برغم كلام كثير يقال عن مفاوضات لإنهاء حرب أوكرانيا ، لا تبدو الفرص قائمة فى المدى الأقرب ، فالتناقض حدى ، والحرب تواصل اشتعالها مع هطول ثلوج الشتاء ، ويصعب تصور أدنى استجابة من موسكو لمطالب الغرب والرئيس الأوكرانى ، وقد حسمت روسيا قرارها أواخر سبتمبر الفائت ، وأعلنت ضم المقاطعات الأربع (دونيتسك ولوجانسك وزاباروجيا وخيرسون) ، إضافة لإقليم شبه جزيرة "القرم" ومدينة "سيفاستوبول" ، وما من احتمال مرئى للرجوع عن القرار ، وهو ما أكده "ديمترى بيسكوف" المتحدث باسم الكرملين مرات فى الأيام الأخيرة ، ورد باستهجان على "خطة سلام" الرئيس الأوكرانى" فولوديمير زيلينسكى" ، التى أبلغها لقمة السبع وللرئيس الأمريكى "جو بايدن" فى اتصال هاتفى مطول .
موسكو من جانبها ، لا تتوقف كثيرا ، وربما لا تبالى
بدعاوى خمسين دولة فى التحالف الغربى الذى يحاربها ، وبحجة أن روسيا تقوض سيادة وتستولى
على أراضى دولة مستقلة معترف بها ، ويسخر الروس من أمريكا وحلفائها وتوابعها ، ويذكرونهم
بعشرات المرات ، التى اعتدوا فيها على سيادة الدول ووحدة أراضيها ، وفى جهات العالم
الأربع ، وفى أوروبا ذاتها ، على نحو ما جرى ويجرى مثلا من سنوات فى "صربيا"
، وإجبارها بالقصف على ترك مقاطعة "كوسوفو" ، وإعلان انفصالها والاعتراف
باستقلالها ، وتستند موسكو بالمقابل إلى مبدأ "حق تقرير المصير" الوارد أيضا
فى ميثاق الأمم المتحدة ، وتعتد باستفتاءات شعبية أجرتها فى المقاطعات الأربع موضع
النزاع ، وفى شبه جزيرة "القرم" قبلها عام 2014 ، وكلها إجراءات لا يعترف
بها الغرب ، تماما كما لا تعترف موسكو بما جرى ويجرى فى "كوسوفو" ، وهو ما
يعنى أنه ما من سبيل لإقناع ولا لاقتناع متبادل ، وما من طريق للتفاوض فى هذه النقطة
بالذات ، اللهم إلا من باب فرض "الحقائق الجديدة" على الأرض ، وبالاحتكام
إلى حد السلاح ، وهو ما تواصله موسكو وقواتها ، التى تعرضت لانتكاسات خطيرة قبل شهور
على الأرض الأوكرانية ، دفعتها لانسحابات عشوائية من مناطق فى مقاطعة "خاركيف"
، ومن مدينة "كراسنى ليمان" فى مقاطعة "دونيتسك" ، ثم لانسحاب
بدا تكتيكيا وإراديا ومنظما من أراض فى "خيرسون" غرب نهر "دنيبرو"
، وجعل مدينة "خيرسون" صيدا مفضلا و"مدينة موت" ، يهرب منها بضعة
آلاف من الأوكران تبقوا هناك ، بعد نجاح القوات الروسية فى سحب نحو 160 ألفا من سكان
"خيرسون" إلى الضفة الشرقية للنهر ، واتخاذ مدينة أخرى عاصمة روسية مؤقتة
للمقاطعة ، وإيقاع القوات الأوكرانية فى فخ المنطقة الواطئة غرب النهر ، وتعقيد مهامها
فى البقاء هناك ، وفى امتدادات "خيرسون" لجوارها فى مقاطعتى "ميكولاييف"
و"دنيبرو بتروفسك" ، مع تركيز القصف بالصواريخ والطائرات المسيرة على تلك
المقاطعات الجنوبية ، وصولا إلى "أوديسا" ، وبهدف جعل الطموح الأوكرانى فى
الوصول البرى إلى "القرم" مستحيلا ، مع نقل القتال البرى الروسى إلى مقاطعة
"دونيتسك" فى الشرق ، سعيا لاسترداد مناطقها التى لا تزال بعد فى قبضة قوات
أوكرانية ، تحاول الصمود فى "باخموت" الساقطة بالمعنى العسكرى ، والتى يفتح
استيلاء الروس الوشيك عليها ، على طريقة الزحف مترا فمتر ، بما يفتح الباب لتقدم روسى
إلى المدينتين الأهم "كراماتورسك" و"سلافيانسك" ، مع استعادة
"كراسنى ليمان" طبعا ، ولا تبدو القوات الروسية فى عجلة من أمرها ، خصوصا
مع كسب زاد جديد من قوات "التعبئة الجزئية" ، واستثمار ظروف حرب الشتاء الجارية
، التى يزيد فيها الروس من حملاتهم الجوية والصاروخية ، وبهدف شل وتدمير البنية التحتية
الأوكرانية العسكرية والمدنية ، وتطوير موسكو لأجيال جديدة "انتحارية" من
الطائرات المسيرة ، باتت تمثل تحديا صعبا لأنظمة الدفاع الجوى البالغة التطور ، التى
تدفقت وتتدفق على "كييف" من واشنطن ودول حلف شمال الأطلنطى "الناتو"
، مع الآلاف من مولدات الطاقة وعشرات المليارات من الدولارات المضافة كمعونات طارئة
، فى محاولة لمنع الروس من تركيع أوكرانيا ، وإغراق مدنها وسكانها فى الظلام وبرد الشتاء
المميت .
الخلاصة إذن ، أن السباق إلى استمرار الحرب هو جوهر
ما يجرى ، وليست أحاديث التفاوض المتعجلة ، وقد أعلنها الرئيس الروسى "فلاديمير
بوتين" بوضوح ، وأكد استعداد موسكو لمواصلة الحرب لسنوات ، وأمر بمضاعفة الإنتاج
الحربى ، ودفع أسلحة روسية متطورة إلى الميدان الأوكرانى ، وبوضع اقتصادى متماسك متأهب
، تسنده إيرادات البترول والغاز الطبيعى التى تضاعفت فى عام الحرب ، والإخفاق الظاهر
لخطط تقييد الإيرادات الروسية ، بحيل تسقيف أسعارالطاقة ، وردود فعلها العكسية ، مع
الخبرة الروسية المتراكمة فى تجاوز تلال العقوبات الغربية ، وقدرة موسكو على فتح أسواق
بديلة وبشروطها ، حتى فى أسواق الغرب نفسه ، وفى أسواق أوروبا بالذات ، الجائعة لموارد
الطاقة الروسية الأرخص من غيرها ، مع اتضاح خديعة الأمريكيين لدول الاتحاد الأوروبى
الكبرى ، وجرها إلى حرب ذات طابع عالمى مع روسيا ، لن تقدر على تحمل مضاعفاتها الاقتصادية
بالذات ، إضافة لتربح أمريكا على حساب أوروبا ، وبيع الغاز الأمريكى البديل لها بأسعار
فلكية ، ومواصلة رفع أسعار الفائدة الأمريكية ، بما يدفع رءوس الأموال لهجرة أوروبا
إلى أمريكا ، واستمرار "بوتين" فى عملية "خض ورج" أوروبا تأديبا
وتهذيبا ، وبما يكشف تناقضات أطرافها البينية ، وعجزها عن التقدم لدور يميزها فى ميادين
صراع دولى بات متعدد الأقطاب ، تلعب فيه الصين الدور الحاسم ، بتحديها التنافسى الشرس
المعلن مع أمريكا ، وبتحالفها المحسوس المؤثر مع موسكو ، وبفوائضها التجارية الهائلة
مع كافة مناطق الدنيا عبر خرائط "الحزام والطريق" ، وبحيازتها لزمام المبادرة
، على نحو ما جرى فى أفريقيا مثلا ، التى بلغت تعاملاتها التجارية معها ستة أمثال نظيرتها
الأمريكية ، وبتفوق تجارة بكين واستثماراتها فى المنطقة العربية والآسيوية عموما ،
وهو ما تحاول واشنطن تداركه بعد فوات الأوان على ما يبدو ، ومن دون أن تنجح فى زحزحة
موقف الصين المساند لروسيا اقتصاديا بالذات ، مع مضاعفة التنسيق العسكرى بين بكين وموسكو
، فى مناطق "القطب الشمالى" و"المحيط الهادى" بالذات ، وتشكيل
خرائط صدام متسعة ، لا يتصور معها أن تنتهى حرب أوكرانيا بالتفاوض قريبا ، فقد تحولت
أوكرانيا وحربها ، إلى ميدان اختبار بالنار لحدود وقواعد العالم الجديد ، وإلى حرب
استنزاف لا ترحم ، تبدو فيها مقدرة موسكو أكثر ظهورا على استنزاف الغرب ، وعلى استنفاد
مخزونات الذخيرة الغربية ، فى حرب كان هدفها المعلن غريبا وأطلنطيا ، هو استنزاف وإضعاف
وهزيمة روسيا ، وهو الهدف الذى لا يبدو فى وارد التحقق ، فحروب الروس طوال التاريخ
المقروء ، تمضى على نسق بعينه ، وقوده الصبر والتمهل والتحمل ، وتوالى الهزائم بعد
الهزائم ، ثم يكون النصر الروسى المفاجئ الصادم فى النهاية ، وقد هلل الغرب لتراجعات
وقتية لحقت روسيا فى الحرب الجارية ، وصوروا وتصوروا وهما ، أن روسيا باتت على حافة
انهيار، وأن "بوتين" يمضى إلى عزلة دولية موحشه ، قد يوافق معها على مفاوضات
لإنقاذ ماء وجهه ، وهو ما يحدث عكسه اليوم ، فقد أوقفت موسكو جولة مفاوضات لتجديد معاهدة
"نيو ستارت" ، كانت مقررة فى "القاهرة" ، ودل السلوك الروسى على
تكتيك "بوتينى" ، مفاده أنه لا فرصة للتقدم فى المفاوضات النووية ، من دون
أن تبدى واشنطن سعيها للتفاهم ، والتسليم بشروط موسكو فى أوكرانيا ، ثم جاء خط سير
الحوادث ليدعم وجهة نظر موسكو ، وأن عمليتها العسكرية فى أوكرانيا كانت بلا بديل ،
ففى زلة لسان للمستشارة الألمانية السابقة "إنجيلا ميركل" ، انكشف ما كان
مستورا ، ومتواطئا عليه غربيا منذ عام 2014 ، فبعد ضم موسكو لشبه جزيرة "القرم"
، دارت مفاوضات ، شاركت بها "برلين" و"باريس" مع موسكو والرئيس
الأوكرانى وقتها "بوروشينكو" ، وجرى التوقيع على اتفاقيتى "مينسك ـ
1" و"مينسك ـ 2" ، وقد نصتا على منح حكم ذاتى موسع للأغلبية الروسية
فى مقاطعتى الدونباس "دونيتسك ولوجانسك" ، ووقف الإبادة الجماعية والثقافية
الأوكرانية للسكان ، بينما جرت الامور فى الاتجاه المعاكس ، وسقط 14 ألف قتيل من السكان
الروس ، وأعادت القوات الأوكرانية الاستيلاء على مدن كان حررها "الانفصاليون"
الروس ، وهو ما وفر لموسكو سببا لإسقاط الاعتراف باتفاقات "مينسك" ، التى
استخدمت ستارا لتكثيف حضور حلف "الناتو" فى أوكرانيا ، وكسب وقت لتدريب قوات
"كييف" على أحدث أجيال الأسلحة الغربية ، وهو ما اعترفت به "ميركل"
فى حوارها الأخير مع موقع صحيفة "دى تسايت" الألمانية ، وقالت ما يعنى أن
اتفاقات "مينسك" لم تكن إطارا لحل مشكلة سكان الدونباس ، بل لشراء فسحة وقت
استعدادا لحرب مع موسكو ، ومن وراء قناع القوات الأوكرانية ، وهو اعتراف يضيف مددا
لوجهة النظر الروسية ، ولتعويل موسكو عند التفاوض على حقائق السلاح وحدها .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق