتنوع وعلمه كيف يتعامل مع الناس ..
وبعد ان تحسنت احواله ونجح في التجارة ،اصبح لديه المال الذي يؤهله الزواج
وفعلا اختار له صديقه سلمان فتاة جميلة من بنات التجار .. وتزوج حمد في يوم بهيج بعد
ان ترك شعاره القديم اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب ..
ورزقه الله من البنات والبنين الكثير، كل ذلك
بفضل وحسن تدبير صديقه سلمان ..
ولم ينسى موقف صديقه سلمان الوفي الذي انقذه
من الفقر والضياع ، و الذي اثبت له خطأ شعاره القديم ( اصرف مافي الجيب يأتيك ما في
الغيب )،واستمرت علاقتهم وهم في غاية السرور والسعادة ..
0 comments:
إرسال تعليق