قد لا تعدم من يقول لك ، أن روسيا سحقت عسكريا ، وأن ساعة النهاية تدق لصالح الجيش الأوكرانى ، الذى اجتاح بسرعة البرق مناطق تواجد القوات الروسية فى مقاطعة "خاركيف" ، واستعاد السيطرة على بلدات مهمة استراتيجيا من نوع "بلاكليا" و"كوبيانسك" و"إيزيوم" ، وبما ضاعف من نشوة الرئيس الأوكرانى الصهيونى "فولوديمير زيلينسكى" ، الذى زار "إيزيوم" قرب حدود روسيا محتفلا بالنصر، وقفز بجدول الضرب إلى سقف هلوسات المنام ، وأضفى من طبعه الكوميدى مزاحا منفلتا ، ففى ثلاثة أيام ، كلها تلت توقف الهجوم الأوكرانى ، زاد "الجنرال زيلينسكى" المساحة التى استولت عليها أو استعادتها قواته ، على طريقة مبارزات "الخواجة بيجو وأبو لمعة الأصلى" فى الاسكتشات المصرية الكوميدية الشهيرة ، وقال فى أول يوم أنها ثلاثة آلاف كيلومتر مربع ، زادها فى اليوم التالى إلى ستة آلاف كيلومتر مربع ، وأضاف إليها مددا فى اليوم الثالث جعلها ثمانية آلاف كيلومتر مربع ، ثم أصابت العدوى الجنونية بعض مساعديه ، الذين زاد أحدهم مساحة الاسترداد إلى سبعين ألف كيلومتر مربع ، ومن دون أن يغلق بعد مزاد الهلوسات ! .
الميديا الغربية المشجعة المتحمسة للأوكران على الدوام ، توقفت عند رقم
"زيلينسكى" الأول ، وراحت تقارن مساحة الثلاثة آلاف كيلومتر مربع بعواصم
الغرب الكبرى ، وقالت أنها تساوى مساحة "لندن" الكبرى ، وتساوى ضعف مساحة
"نيويورك" ، ولم يتسع خيالها إلى مساحة الثمانية آلاف كيلومتر مربع التى
زعمها جنرال الكوميديا ، فمدينة "خاركيف" نفسها ، التى هى عاصمة المقاطعة
وثانى أكبر مدن أوكرانيا بعد العاصمة "كييف" ، لا تزيد مساحتها على 350 كيلومتر
مربع ، وقد تركها الروس يعد بداية عمليتهم العسكرية مع التراجع عن حصار "كييف"
، واكتفت القوات الروسية بالسيطرة على أجزاء من مقاطعة "خاركيف" ، وما استعاده
الأوكران فى العملية الخاطفة الأخيرة ، هو نصف ما كان تحت سيطرة الروس فى الأجزاء الشرقية
من مقاطعة "خاركيف" ، وهو تقدم كبير بلا شك للقوات الأوكرانية ، التى لم
تنكر دور التخطيط أو التسليح الأمريكى والغربى فى العملية ، ولا دور راجمات "هيمارس"
الأمريكية ومدفعية "جيبارد" الألمانية المضادة للطائرات ، ولا التزويد بالمعلومات
المخابراتية ، والإدارة الأمريكية المباشرة ، لكن صدمة الاجتياح السريع ، وبعيدا عن
المبالغات والمضاعفات المساحية ، كشفت خللا ظاهرا فى إدارة عمليات القوات الروسية بالميدان
الأوكرانى ، قاد لانسحاب فوضوى من بلدات مهمة بمقاطعة "خاركيف" ، ترك من
ورائه أسلحة ومهمات روسية ، وزاد من وقع دراما الاجتياح الأوكرانى الخاطف ، ونقل الأوكران
من خانة الدفاع إلى الهجوم لأول مرة فى سيرة حرب أوكرانيا الراهنة ، ولكن من دون أن
يمثل ذلك نقطة تحول استراتيجى مؤثر ، وهو ما مالت إليه التصريحات الأمريكية الرسمية
مع توقف الهجوم المباغت ، وبلوغه لنهايته ، فقد تحدث "أنتونى بلينكن" وزير
الخارجية الأمريكية فى زيارة للمكسيك ، وقال بالنص "أنه من السابق لأوانه التكهن
بنتائج الهجوم الأوكرانى المضاد" ، وبعد "بلينكن" تحدث الرئيس الأمريكى
"جو بايدن" نفسه ، ومن قبله جنرالات البنتاجون ، ومالوا جميعا إلى عدم الجزم
باعتبار ما جرى نقطة تحول حاسمة فى حرب أوكرانيا ، وأشاروا إلى ما وصفوه بوجود قوات
عسكرية روسية ضخمة على الأرض الأوكرانية ، وإلى عدم التأكد من قدرة القوات الأوكرانية
الحفاظ على مواقعها الجديدة .
وبديهى ، أن الأقوال الأمريكية أقل عبثية من تهيؤات "زيلينسكى" ،
فأمريكا هى التى تقود الحرب ضد روسيا فى الميدان الأوكرانى ، وليس "زيلينسكى"
الأشبه بعروسة "ماريونيت" تتحرك بالخيوط الممدودة ، وخلف أمريكا أكثر من
ثلاثين دولة فى حلف شمال الأطلنطى "الناتو" ، ونحو عشرة دول أخرى من خارج
"الناتو" ، تعقد اجتماعاتها العسكرية فى قاعدة "رامشتاين" بألمانيا
، وتضخ إلى الميدان الأوكرانى عشرات تلو عشرات المليارات من الدولارات ، وتفرغ مخازن
سلاحها المتطور فى الحجر الأوكرانى ، وتقود العمليات على الأرض من مراكز عمل متقدمة
فى "كييف" و"لفيف" وغيرها ، وكل هذا معروف ومعلن للكافة ، وحين
كسر الروس موجة الهجوم المضاد إلى "خيرسون" جنوبا ، تحولت الخطة إلى هجوم
مضاد فى شمال الشرق ، خصوصا بعد رصد ما جرى فى المعسكر الروسى ، ونقل عشرين ألف جندى
من مقاطعة "خاركيف" لدعم الدفاع عن "خيرسون" ، وإبقاء أعداد محدودة
فى قطاعات "خاركيف" الشرقية ، كانت نسبة عديدها واحد على ثمانية من قوات
الهجوم الأوكرانى ، وهى المفاجأة التى غفلت عنها أجهزة مخابرات الروس ، ودفعت بعض قياداتهم
الميدانية لاتخاذ قرار الانسحاب المخزى الأشبه بالفرار تجنبا لخسائر دموية محققة ،
وهو ما أدى إلى ما جرى ، وإلى توجيه ضربة مجانية لهيبة الجيش الروسى ، يفوق تأثيرها
المعنوى أثرها العسكرى الفعلى ، فهى مجرد عملية فى معركة متعددة الساحات ، ولا يزال
الروس يحتفظون بالسيطرة على أجزاء من مقاطعة "خاركيف" ، ويقولون أنهم يعيدون
تنظيم قواتهم هناك ، ويطمحون لإعادة السيطرة على بلدات ضاعت منهم فى أيام ، والتجاوب
مع ظواهر سخط شعبى عند الشباب الروسى ، قد
تدفع غالبا إلى كسر جمود ران على خطوط القتال على مدى شهرين ويزيد ، وهو ما بدا ظاهرا
جزئيا فى ميادين مقاطعة "دونيتسك"
المجاورة والأهم للروس ، حيث عاودت قواتهم تنشيط التحرك باتجاه المدن الثلاث الكبرى
المتبقية خارج سيطرتها فى "دونيتسك" ، وهى "كراما تورسك" و"سلافيانسك"
و"باخموت" ، التى تقدم إليها مسلحو جماعة "فاجنر" الروسية غير
الرسمية ، وسيطروا على بعض القرى فى الطريق إلى "باخموت" ، برغم أن ردود
أفعال "الكرملين" على ما يجرى بدت متحفظة ، ونفت وجود قرار بإجراء تعبئة
عامة أو جزئية ، تضاعف عدد القوات الروسية المنفذة لما تصفه موسكو بالعملية العسكرية
الخاصة ، وعديدها الكلى متواضع نسبيا قياسا للمهمة ، ولا يزيد فى أعلى تقدير على
150 ألفا ، إضافة لآلاف المتطوعين من مقاطعتى الدونباس "لوجانسك ودونيتسك"
، ويسيطرون على مساحات شاسعة من أوكرانيا ، تكاد تصل إلى نحو 180 ألف كيلومتر مربع
، إذا أضفنا مساحة مقاطعة شبه جزيرة القرم ، التى سبق لروسيا ضمها من أوكرانيا عام
2014 ، ومن دون قتال فعلى ، وهو ما يعنى أن ما يقارب الثلاثين بالمئة من مساحة أوكرانيا
البالغة 603 ألف كيلومتر مربع ، صار فى يد روسيا ، وبحجم قوات لا يكاد يصل مع الحلفاء
إلى ثلث عديد القوات الأوكرانية .
والمعنى فى المحصلة لليوم ، أن الاختراق الذى تحقق للأمريكيين فى مقاطعة
"خاكيف" ، لا يعد بحال تحولا استراتيجيا فى مجرى الحرب ، بقدر ما هو ضربة
معنوية هائلة للروس ، الذين لا تزال لهم اليد العسكرية العليا فى الميدان الأوكرانى
، وبوسعهم قبل غيرهم إنهاء الحرب أو توسيع
نطاقها ، ليس فقط بالرد على ما حدث فى "خاركيف" ، بل فى تسريع عملية السيطرة
على ما تبقى فى مقاطعتى "دونيتسك" و"زاباروجيا" ، وقد جرى تكثيف
مضاف للهجمات الروسية الجوية والصاروخية بعد عملية "خاركيف" ، وإن كان لا
أحد يعرف على وجه الدقة ما يدور بعقل الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" ، الذى
لا يكاد يلتفت علنا إلى الجانب العسكرى فى الحرب متعددة المسارات ، ويركز على ما يصفه
بفشل الحرب الاقتصادية الغربية وعقوباتها ذات العشرة آلاف صنف ، ويشدد حصار الغاز على
أوروبا المنهكة ، التى عجزت عن التوصل لاتفاق بتحديد سقف تحكمى لسعر الغاز الروسى ،
الذى توقفت غالبية إمداداته بالفعل عن أوروبا ، وشقت طريقها إلى أسواق أخرى ، أهمها
سوق الحليف الصينى ، الذى تتجه شراكة موسكو معه إلى آفاق أبعد ، جرى تتويجها بلقاء
"بوتين" مع الزعيم الصينى "شى جين بينج" مؤخرا فى "سمر قند"
الأوزبكية ، فيما لا يكاد "بوتين" يلقى بالا لاتصالات الرئيس الفرنسى
"ماكرون" والمستشار الألمانى "شولتز" المتجددة معه ، ويصمم على
مراجعة اتفاق الحبوب الأوكرانية فى أقرب وقت ، ربما إفساحا فى المجال لعمل يعتزمه ،
ويحقق به ما هو أوسع من الأهداف المعلنة لعمليته العسكرية الخاصة ، التى يحرص على تحجيم
تأثيرها فى الاقتصاد الروسى ، ويراكم أموالا هائلة فى الخزينة الروسية ، قدرت
"الإيكونومست" البريطانية فوائضها التجارية بما يزيد على 265 مليار دولار
نهاية العام الجارى وحده ، وهو ما قد يوحى مع مؤشرات أخرى بقفزة واردة فى الميدان الحربى
، قد يعلن بها الحرب رسميا ضد أوكرانيا مع مطالع الشتاء ، ويزيد عديد قواته هناك إلى
500 ألف جندى ، وينتقل بالمعركة من تحصين مواقعه إلى دوائر الاجتياح الشامل ، بعد أن
انسدت سبل التفاوض على ما يريد فى قوس الشرق والجنوب الأوكرانى ، وبعد أن بينت عملية
"خاركيف" ، أن التناقض مع واشنطن صار حديا لأقصى درجة ، وأن الحسم العسكرى
، وليس مجرد التقدم العسكرى ، صار واجب الوقت الروسى .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق