تضعنا رواية "سيبندية" للروائي شوقي كريم حسن، للوقوف على
واحدة من التجارب السردية الروائية التي لها ميزتها وصفاتها وتفردها، فالمؤلف يقوم
بصناعة روايته بالأسلوب الذي يرتأيه، بعيداً عن الأساليب التي قدمت في فن صناعة
الرواية لبقية الروائيين، إذ أنه لا يعتمد على الأحداث كمادة خامة وينقلها بأسلوب
حكائي تقليدي، خالٍ من أي معالجات فنية تتطلبها الأحداث التي هي غالباً ما تكون
مستجزءة من واقع الحياة السياسية والاجتماعية والظروف والمتقلبات والمتغيرات التي
تحيق في البلد، بإعتبارها ظاهرة تحدث وسط الناس وبين الناس وعلى الناس، ويتحمل
الوزر الأكبر المواطن الذي يعيش خضمها وأوجاعها والامها ومعاناتها، وكما عرفناه في
أعماله السردية الروائية، فهو ينبري في أول مهامه كمواطن عاش تلك الأحداث
وتقلباتها وصراعاتها، ونال ما نال من قساوتها وجورها وظلمها، فيكون الطابع الأول
الذي يغلف الأحداث السردية هو هذا التأثر المنفعل والمتفاعل مع الاحداث ومدى تأثر المجتمع بسببه في الحقب
الزمنية التي مرت فيه، وهو وجه واحد من أوجه المعالجات الفنية للعمل الروائي الذي
يقوم بصناعته، تأتي بعدها اللغة السردية التي تكون منسجمة مع مسيرة وأسلوب تناولها أضافة الى تطعيمها باللغة
العراقية العامية المتداولة والتي تضمر بين انساقها الوجه الثقافي للبلد في تلك
الفترة، وهي لغة شعرية حسية روحية صافية منبعثة من صميم هذا التأثر، عميقة المعاني
والدلالات، وتحمل رمزية عالية تجتاج النص السردي الروائي، كما تحمل هذه اللغة بعض
الاشارات السيميائية التي تجعل المتلقي يتابع عملية السرد باسلوب مختلف، كونه يضع
عناصر وأدوات صناعة الرواية أمامه، ويحرك الأحداث وفق هذه الاحاسيس والمشاعر
المتوهجة والتي تحمل حساً درامياً، يحيل تلك الاحداث الى رؤية فنية تغوص في عمق
هذه الاحداث التي تأثر منها الشعب وذاق
الويلات والكوارث والالام العظام، وخسر الكثير، مثل الفترة التي أعتلى الحزب
البعثي منصة الحكم، وأزلامه الذين كانوا يترصدون حركة الناس ويعدون لهم حتى أنفاسهم، وحكم الدكتاتور الصدامي وما حدث فيه،
وكذلك يعود بنا الى الماضي بكتابات تاريخية مهمة، لنطلع على حكم الاسرة المالكة
وما حدث فيها من مجريات، وحكم عبد الكريم قاسم وماحدث له من انقلاب غير مجرى
الحياة السياسية نحو الأسوء.
كما نلاحظ في أعمال الروائي شوقي كريم حسن، التأثير الواضح بالكتابات
التي تخص المسرح، كونه كتب الكثير من المسرحيات، لذا فأنه يوظف الحس المسرحي
والحركة المسرحية والصوت المسرحي، وحتى حركة الشخوص على خشبة المسرح، ضمن أعماله
الروائية، كنوع من التجديد والتحديث، وخطوة نحو تطور الرواية، بجعل الرواية ممسرحة
وفق ما تقتضيه الاحداث، وقد يجد القارئ بعض الصعوبة في فهم ومعرفة هذا الاسلوب من
الكتابات التي تنتمي الى الرواية، الا أن العودة الى التاريخ واستحضار التفاصيل
المدونة من الحقب الزمنية ومعرفة ما حدث فيها يسهل الأمر ويعطيه مساحة واسعة من
التفاصيل التي تساهم في تسهيل مهمته ليعيش مع تلك الاحداث السردية الروائية، عندها
يحس أن تلك اللغة السردية التي تمنحه الكثير من المعاني والمشاعر والاحاسيس لها
وقعها المطلوب على روحه وعقله ويشعر بشاعريتها واهميتها.
وفي رواية "سيبندية" ينقلنا الروائي شوقي كريم حسن، الى
حقبة زمنية مهمة وقاسية، اختلت فيها موازين الحياة السياسية في البلد، وتضرر فيها
المجتمع وانقلبت حياتهم رأساً على عقب، الا وهي ظهور ميلشيات الحرس القومي عام
ثلاثة وستون من القرن الماضي، ابان سقوط حكم الزعيم عبد الكريم قاسم من الحكم،
واعتلاء منصة الحكم، الحزب البعثي متمثلاً بالرئيس عبد السلام عارف، والتي تشكلت
في هذا الوقت الحرج من الحياة السياسية، والذي كان الشعب يتخبط بحياة قاسية وصعبة
يملؤها البؤس والحرمان والقهر والحزن والجوع والفقر، لتكون تلك المليشيات مهمتها
تصفية كل من يعارض سلطة البعث، فقام باقتحام البيوت واعتقال رجال المعارضة للسلطة
آنذاك من وسط أسرهم، ونصبت المشانق في الساحات العامة، واعدموا أمام مرأى افراد
الشعب، وصارت الحياة غامضة ضبابية كئيبة حزينة، وسط هذا الصراخ والعويل والنواح
والبكاء، من قبل تلك الاسر، بل من قبل ابناء هذا البلد، الذي ابتلى بتلك
المليشيات، وسط الوضع المرتبك لحياة البلد.
وسط هذا الوضع المرتبك المتخبط بالفوضى، يدخل الروائي شوقي كريم حسن
وكما هو ديدنه في كل عمل روائي يقوم بصناعته، كونه جعل حياة الشعب وما عاناه
الرسالة الانسانية والخطاب الأدبي الذي يعمل من أجل تحقيقه، ينبري المؤلف ليقدم
لنا روايته " سيبندية" حيث أنه يختار عناوين أعمال الروائية بكل حرص،
والتي هي دائماً فيها إشارة سيميائية تؤكد حضور الحس الشمولي، أي أنه يختارها
قريبة الى اهتمام الشعب، مثل خوشية، هتلية، شروكية، وغيرها من العناوين التي اهتم
بها، وبنية العنونة في هذا الرواية، تشير الى ازلام الحرس القومي، لأنهم لا ينتمون
الى هذا الشعب، وخارج قوانينه وعاداته وتقاليده وطقوسه ومبادءه، هكذا فأن تسمية
سيبندية تنتمي الى هذه الفئة، كما أن الروائي عمد الر ترميز اسمائهم برموز تنطبق
وطبيعة اعمالهم اللا اخلاقية، فالشخوص كناهم بكناً تليق بهم، مثل: الكركدن: القمئ،
السطل، ابن الحفافة، ليزجنا وسط تلك الاحداث الملتهبة، ويكون فيها السارد العليم،
هو الذي يقود دفة الاحداث،ليقدمها بذات النسق الفني الذي أشرت اليه في هذا البحث،
ويقدم لنا الروائي في مستهل روايته هذه تنويه، وهو عتبة نصية موازية، ومدخل اول
يهيأ القارئ نحو تفاصيل ومجريات الاحداث في النص، إذ يقول فيه:
" ذات حكاية.. سمعت حكيماً خبر الدنيا وخفاياها يقول:
- محال تغطية الحقيقة بغربال.. وهذا ضرب من ضروب المستحيل، فطنت الى
المعنى وما أريد منه، وما الحقيقة التي تحتاج منا الى اعادة كشف. لذا ما جاءت به
المسرودة حقيقة من المنبوشات بين أطمار ماض قريب مسكوت عنه، رغم أهميته في تأسيس
ما بعده من حروب وفواجع وانتهاكات انانية ما تزال مستمرة حتى الساعة.. قد لا نصدق
ما قيل ودوّن كونه ضرباً من الخيال.. ما أقبح الواقع الذي ينافس الخيال ويتغلب
عليه"
وتنحى عناوين الفصول ذات المنحى، إذ أنها متفاعلة ومنفعلة مع
الاحداث، لتهيأ المتلقي لنقلة جديدة من تفاصيل الاحداث، وهي على سبيل المثال لا
الحصر:
" مدخل...
أبجدية اليتم
( المساحة واسعة بين القيم والرذيلة) ( ص 7)
وهي عشرة مداخل للرواية، يضعنا الروائي مع مجريات الاحداث والتطورات
التي حصلت فيها.
ونجد هنا أن السارد العليم، وقد يكون المؤلف هو ذاته مرتدياً قناع
السارد العليم، وهو لا ينقل لنا الاحداث نقلاً تقليدياً كما هو حال النصوص السردية
الروائية،بل أنه يضع هؤلاء الشخوص والذين يمثلون الحرس القومي، أمام مرأه ومرأى
القارئ، ليحاكمهم، ويؤنبهم، ويعاتبهم، ويسخر منهم، وهو يسير بالاحداث نحو سموها
وتصاعدها:
" ليواجه (الكركدن) واتباعه من حملة الشارات الخضر الموشاة بـ (
ح. ق)، تبادلا النظرات بشراسة ذئبين جريحن، ادمتهما خصومات الايام وجحودها، صاح
الكركدن بصوت يشبه صوت خرخاشة الاطفال.. أين هو ؟!!
رد الاب بعصبية متعالية.. من تريد؟!!
قال الكركدن مشيراً صوب صالة الاستقبال بفوة غارته.
- ابنك الشيوعي الكافر الذي يمجد الهالك الارعن ويحلم بدولة اشتركية
رد الاب بصوت تعالى رويداً كأنه يعلن عن بضاعة للبيع.
- من تقصد بابنك الشيوعي.. عبد الكريم تربية يدي وانت تعرف من أكون
الى من انتمي.
- أنا لا اعرف شيئاً وابنك مطلوب في المقر. " (ص 56 )
وهكذا تدور دائرة الاحداث، من خلال نقل الروائي لوقائع سياسية
وحياتيه عاشها الشعب في ظل ظروف ملتبسة وصعبة من حياة الشعب، ويستمر الروائي بنقل
تفاصيل مهمة من تحركات الحرس القومي ومداهمات البيوت، نصب المشانق، كما يمر المؤلف
على الحياة السياسية للاسرة المالكة، وكذلك حكم الزعيم، وينقل لنا الروائي حال
الامهات الثكالى بابناءهن، نواحهن وبكائهن، والكثير من التفاصيل، بأسلوب متفرد
وسرد جديد، ليختم روايته:
" – كل الحروب التي عشناها ونعيشها ما هي الا عقاب تلك اللحظة
الوقحة التي غسلت جسد الملك الشاب بخياناتها المتواصلة حتى الساعة، سلسلة من
القتلة الذين لا تهدأ أوراحهم ولا تستكين الا برية الدم.. الصندوق مليء بالذكريات.
كل ما أطلبه أن تحافظا عليه وتقديس هيبته، أن به السر الاعظم الذي
لابد للأيام من كشفه وهتك خفاياه.
الحكاية لم تنته بعد .........
وربما سأجد طريقة للبحث بين خفاياها مرة ثانية .
رواية "سيبندية " للروائي شوقي كريم حسن، تمنحنا فرصة
للاطلاع على اسلوب المؤلف في صناعة روايته، وكذلك لكي نطلع ومن وجه جديد على حقائق
تاريخية مهمة من الحياة السياسية التي حدثت في البلد، واهتمامه المؤلف بهموم الشعب
ومعاناته.
من اصدرات دار العراب – دمشق- ودار الصحيفة العربية – بغداد- لعام
0 comments:
إرسال تعليق