لا يختلف أثنانِ على مكانةِ السارد العراقيّ شوقي كريم حسن في
السردية العراقية والعربية, فهو ساردٌ له الحضور المهم الذي لا يشغلهُ غير,
والسردُ عند شوقي له ميزة خاصّة به ذاته, ويكاد أنْ يؤسس لحالةٍ تميّزه عن
الآخرين, فرواياتهُ لا تجد كبير عناء في نسبتها له, وهذه المنزلةُ المميزةُ جعلتْ
من قرّاء رواياتهِ يعرفونها منذ العنوان الذي هو عتبة أولى.
السردُ في روايات شوقي كريم حسن هو سردٌ فنّيٌ , توجدُ فيه كل تقنيات
السرد الحديثة والجديدة والكلاسيكية حتّى, هو ينتقي من كافة الأساليب ويبني عالمه
الروائي من خلطةٍ جميلةٍ يتخذها في مختبره الذي يطبخه على نارٍ هادئةٍ فتكون
محصّلة هذا التأني وهذا الخلط وهذا الانتقاء أنْ يخرج العمل السردي بأبهى حُلّةٍ ,
فأنت لا تقرأ رواية لبابة السر حتّى تتركها على جنب وتذهب إلى مرجعياتٍ كثيرةٍ
وألغازٍ أكثر يضمنها في بنية السرد, وبعدها تعود لتسأل عن الآلية التي يوظفها في
السرد ليأتي بروايةٍ ناضجةٍ فنّيًا.
المرجعياتُ الثقافية والمعرّفية كثيرة عند شوقي كريم حسن وهي واضحة
في نصوصهِ السردية, هو يستدعيها في المكان المناسب والفرصة الأنسب, هذه المرجعيات
تُمكّن المبدع من أنْ يجعل هذه النّصوص عصّية على الاستهلاكية في القراءة, فهي
نصوصٌ غضةٌ طرّية قابلة لأوجه القراءات الكثيرة, وكأنّ في كُلِّ قراءة تلمح وجهًا
جديدة من الأوجه المتعددة, هذه التعددية في القراءةِ هي سرّ البقاء والديمومة
والمحافظة على المكانة في السردية العراقية والعربية على نحوٍ أعم وأوسع, فالنطاقُ
المحلّيُ بداية الشروع والتوّسعة نحو الفضاء العام, هذا الفضاءُ يكونهُ مزيج من
اِتحاد ثقافات وحِضارات تتشكل معًا وتصب في نهر الثقافة الإنسانية الشامل , الذي
يجمع الإنسان في أيّ مكانٍ يكون وفي أيّ زمانٍ يوجد.
يتكأ الروائي شوقي كريم في روايته هذه على ثقافةٍ سياسيةٍ واسعةٍ
وقراءةٍ متواصلةٍ لأحداث التاريخ السياسي, فأنت تلمح وكأنّه يقدمُ سيرةً مدوّنةً
لتاريخ الدولة العراقية, لكنّه يرجحُ فيما بين هذه الأنظمة, فالمرأةُ الكبيرةُ (
حبوبته) لمْ تكن إلا إنعكاسًا لما كان يهيمن على عقول وأذهان وتصوّر النّاس
ورؤيتهم إلى الشخصية المثيرة للجدل في التاريخ العراقي عبد الكريم قاسم, هذه
الشخصية أحسبها شخصية ستبقى مثيرة للجدل حتّى أمد بعيد في المستقبل, هذه الأدلجة
لا تُعاب على السارد فهو حرٌ في أيةِ رؤيةٍ يراها, فالسردُ سردٌ لا يشترط الذاتية
على المبدع.
في رواية سيبندية الصادرة عن دار العراب ودار الصحيفة في طبعتها
الأولى في سنة 2023 يؤسس المبدع لسرديةٍ تُمثله هو ذاته, وكأنّها هُوية سردية
لشوقي كريم حسن, إنه قارئٌ جيدٌ للتاريخ الحديث وقارئ نهمٌ للسياسة, فالسياسةُ
ثيمةٌ لمْ تغبْ عن أعماله السردية إطلاقًا, هذه المعرفة السياسيةُ جعلته يصوّر
الأحداث تصوّيرًا أدبيًا وسياسيًا, فأنت تجدُ النقد الضمني لرؤى الأنظمة التي
تعاقبت, وتجد الميل إلى نظامٍ معينٍ, وهذا الميلُ هو ميل الشخصية التي قدْ تعني
المبدع وقد لا تعنيه إطلاقًا.
ما تميزتْ بهذه رواية سيبندية أنّها روايةٌ سياسيةٌ ولكنها منسوجةٌ
بتقنية تجعلها تميل إلى أنْ تكون رواية اجتماعية أيضًا, فالشخصياتُ تُعبّر عمّا
يُمثل شريحة كبيرة من المجتمع العراقي, ومن هنا تلمح أنّ ثيمةً مهيمنةً في كُلّ أعمال شوقي كريم حسن هو ثيمةٌ حاضرة في
أعمالهِ كافة وهي ثيمة إبراز ظهور وأهمية الهُوية الوطنية العراقية بصورةٍ تحفظُ
ملامحها العامة وتحافظ على ذاتها من
عمليات الهدم والتشويه التي هي محاولات محمومة لمسخ الهُوية الوطنية. يبدو التاريخ
أو احداثهِ مهمة ومركزية عند السارد وهو كثيرًا ما يستعين به في سردياتهِ منه
التاريخ القديم جدًا ومنه القريب أو المعاصر. الحكاية التاريخية التي نعني بها هي
آلية أو كيفية السرد, ونقصد بها الطريقة التي يسرد بها المبدع روايتهُ, هذه
الطريقة حرّكية وفاعلة, فأنت لا تترك القراءة حتّى تنتهي من الفصلِ كاملًا ولا
تنتهي من الفصلِ حتّى تأتيك الرّغبة العارمة في المواصلة والمُضيَ في القراءة حتّى
تتبع السارد حتّى آخر نفسٍ له, طريقة شوقي كريم حسن مشوّقة وتعتمد على التشويق
كثيرًا من خلالِ مدّ السرد بالمعلومات ِ واعبر استعمال لغة محلّية يوظفها في
الحوار الثنائي ليكونَ التفاعل الإيجابي بينه وبين المتلقي مستمرًّا.
الهُويةُ التاريخيةُ التي يريد أنْ يبرزها المبدع هي هُوية محلّية
وطنية ولكنّ حتّى هذه الهُوية أصبحت محط جدل كبير واختلاف بين آراء كثيرة! هذه
الآراءُ تمثل المجتمع العراقيّ الذي يملك المبدع معرّفة واسّعة في كُلّ خباياها,
ولمّا صارت هذه الثيمة تاريخية تجد أنّ المبدعَ يتعاملُ مع الحكاية التاريخية وفق
منظور السردية التاريخية, فليس اعتباطًا أنْ يكوّن أو يخلق المبدع من شخصية (
حبوبته) ساردة لتلك الرؤية المهيمنة عند طبقة أو شريحة واسّعة من الشعب العراقي,
وليس اعتباطًا أنْ يستعمل مفردة ( حبوبة) استعمالاً عشوائيًا, فهذه الشخصية هي
أفضلُ من عبّر ويُعبّرُ عن شخصيةٍ بأحداث ووقائع وزمن الحقبة التي يكتب بها
المبدع, فتوظيف هذه الشخصية ليس إلا آلية إبداعية تُسجّل للمبدع.
حواراتُ الرّواية هي حوارات عامية ولمْ تلمحْ مستوى أعلى من حيث
اللغة, بلْ لغة ووعي وثقافة الشخصية واضحة عبر استعمال اللغة وهذه ميزةٌ ثانية
للسارد أنّه ظلَّ يُحافظً على آلية السرد من حيث البناء الفنّيّ لكلّ شخصية, فبقيت
كلّ شخصية تحكي بلغتها لا بلغة المثقف المبدع الأديب, هذه الآلية في سرد الحكاية
جعل الرّواية تبدو وكأنّه صورةٌ فوتوغرافية منقولة نقلًا إبداعيًا وليس إنعكاسًا
فحسب, والإبداعُ السردي في القص تجلّى في هذا الانعكاس الذي وظفه توظيفًا فنّيًّا.
طريقةُ سرد الحكاية التاريخية عند شوقي كريم لا تنتهِ, فهي مستمرّةٌ
متواصلةٌ وكأنّ قراءته للتاريخ مختلفة عن الآخرين, كأنّ سردية الحوادث التاريخية
متوالية مستمرة كلما أنهيت حكاية جاءتك حكاية أخرى ويستمرّ السرد هكذا, فيقول شوقي
كريم في آخر الرّواية: الحكاية لم تنتهِ بعد.... وربما سأجد طريقة للبحث بين
خفاياها مرة ثانية.
هذا القولُ يبيّن بوضوحٍ طريقة المبدع التي تميّز بها هو ذاته, هو
يقرأ ويكتب وكأنّه حكّاء لا ينقطع سيل حكاياته ولمّا كانت مخيلتهُ مبدعة خلّاقة
يستطيع أن يسردَ ويستمر بالسرد دون فتورٍ أو مللٍ, لأنّ مخيلة المبدع مليئة ومعبأة
بالمواد الخام التي تشكل سرديته الكاملة.
هذه الرواية تحكي تاريخ العراق الحديث وتعنّى بالهُوية العراقية وإبرازها وما تعرّضت
له من محاولات الطمس والذوبان, هذه الرواية تُعيد النّظر بموضوعة الرؤية المجتمعية
للواقع السياسي غير المستقر, ورؤية المبدع النقديّة لهذه الأنظمة الحزبية
المتعاقبة التي لمْ تحملْ المشروع التنويري الجاد الذي ينقل الواقع السيء إلى
واقعٍ جيّد على أقل احتمال, طريقة سرد الحكاية أنّه ترك الحديث لشخصياتهِ أنّ تحكي
بلغتها وبثقافتها وليس لغة المبدع ذاتهُ, على الرّغمِ من أنّ الأدلجة تحضر في أيّ
عملٍ إلا أنّ بقاء الشخصيات حرّة في التعبير عن ذاتها ومعاناتها جعل من الرواية
تبدو وكأنّ حكاية شعبية يسردها الناس العاديين بلسانهم ووعيهم ورؤيتهم للحياة
السياسية.
إنّ تمكّن المبدع من الوعي التام بكُلِّ أساليب السرد البنائية جعلته
يتلاعب وفق ما يشتهي, فأنت تجد أسلوبًا تتابعيًا حينًا وتجد أسلوبًا بنائيًا حينًا
آخر وتجد أسلوبًا دائريًا في حينٍ آخر, هو صانّعٌ ماهرٌ, يأخذك ذات اليمين وذات
اليسار في رحلةٍ سرديةٍ بديعةٍ, يحكي لك المشهد العراقي الشعبي, فالروائي الناجحُ
الذي يدخل إلى صميم قاع المجتمع ويعبر عنه ويحكي سردياته ويعالجها معالجة فنّيّة
تبدو في آلية السرد أي كيفية الحكي, وأحسبُ أنّ روائي مثل شوقي يعرف تمام المعرفة
بكلِّ قضايا المجتمع ويدرك تمام الإدراك الطريقة التي يفكر بها المجتمع لماضيهِ
وواقعهِ ومستقبلهِ, لذا, تجد أنّ الرواية هي رواية شعبيةٌ من صميم الواقع, فهو
يأخذك معه ويجعل من المتلقي عنصرًا مشاركًا معه في قراءة التاريخ أو حكايته.
0 comments:
إرسال تعليق