فى فلسطين وحدها يحدث هكذا ، كان المشهد يخلع القلب فرحا وبشرا ، ثلاثة آلاف شاب فلسطينى "مقدسى" تدفقوا فى دقيقة إلى منزل الشهيد "عدى التميمى" ، وإلى واجب وشرف مواساة أمه المكلومة ، الحبيسة جبرا فى بيتها بضاحية السلام المجاورة لمخيم "شعفاط" على حواف القدس المحتلة ، وما تكاد الأم تفيق من ذهولها ، حتى يأتيها حشد آخر جليل ملائكى الطلعة ، كأنه قادم رأسا من الجنة ، أمهات الشهداء تتقاطرن من كل حدب وصوب ، كل أم شهيد تعرف نفسها فخورة باسم ابنها البطل ، وتنحنى لتقبل رأس أم "عدى" ، وتربت على كتفها وتأخذها فى حضنها ، صور توالت فى خشوع ، لا يرقى إلى مراتبه خيال صناع الدراما السينمائية ، لكنها جرت فى عفوية مرئية ، ربما لتلاقى وتكافئ دراما أخرى غير مسبوقة ، أحيا بها "عدى" ذكر وفعل آباء الأمة المجاهدين الأوائل ، فقد رحل "عدى" من دون أن يسلم نفسه لمطارديه الأعداء ، وكانت قوات الاحتلال فرضت حصارا خانقا على مخيم "شعفاط" وبلدة "عناتا" وضاحية السلام ، وراحت تبحث عن "عدى" فى كل حارة وزقاق ووراء كل حجر ، واعتقلت شقيقه "قاسم" للضغط عليه ، واعتقلت أمه فى منزلها ، وواصلت الحصار المقبض لعشرة أيام كاملة ، استعانت فيها دولة الاحتلال بالعملاء وبالمسيرات وبأعقد برامج تكنولوجيا التجسس ، ومن دون أن تصل لظل البطل ، الذى لم يكن قد أكمل بعد عامه الثالث والعشرين ، وظهر حليق الرأس فى عمليته البطولية الخارقة ، حين ترجل من سيارته عند حاجز "مخيم شعفاط" العسكرى ، وأخرج مسدسه من جيبه بهدوء وثبات ، وأطلق النار من المسافة صفرعلى جنود الاحتلال ، وصرع مجندة إسرائيلية وأصاب آخرين ، وقبل أن تنتبه قوات الاحتلال من وقع المفاجأة المذهلة ، كان "عدى" يعدو بسرعة البرق إلى زحام المخيم ، وإلى دفء وحماية شعبه وشبابه ، الذين سارعوا إلى حلق الرءوس تيمنا وتشبها بالبطل الأسطورى ، وتضليلا لأجهزة أمن الاحتلال فى المخيم وفى القدس ، وأزالوا كاميرات المراقبة المنصوبة فى كل مكان ، وأكثروا من ترديد وكتابة اسم "عدى" فى المكالمات والرسائل الهاتفية ، لكن "عدى" المختفى كان يفكر فى شئ آخر ، كان يريد أن يختم حياته القصيرة ببطولة أخيرة ، وكما كان هو المهاجم المزلزل عند حاجز "شعفاط" ، فقد اختار عند استشهاده العمدى زلزلة أخرى ، واقترب جدا من حراس مستعمرة "معاليه أدوميم" ، وأطلق الرصاص من المسافة صفر ذاتها ، كان فردا وكانوا جمعا ، ولم ينقطع رصاصه أبدا مع تكاثر الجراح وسيل الدم النازف من جسده الطاهر ، ولم يسكت صوت رصاصه إلا مع شهقة الروح الأخيرة .
لم تكن
هذه رواية ولا "عنعنات" ، بل صور حية فى "الفيديوهات" ، قد تكتمل
أسطوريتها مع رواية انتشرت عن وصية الشهيد الحى عند الناس وعند ربه ، والذى تجاوزت
بطولته خيالات الشعراء ، فقد تردد أنه كتب وصيته بخط يده ، وقال فيها وقت أن كان مطاردا
ما معناه ، "كنت أعلم أن عمليتى لن تحرر فلسطين ، لكنى أردت منها رسالة لشباب
فلسطين ، أن يحملوا مئات البنادق من بعدى " ، وشاءت الأقدار أن تتحول الوصية إلى
نبوءة تتحقق توا ، وأن تأتى معركة "نابلس" بعد استشهاده مباشرة ، فقد تعرضت
"نابلس" هى الأخرى لحصار ثم لاقتحام ، ودار الصدام عنيفا بالرصاص الحى فى
المدينة القديمة بقلب "نابلس" الممتدة ، وارتقى للشهادة ستة شباب فى أخضر
العمر ، توالت أسماؤهم مضيئة ملهمة على شريط البطولة الاستثنائية ، وهم "حمدى
شرف" و"مشعل بغدادى" و"قصى التميمى" و"حمدى القيم"
و"على عنتر" و"وديع الحوح" أحد قادة حركة "عرين الأسود"
، استشهد الستة وهم يقاتلون ، وعلا نجمهم مع سابقهم وسابعهم "عدى التميمى"
، وزينت أقمار الشهداء السبعة سماء فلسطين ، فى إشارة مقدسة موحية لانتفاضة الروح الجديدة
فى القدس ومدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية ، فيما بدت الهمجية والوحشية الإسرائيلية
مددا لانتفاض جديد ، عشرات الألوف خرجوا فى وداع الشهداء فى "نابلس" وقرية
"النبى صالح" ، ودعوة "عرين الأسود" لإضراب عام فى الضفة والقدس
وغزة نجحت بنسبة مئة بالمئة ، وزاد تسابق المدن والمخيمات لإنشاء كتائب سلاح جديدة
، عابرة للفصائل المتنازعة كلها ، من "كتيبة جنين" إلى "كتيبة الخليل"
إلى"كتيبة نابلس" ، التى ارتقى مؤسسها "إبراهيم النابلسى" شهيدا
وهو يقاتل قبل شهور ، وتحولت "كتيبة نابلس" من بعده إلى حركة "عرين الأسود" ، وقد صارت عنوانا
لانتفاضة شعب لا تهدأ حركته ولا تنهزم ، فقد
خرج الجيل الفلسطينى الجديد من قبو الفصائل وحساباتها الضيقة ، وانشقت قطاعات من أجهزة
الأمن الفلسطينية عن طاعة فعل الأمر الإسرائيلى ، وخرجت عن حيادها البارد فى
"معركة نابلس" المتصلة بالحصار والقصف والمطاردات حتى ساعة كتابة هذه السطور
، ولم يعد بوسع أحد أن يوقف انتفاضة شعب ، لم تشهد القدس والضفة مثلها منذ عشرين سنة
، حين كانت "الانتفاضة الثانية" فى ذروة اشتعالها ، وحين صمدت "جنين"
وحدها فى وجه حملة المقبور "آرييل شارون" ، التى فشلت فى وأد سلاح المقاومة
، تماما كما يجرى اليوم لحملة "كاسر الأمواج" التى يقودها "بينى جانتس"
وزير الحرب الإسرائيلى ، ويريد منها إطفاء جذوة انتفاضة الشعب الفلسطينى ، وعن ظن أن
التهديد بالقتل والأسر اليومى يخيف الشعب الفلسطينى ، ويخمد نار انتفاضته ، التى تتقد
أكثر مع وداع الشهداء ، ومع جنازات الاحتشاد الشعبى الهائل ، المصمم على اتصال الكفاح
حتى بلوغ أهداف التحرير الكامل ، وعلى مراحل تتدرج حتى تصفية المشروع الصهيونى ، وإقامة
دولة ديمقراطية شاملة على كل التراب الفلسطينى .
نعم
، فلا يهم عند الفلسطينيين ، ولا عند غيرهم ، أن يفوز "نتنياهو" أو خصومه
فى الانتخابات الإسرائيلية الوشيكة ، وهم يريدون كسب قلوب ناخبيهم المحتلين بقرابين
الدم الفلسطينى ، وقد أزهقوا أرواح المئات وجرحوا وأسروا الآلاف فى الشهور الأخيرة
الملتهبة ، وجعلوا حياة ملايين الفلسطينيين جحيما لا يطاق ، وفشلوا مع ذلك فى الوصول
لحكومة إسرائيلية مستقرة ، برغم توالى خمس دورات انتخاب عبر الثلاث سنوات الأخيرة ،
ومن دون أن يدركوا الحقيقة ، وهى أنه لا جدوى من تبديل الوجوه الكئيبة ، ولا فرق بين
"يائير لابيد" و "نفتالى بينيت" و"بنيامين نتنياهو"
، فكلهم لصوص ومغتصبون ومتعصبون وفاشيون ، وجيش الاحتلال يخسر كلما قمع وتجبر ، ويتراجع
بمعنويات جنوده ومجنداته ، ويوقع جموع المحتلين الإسرائيليين فى شراك الخوف من العمليات
الفدائية المفاجئة ، التى لم تعد حكرا على فصائل فلسطينية بعينها ، بل صارت رياضة شعبية
فلسطينية ، وفى كل الأراضى الفلسطينية من نهر الأردن إلى البحر المتوسط ، وكلما بدا
أنها قمعت ، عادت من جديد فى صورة أعفى وأكثر حيوية وابتكارا ، فالذى يتحرك هذه المرة
هو الشعب وأجياله الجديدة ، بعد أن ضاق الفلسطينيون بنزاعات الفصائل ، وتسابق القيادات
على كعكة سلطة مهينة ، يدرك الفلسطينيون اليوم أن ذهابها أجدى من بقائها ، وأن زوالها
يرعب الإسرائيليين لا الفلسطينيين ، فالسلطات الوطنية تنهض بعد التحرير ومعه لا قبله
، واتفاقات "أوسلو" وأخواتها أعاقت حركة التحرير الفلسطينية ، ووفرت لقوات
العدو عقودا من التوحش الاستيطانى والاحتلال منخفض التكاليف ، وهى تسقط اليوم بقرار
الشعب لا باجتماعات الفصائل ، ولم يعد لأى فصيل فلسطينى مخلص ، إلا أن يلتحق بحركة
الشعب الفوارة ، لا أن يصدر أوامر وتقييدات ، لن تجد من يطيع أو ينفذ ، ولدى الشعب
الفلسطينى تراث فريد من عبقرية التنظيم الذاتى ، وكل المحن التى توالت عليه عبر قرن
من الزمان زادته خبرة وتصميما على الفوز المحقق هذه المرة ، خصوصا مع توالد أجيال فلسطينية
جديدة ، أفضل تعليما وأعظم إقداما وتصميما على اجتياز المستحيل ، ببركة صحوة القدس
من حول مسجدها الأقصى المبارك ، وبزاد من حرب "سيف القدس" أواسط 2021 ، التى
أنهت عزلة الفلسطينيين عن الفلسطينيين ، ووضعت حدا لتجزئة الشعب الفلسطينى فى الداخل
المحتل ، ووحدت ايقاع كفاحه التلقائى ، وراكمت صورا من الإبداع العابر للحواجز المسلحة
وفواصل الجغرافيا ، وجعلت "غزة" و"القدس" و"نابلس" و"جنين"
فى قلب "اللد" و"حيفا" و"يافا" و"بيرسبع"
، وأعادت النجوم التائهة لمداراتها الأصلية ، وهو تطور لم تدرك الهمجية الإسرائيلية
مغزاه وخطره ولا مضاعفاته ، بل لا تريد أن تراه أصلا ، وتتصور أن بوسعها الاحتماء من
وراء جدار القوة العسكرية وحواجز الفصل العنصرى ، وهذه إن ضمنت الأمن ساعة أو شهرا
أو سنة أو سنوات ، فإنها لا تضمن البقاء الممتد لكيان الاحتلال ، الذى تتزايد فى صفوفه
ظواهر الهجرة العكسية ، ويعجز عن التبارى مع الفلسطينيين فى حروب السكان ، وفى حروب
الشهادة والدم الذى يهزم السيف حتما .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق