أولاً التمهيد :
بسم الله الذي لا تتم السابغات من الأقوال والأعمال والأفعال إلا به وحده لا شريك له ؛ والصلاة والسلام على أشرف الخليقة والبرايا سيد ولد آدم وسيد الأنام وسيد الأنبياء والمرسلين وسيد الرسل أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبعد .
ثانياً المقدمة :
قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم :
( من رآني
فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي ) فمن رأى النبي محمد صلى الله عليه وسلم في
منامه - على الوصف لهيئة النبي وسمته الذي ذكرته مظان كتب السنة النبوية ومصادر
السيرة النبوية - فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم على الحقيقة !!! وقد قال صلى الله عليه وسلم ( إن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا
من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) .
وقد يفهم
بعضنا هذا الحديث النبوي الصحيح متنا وإسنادا فهما خاطئاً كيف ؟؟ !!!
أوله بعض مدعي
العلم بأن رؤيا النبي مناما فيها إبلاغ وتشريع
!!!!! نعم قد يكون المقصد من الإبلاغ التنبيه بالمداومة على الطاعة !!! وقد
يكون المقصد من الإبلاغ في الرؤيا التحذير من ترك السنة وهجرها أو عدم العمل بها
أو التهاون في تأديتها أو التهوين من شأنها وقدرها !!!!!
كل ما سبق وأنف معتبر من حيث المعنى وموافق لما جاء وأخبر به النبي - صلى
الله عليه وسلم - لكن أن يراد بالرؤيا تبليغ حكم شرعي ولو كان مذكورا فإنه لا يصح
البتة لأن الله سبحانه وتعالى أكمل هذا الدين الإسلامي الحنيف بوفاة الرسول - صلى
الله عليه وسلم - قال تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
ورضيت لكم الإسلام دينا " . وقال
صلى الله عليه وسلم :
( أنا آخر
الأنبياء ولا نبي بعدي ) !!!
فليس بعد
النبي محمد صلى الله عليه وسلم نبي وليس بعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم رسول
وليس بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم تشريع يبلغ وليس بعده حكم شرعي منسي ولا
آية قرآنية لم تذكر والدين تم وكمل بوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - !!!
وكذا
ليست الرؤى والأحلام لإبلاغ الأحكام !!! ثالثاً النص الشعري : 1- وقفت
إلى يوم اللقاء حياتي .. لرب يديم الذكر بعد مماتي 2- يشفعني في أهل
بيتي كما أتى .. ويغفر ماض حاضر مع آت 3- وأعظم ما في
النوم حقا رأيته .. جوار رسول الله سر حياتي 4- ففي نومتي
زرت الحبيب مسلماً ..دموعي وبركان
اشتياقي يواتي 5- فيا ليتني عند الرسول إلى الفنا ..
ولو كان نوما غارقا في سباتي 6- عليك إله العرش
صلى بقدره .. فما الروح وفت أعظمي ورفاتي رابعاً وقفات تأملية
على الاستهلالة :
لكل شاعر
تفرد وبراعة عند استهلالة قصيدته لكن شاعرنا المبدع انماز عن نظرائه باستهلالة
منمازة منفردة بمعان سامقة ألا وهي هبة شاعرنا الزاكي النبيل العطر عمره كله لله
تعالى من اليوم إلى أن يلقى الله تعالى - بعد عمر مديد - وما عمري وعمرك في الأصل
إلا هبة من الله تعالى عليك وعلي !!!!! فلكأنما بعدما
تبين وتحقق لشاعرنا ذلك أراد أن يرد الهبة والوقف من صاحبه إلى صاحبه !!!
وإذ لم
يفعل أو ينتوي المرء ذلك ردت الهبة وقد خسرت الأجر أجر احتساب النية بأن أعمارنا
هي كلها ينبغي أن تكون لبارئها وخالقها ومصورها الله تعالى رب العالمين !!!!!
فمن نوى
واحتسب أجر ؛؛ ومن نسي أو تناسى
فليعد !!!!! ومن فرط ولم ينو فليعد أيضاً بتصحيح نواياه
واحتساب أعماره الآنفة واللاحقة لربه ومولاه حتى يتولاه !!!!!
خامساً
الإشراقات الأدبية والنقدية واللغوية على
النص :
1- وقفت إلى يوم اللقاء حياتي
لرب يديم
الذكر بعد مماتي
الوقف لغة : الهبة
وعدم التصرف في الشيء الموقوف لأحد ما إنما هو عام لجميع المسلمين . ( إلى يوم
اللقاء حياتي )
ولكأنما يوم انتهاء الآجال هو أجمل الأيام ما دلنا على
ذي المعاني المستشفة : ١- أن اللقاء بعد
الهبة للمحبوب لا يكون إلا سعيداً !!!
٢- أن الهبة بالعمر ليس لها عوض !!!
٣-
الاختصاص اختصاص هذا اللقاء وأفضليته وذلك بتقديمه ضمن الجار والمجرور ( إلى يوم
اللقاء) على الفاعل ( حياتي ) للدلالة على الأهمية !!!
لرب يديم الذكر بعد مماتي
هنا
الجمال والإبداع والروعة تكمن في
تعلق الجار والمجرور ( لرب ) بالفعل ( وقفت ) من الوقف
والهبة كما فيها تلميح ب ( الاختصاص والخصوصية ) بأن هذا الوقف مخصص لله رب
العالمين وحده لا شريك ولا أحد معه !!! ثم
يتأتى الإبداع والتميز في استخدام جملة النعت ( يديم الذكر بعد مماتي) لاستشفاف تلكم
المعاني :
1- الحياة
الدائمة آباد الآبدين القيومية لله رب العالمين وحده !!!!!!!
2-الموت والفناء على جميع المخلوقين !!!!!
٣- حسن
الظن بالله تعالى لأنه رب ( يديم الذكر ) - لي - بعد مماتي !!! ٤- مفهوم المخالفة
في علم أصول الفقه نستشف منه خلاف وعكس المعنى الآنف ( الله تعالى لا يذكر غير
المحسنين به بعد مماتهم ولا في حياتهم ) !!!!! - نعوذ بالله تعالى أن نكون من
هؤلاء - .
2- يشفعني في
أهل بيتي كما أتى ..ويغفر ماض حاضر مع
آت أول ما
نلمحه من جمال وإبداع في ذا البيت استمرار المعاني العميقة السامية المستشفة الآتي
ذكرها : ١- استمرارية حسن الظن بالله
تعالى ذا بأنك إذ أحسنت الظن به بأن جعلته ( تمنيت منه ) بأنه سوف يجعلك شفيعا لأهلك يوم العرض عليه !!! ٢- استخدام
المضارعة للدلالة على دوام واستمرارية الحدث ( الشفاعة الحسنة ) . ٣- التلميح بالتناص من قوله تعالى : " ومن يشفع شفاعة حسنة
يكن له كفل منها " . ٤- الإيجاز
بالحذف : في قول شاعرنا : كما أتى والتقدير كما أتى وثبت ذلك في سنته الشريفة ! ٥-
ألا وهو ثبوت شفاعة أهل القرآن الكريم والشهداء لأهليهم وذويهم يوم القيامة !!! ( ويغفر ماض حاضر مع آت )
المغفرة
والغفران لغة : المحو والتغطية .
فلكأن ربنا
محا الآثام والمعاصي وغطى سيئها وكشف وأظهر محاسنها وجلاها أمام ملائكته يوم
القيامة وهنا أيضاً نلمح التناص من قول ربنا تبارك وتعالى ذكره وجل وعظم شأنه
لملائكته في الحديث القدسي :
هؤلاء عبادي جاءوني غرلا شعثا يستغفرونني !! لكن ما نلمحه أيضاً في الشطر الثاني من البيت
عدم توفيق شاعرنا المبدع الموهوب لغوياً في لفظتين هما في قوله ( ويغفر ماض حاضر )
ذا لأن الاسم المنقوص تحذف لامه ( الياء) في حالتي الرفع والجر فنقول :
هذا ماض
غير حسن ؛وعلى ماض تعيش الذكرى
أما عند
النصب فترد لامه وتزداد الألف للتنوين فنقول :
ويغفر ماضيا حاضرا آت
بحذف (
مع ) من الشطرة الثانية لاستقامة الوزن الشعري للبيت في تلك الشطرة مع نصب حاضراً
أيضاً تابعة لما قبلها !!!
3- وأعظم ما في النوم حقا رأيته .. جوار رسول الله سر حياتي أول ما نستشفه من معان في
هذا البيت الآتي : ١- استخدام المفاضلة في
المنام باستخدام صيغة التفضيل العامة ( أفعل التفضيل ) في قوله : ( وأعظم ) وعود
تلكم العظمة في المنام على رؤية النبي محمد صلى الله عليه وسلم !!! ٢- استشفاف أسلوب المخالفة في علم الأصول بأن
رؤيا النبي حق وما عدا رؤياه أضغاث أحلام. ٣- صحبة النبي في المنام خلاف صحبته في
الآخرة خلاف صحبته في الدنيا أعني :
صحبة صحابته - رضوان الله عليهم - في الدنيا. لكن يتبادر إلى الأذهان تساؤل
هنا :
ما
خبر ( وأعظم ) ؟؟ هل هو ( حقا ) ؟؟ !!
أم هو (
حقا رأيته ) ؟؟ !!
إذا
اعتبرنا ( حقا ) خبرا فصوابها ( حق ) واعتبار جملة ( رأيته ) جملة نعت ل ( حق )
.
وإذا وجهنا
الإعراب إلى أن الخبر ل ( أعظم ) جملة ( حقا رأيته ) على توجيه حقا مفعول به لفعل
محذوف يفسره مابعده وجملة رأيته حقا على تأويل ( وأعظم ما في المنام رؤيتي النبي
حقا ) !!!
4- ففي نومي زرت الحبيب مسلماً
دموعي وبركان اشتياقي يواتي ..
أول ما نلمحه في هذا البيت وما يستشف من معان :
1- التخصيص
بتقديم الجار والمجرور ( ففي نومي ) على الجملة الفعلية ( زرت الحبيب مسلماً ) للدلالة
على أن الزيارة في المنام هي الرؤيا الصادقة التي رأى فيها شاعرنا النبي الكريم
سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - !!
٢- التخصيص في
الشطرة الثانية من البيت بتقديم ( دموعي ) وواو المعية ( وبركان اشتياقي ) على
الفعل ( يواتي ) !!! للدلالة
على تآزر العينين مع الفؤاد حيث تآزرت دموعه مع بركان شوقه لرؤيا النبي على
الحقيقة في المنام !!! والمواتاه
لغة : التصادف والمصادفة باللقاء على غير توقع من الرائي !!! 5- فيا
ليتني عند الرسول إلى الفنا .. ولو كان نوما غارقا في سباتي البراعة هنا تتجلى في
استخدام حرف التمني ( ليت ) لاستحالة العندية لدى الشاعر حتى يأتيه اليقين بعد عمر
طويل مديد مليء بالطاعات والخيرات والمسرات - إن شاء الله تعالى - ثم استخدام ( لو ) كحرف وأداة التمني أيضاً بتخفيف العندية
باللقاء والرؤيا عند المنام لا اليقظة !!!
6- عليك إله العرش صلى بقدره .. فما الروح وفت أعظمي ورفاتي في ذا البيت نلمح
الآتي :
١- استخدام اسم الفعل ( عليك ) بمعنى يلزمك
لا يصح من حيث المعنى فلا إلزام من المخلوق على الخالق !!! ٢-
وإنما الخالق يلزم نفسه وذاته المقدسة بما يشاء وبما يريد وليس لعبد أو مخلوق أن
يذكر أن على الله تعالى أن يفعل كذا وكذا !!!!!
بل .الله تعالى وحده هو الذي يفرض على نفسه وذاته
المقدسة أن يغفر مثلاً لعبيده التائبين وليس لعبيده التائبين أن يطالبوه بالمغفرة
ويوجبوا عليه الغفران ورفع السيئات !! ٤- ( إله العرش ) جاءت في نسخة الشاعر على
صفحته ( بالماسينچر ) برفع لفظة ( إله )
!!!!!
وهي منادى
مضاف معرب منصوب حذفت أداته ( يا ) وهو
منادى معرب مضاف ولأنه في الأصل مفعول به لفعل محذوف تقديره أدعو ( إله العرش )
!!! ٥-
( صلى بقدره ) التساؤل المطروح هنا هو :
هل الفعل ( صلى بقدره ) عائد على ( إله العرش ) أم عائد على الشاعر في
البيت الآنف للبيت الأخير ؟؟؟ فإذا كان
العود على ( إله العرش ) فيكون من الأليق استخدام فعل الطلب ( صل ) كأنما هو طلب
منا بصلاة الله تعالى على نبيه وعبده محمد
!!!
أما إذا كان العود على الشاعر في البيت الآنف للبيت الأخير فيجوز استخدام
صيغة الماضوية ( صلى ) بوزن فعل بتصعيف عينه بتوجيه المعنى إلى ( صلى الشاعر صلاة
على الرسول صلى الله عليه وسلم بقدر عظمة وشأن النبي بالنسبة إلينا ) صلاة تليق
بقدره ورفعته !!!!! أما صلاة الله
تعالى على نبيه ورسوله وعبده محمد صلى الله عليه وسلم فهي الرحمة من الله تعالى
علينا بإرساله إلينا كيما يكون سبباً في هدايتنا إلى الحق وسبل الرشاد وإنقاذا لنا
من التردي في المهالك بالكفر والشرك والظلمات !!!!! ( فما الروح وفت أعظمي ورفاتي ) البراعة والجمال يتأتيان
هنا في ملمح استخدام النفي بدخول ( ما ) العاملة عمل ( ليس ) على الجملة الاسمية
لاستشفاف معاني الاستمرارية والديمومة للشاعر ما بقي وحيي !!! ثم المبالغة المستساغة في
ديمومة الوفاء للرسول بعد مماته إيفاء بحقه عليه وعلينا وعلى الناس جميعاً بأن
أرسله الله تعالى رحمة للعالمين وهنا نلمح التناص المختتم للقصيدة المستشف من قوله
تعالى :
" وما أرسلناك إلا رحمة
للعالمين " .
سادساً
المختتم :
وأكتفي
بهذي القراءات المتأنية والإشراقات النقدية واللغوية على رائعة حسام البيباني ( فيا ليتني عند الرسول إلى الفنا ) فلئن وفقت فبتوفيق من الله تعالى علي ذا لأنها
في حق النبي أولاً وآخر !!!!!
ولئن زللت أو قصرت في بعض المواطن أو الجوانب
فلأنه عمل بشري يعوزه الكمال ويعتريه النقصان والعثار والزلل !!
وما كنت
لأسطر تلكم السطور لولا تذليل وتسخير المولى عز وجل لي أن أكون خادم النبي بأبي هو
وأمي وخادم علوم العربية وعلوم الشريعة الإسلامية وخادم شعراء العربية الأنقياء
الأطهار الزكاة المنافحين عن العربية في شعرها العربي العمودي الأصيل .
" وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين " .
خادم النبي
سيدي وسيدنا أجمعين عليه أفضل الصلوات والتسليمات وسيد ولد آدم وسيد الأنام
والبرايا وسيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله الصادق الوعد الأمين
وعلى آله وصحبه أجمعين .
سطر تلكم الدراسة الأدبية والنقدية
واللغوية الراجي محو عثراته وزلاته وعفو مولاه :
رفيق فهمي واصل
ناقد أدبي
وكاتب صحفي بجريدة
الزمان المصري
القاهرة في فجر
السبت الموافق 15/7/2023
0 comments:
إرسال تعليق