القرآن كتاب الله تعالى وكلامه،
وهذا يستدعي منَّا -نحن المخلوقين- أن نكون حذرين في تعاملنا معه حذرًا شديدًا،
وهذا الحذر أراه يتمثل في مجموعة من
الضوابط، سواء أكنًّا مبدعين نقتبس منه أو باحثين ندرسه!
وفي تخصص الأدب والنقد توجد الآن
مجالات تنتمي إلى ما يسمى (منهج التدبر الأدبي للقرآن الكريم)، وأهمها: منهج
الوحدة الموضوعية في السورة القرآنية، ومنهج تحليل الخطاب القرآني، ومنهج الحِجاج
في القرآن الكريم، ومجال النظرية الأدبية في القرآن الكريم، ومجال القصة القرآنية
من الناحية السردية، والمعايير النصية في القرآن الكريم، ويصلح منها ستة -فقط- لتدبر
القرآن الكريم - من وجهة نظري - هي: السبك، والحبك، والقصدية، والمقبولية، والمقامية،
والإعلامية، ومن المجالات التي تصلح لتدبر القرآن الكريم أيضًا: أثر القرآن في
النقد الأدبي قديمًا وحديثًا ومعاصرًا، وأثر القرآن في الإبداع الأدبي، ومجال
التماسك النصي، ومجال الفاعلية النصية، ومجال الاستلزام الحواري في القرآن الكريم،
ومجال الإعجاز الصوتي في القرآن الكريم، وقد أنجزت في هذه المجالات رسائل جامعية
طيبة.
ولكن ينبغي لنا في التدبر الأدبي
للقرآن الكريم ينبغي أن نلتزم ضوابط معينة تتمثل في الآتي:
1- أن يكون المنهج المُلتَزَم في
التدبر مناسبًا لإلهية القرآن الكريم وقدسيته وإعجازه وجلاله في أدواته وتحليله.
2- أن يستعين بالتفاسير
المُعتَبَرة التي تُعين المُتَدَبر على الوصول إلى نتائج مقبولة؛ كتفسير الطبري،
ومفاتيح الغيب الفخر الرازي، ونظم الدرر للإمام البقاعي من أسلافنا، وتفسير
التحرير والتنوير للشيخ الطاهر بن عاشور، وتفسير الشيخ الشعراوي، وتفسير الشيخ
السعدي من المحدثين.
3- أن يتسلح بعلوم القرآن الكريم،
وأن يفيد من كلام السلف الصالح المأثور في تفسير القرآن الكريم.
4- أن يتسلح بعلوم العربية،
ويراعي خصائص النظم القرآني في عملية التدبر.
5- أن يتأهل المتدبِّر علميًّا في
مناهج النقد الأدبي الحديثة والحداثية من مصادرها الأولى الصحيحة، لمعرفة المناسب
منها لتدبر القرآن الكريم، وترك غير المناسب.
ويترتب على هذه الضوابط رفض ما
يضادُّها، واعتبارها محاذير يقع فيها بعض الباحثين عند ممارستهم عملية التدبر
الأدبي للقرآن الكريم، مثل القطيعة المعرفية من التراث، والتعامل المباشر مع
القرآن دون الرجوع إلى كتب التفاسير، والاقتصار على التحليل الشكلي الجاف،
والاستعانة بمصطلحات مُشْكِلة أو مصطلحات غير مناسبة للتدبر الأدبي.
أما بالنسبة إلى محاولة تطبيق منهج التناص مع
القرآن الكريم أو فيه فيمكنني أن أقترح الضوابط الآتية:
1- ضوابط التناص مع القرآن الكريم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(التناص مع القرآن الكريم): تعبير
شائع في الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية الحديثة التي تدور حول نص أو مجموع
أدبي، وهو ما يطلق عليه في المدونات البلاغية التراثية، بـ(الاقتباس)، وهو أحد
الفنون البديعية عند البلاغيين، وأول من وضع هذا المصطلح هو فخر الدين الرازي(نحو544-605هـ)،
وكان هذا المصطلح معروفًا قبل الإمام الفخر باسم (التضمين)، وغالب علماء البلاغة
وغيرهم من أهل علوم القرآن وشراح الحديث وكثير من الفقهاء يسمون هذا الفن البلاغي -الاقتباس-
تبعًا للرازي، وثمة جماعة يسمونه -التضمين-، منهم ضياء الدين ابن الأثير(558-637هـ)
والطوفي الحنبلي(657-716هـ).
و(الاقتباس) عند البلاغيين:
"تضمين الكلام - نثراً كان أو شعراً - شيئاً من القرآن أو الحديث، من غير
دلالة على أنه منهما، أي بأن يكون خاليًا من الإشعار بذلك، والإشعار به كأن يقول: قال
الله كذا، أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( ) .ويطلق الاقتباس -في أبجديات
البحث العلمي الحديث- على استفادة العلم على سبيل الاستعارة، والنقل بالنص من كتب
الآخرين. وللاقتباس أربع صور: اقتباس من القرآن في النثر، واقتباس من القرآن في
الشعر، واقتباس من الحديث في النثر، واقتباس من الحديث في الشعر. والاقتباس نوعان): أحدهما (ما لم ينقل فيه
المقتبس عن معناه الأصلي، قبل الاقتباس إلى معنى غيره...و) الثاني (خلافه، وهو ما
نقل عن معناه قبل الاقتباس( ). والذي عليه جماهير العلماء من الحنفية والمالكية
والحنابلة والشافعية جواز الاقتباس من القرآن في النثر، وقد نقل الاتفاق على هذا
الحافظ جلال الدين السيوطي(849-911هـ) في رسالته -رفع الباس- وحشد له الأدلة، وساق
النصوص من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من
الأئمة حتى عصره، وقال في حاشيته على تفسير البيضاوي: -فإن قلت: نرى في هذا الزمان
قومًا يستنكرون ذلك - أي الاقتباس - ويقولون: (ألفاظ القرآن لا تستعمل في غيره)،
قلت: إنما استنكره هؤلاء جهلاً منهم بالنصوص والقول، فقد استعمله النبي -صلى الله
عليه وسلم- في غير ما حديث، والصحابة والتابعون والعلماء قديمًا وحديثًا، ونصوا في
كتب الفقه على جوازه، ونظائر الاقتباس في الأخبار كثيرة، ولا عبرة لقول من كرهه. وإذا
جاز الاقتباس من القرآن في النثر فمن الحديث النبوي من باب أولى؛ لأن الحديث تصح
روايته بالمعنى على الصحيح، -وهو الذي تشهد به أحوال الصحابة -رضي الله عنهم- والسلف
الأولين، كما يقول ابن الصلاح(577-643هـ). ذلك هو حكم الاقتباس من القرآن والحديث
في الكلام المنثور، وهو -كما ترى- جائز بلا خلاف. أما الاقتباس في الشعر فالذي
عليه أكثر العلماء الجواز، وكره ذلك القاضي أبوبكر الباقلاني والنووي فيما روي
عنه، ويبدو أن كراهتهما باعثها الورع والتأدُّب مع القرآن والحديث، كما أشار إلى
هذا المعنى السبكيان: بهاء الدين(717-773هـ) وأخوه تاج الدين(727-771هـ).
ومن الضوابط المطلوبة في هذا
الصدد:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ما ذكره الإمام الباقلاني(338-403هـ) والإمام
النووي(631-676هـ) من أنهما رأَيَا أن الله -عز وجل- نزَّه القرآن عن أن يكون
شعرًا، ونفى عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- قول الشعر... فليس من اللائق بعدئذ أن
يُنظم شيء من القرآن أو الحديث في سياق الشعر، فينسب هذا إلى الله أو إلى رسوله -صلى
الله عليه وسلم- على أنه من كلامهما.
2- أن الشاعر في الاقتباس لا يصرح
بأن المقتبس هو عين كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، أي لا يقول: قال
الله أو قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو نحو ذلك، فيقال: إنه قد جعل نص القرآن
أو الحديث شعرًا، ولكن المقتبس يورد ذلك على أنه من كلامه هو.
3- إذا كان الاقتباس تضمين الكلام جملة أو أكثر
توافق عبارة القرآن أو الحديث وليست منهما حقيقة، فإنه يسوغ للشاعر تغيير ما
اقتبسه بزيادة أو نقصان، أو تقديم أو تأخير، أو تعريف أو تنكير، أو إبدال للظاهر
من المضمر أو العكس، إلى غير ذلك مما يبتغيه الوزن من غير نكير.
4- في القرآن الكريم آيات أو بعض
آيات لا يجوز اقتباسها في شعر ولا نثر؛ لأنها خاصة بالله عز وجل، ومما أضافه الله
إلى نفسه مما تكلم به سبحانه وتعالى، وما أقسم الله به من مخلوقاته.
5- أن يقع الاقتباس في المقام المناسب لإلهية
القرآن وقدسيته، والعفيف، والشريف الغرض، والنظيف المعاني، وليس مقامًا جاريًا في
أودية السخف والهزل والغزل والمجون، ووصف الخمر، ونحو ذلك من المقامات السيئة
والسياقات الخادشة للحياء.
6- ألا يقع القرآن الكريم فيما
يسمى شعر التفعيلة أو الشعر الحر، بل لابد على ناظم هذا الشعر إما من أن يغير في
النص القرآني أو يذكر أنه هذا من كلام الله تعالى. أما ذكر آية أو أكثر من كتاب
الله تعالى وتوزيعها على أسطر في قصيدة التفعيلة؛ فهذا مما يوهم أن في القرآن
الكريم شعرًا! معاذ الله، ومعاذ كلامه الكريم.
أما عن ضوابط التناص في القرآن
الكريم فأراها تتمثل في أن نلتزم بمنهج البلاغيين العرب في دراستهم ذلك، والمتمثل
في الآتي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أن نستخدم المصطلح العربي (التضمين)
وليس المصطلح الغربي الوافد (التناص) لإنه ذو حمولات معرفية وفلسفية لا تناسب جلال
القرآن وقدسيته.
2- أن نضيق دائرة القول بالتضمين
في القرآن الكريم، فنقتصر على ما نص الله تعالى عليه فقط.
3- أن يكون التضمين في القرآن
الكريم من الكتب السابقة من التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى، عليهما السلام، فقط.
فلا نقول بالتضمين من الشعر الجاهلي أو من الأساطير أو من الحكايات الشعبية كما
يزعم زاعمون مفترون على الله تعالى، وعلى كتابه الكريم المجيد المصون المحفوظ.
0 comments:
إرسال تعليق