هذه الدراسة مهداة إلى الأساتذة الأجلاء:
أ.د محمد حســـــــــــــــن عبد الله
أ.د يوسف نوفـــــــــــــــــــــــــــل
أ.د فــــــــــــــــــــــــوزى عيسى
بمناسبة عدم حصولهم على جائزة الدولة التقديرية
قلت
فى الجزء السابق من دراستى عن جوائز الدولة:
يبدو
أن آليات تطبيق معايير وشروط الجوائز الأدبية العربية تساعد على خلق ظاهرة
النجم،لا ظاهرة المبدع،صناعة الشهرة،لاصناعة القيمة، صناعة الوهم،لاصناعة
الحضور،والسؤال هنا:هل كانت جوائز الدولة بكافة أشكالها ومستوياتها ومقاصدها هدفها
القيمة الفكرية والإبداعية والحضارية والثقافية الحقيقية أم هى مجرد تربيطات
جاهزة،وعلاقات وترتيبات مسبقة، مثلها مثل معظم ممارسات الحياة فى وضعنا العربى
الوهمى القاسى؟ ـ ــــ طبعا من الممكن أن نستثنى هنا الكبار حقا الذين حصلوا عليها
وإن كان حصولهم عليها كان مستحقا منذ زمن لكنها لحظة أيديولوجية مدبرة من قبل
القائمين على الجائزة ـــ تلميعا للدولة ـــ لا تلميعا لمستحقيها عن جدارة وهم اهل
لذلك بالطبع
لقد
شاهدنا جميعا عشرات الأمثلة المكررة ممن حصلوا على الجوائز الخاصة والحكومية ممن
لايستحقونها أبدا،بل كان فعلا مدبرا مخططا يشبه الانقلابات العسكرية فى البلدان
الديكتاتورية،على من استحق الرئاسة بجدارة انتخابات الشعب ثم يفاجىء الشعب بمن
يضرب بإرادته عرض الحائط ليأتى رجل من عالم آخر يفرض رأيه بعنف التواطؤ ورهبة
الشللية المقيتة.ويبدو أن جل القائمين على جوائزنا الأدبية قد تعتقوا فى مجالس
إدارتها إلى الدرجة التى صاروا معها يدافعون عن بقائهم فى كراسيهم والدفاع عن
مصالحهم بعنف التواطؤ أكثر مما يدافعون عن مجد الإبداع ونزاهة الكتابة،فقد تحولوا
إلى كهنة للرأسمال الثقافى،وسدنة لبيت المال الجمالى الرسمى فى الدولة،يقيسون
الإبداع على مقاسات المثل الأعلى الجمالى لسياسات العشيرة ومنطق القبيلة التى
وظفوا من أجلها خصيصا،إنهم حجاب بيت المال القدامى قد عادوا يلبسون لبوسا عصرية
جديدة متخذين دورا للحجابة فى مؤسسات الثقافة المعاصرة،فالقشرة الخارجية حضارية
والبنية العميقة جاهلية،فهم يعطون ويمنعون بأمرهم حسب مقاسات وطلبات الأمير الرمزى
العام،لأنهم من وجهة نظرهم هم ملاك الحقيقة المطلقة،لايسألون عما يفعلون وغيرهم
يُسألون؟!،يمتلكون أمر الجوائز من بداية تجهيز شروطها القانونية ووضع معاييرها
الجمالية والثقافية وحتى تدابير الحصول عليها لأهل الولاء والبراء ممن يجيدون فقه
السبوبة والارتهان للآخر ـــ مع احترامى لأسماء حقيقة نادرة حصلت على الجوائز عن
استحقاق ولكن ذرا للرماد فى عيون المعارضين فكأن السلطة الغاشمة تبتكر استثناءات
الاستحقاق النادر الموحش لتؤكد به قاعدة الاسترقاق الإبداعى العام،وهنا أحب أن
أضيف اسما كبيرا مثل: محمد المنسى قنديل مثلا الذى استحق الجائزة عن جدارة لتقيم
به السلطة توازنا مفضوحا مع المستحقين المحرومين.حتى وصلت المهزلة الثقافية فى مصر
ــــ العظيمة بمبدعيها الكبار ـــ حدا كفكاويا مقززا بعد أن كان الحاصل على جائزة
الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة فى مصر ـــ وهو شاعر كبير معروف ــ أحد المحكمين
والحاصلين على الجائزة معا،فهو فيه الخصام وهو الخصم والحكم.
وكعادتنا
العجيبة فى إرجاع الإبداع للفرد الملهم الأعظم رب الإبداع وراعى المبدعين،وهو خطأ
منهجى وأخلاقى وعلمى جسيم فى العقل العربى المصرى الذى يغض الطرف عن السياق الكثيف
الخصيب الواسع للإبداع والمبدعين المصريين العظام ضاربا عرض الحائط بحيوية اختلاف
الأزمنة الإبداعية التى يؤسسها جماع آلاف العقول والأخيلة ثم يختزلها النقد العربى
إلى أفراد أقطاب فيكون الكهنوت الثقافى قرين الجبروت السياسى كعادتنا الثقافية
الفاشية الديكتاتورية عندما نقول: الشاعر الأوحد،والحاكم الأعظم،والمفتى
الأمجد،والناقد القطب الأكبر مثل حكاية الناقد الذى تربع على أكبر كرسى الثقافة
المصرية مدة طويلة من الزمن وصرح أكثر من مرة بأنه أحد ثلاثة نقاد عظام فى العالم
كله ــ طبعا هذا يشرفنا والله إن كان حقا،لكنه للأسف وهم عريض ــــ وهكذا دواليك
حتى صار التاريخ العربى كله تاريخ أعلام لا تاريخ معالم.
الكبار
والصغار بين وهم الشهرة،وجدارة القيمة
الشهرة
كما تشير إلى ذلك جل المعاجم العربية تتضمن فيما تتضمن: الصالح والطالح،المنحط
والسامى،فالمجرم قد يكون مشهورا،والسامى قد يكون مشهورا،وشهر سيفه سله بين
الناس،والشهرة معناها وضوح الأمر،فالأصل اللغوى والدلالى للشهرة يحتقب فى باطنه
أضدادا متعددة،مابين القتل والإجرام والظهور والتلميع والسمو وذهاب الذكر بين
الناس.وقد سافرت الدلالات الضدية للشهرة فى الزمان والمكان محتقبة فى جعبتها هذه
الدلالات الضدية حتى إذا وصلت إلى زماننا الذى نحياه الآن احتملت أثارة مما تركته
التركة اللغوية القديمة فى جسدها: فهل تكون الشهرة بالفعل وضوح الأمر كما ينص
المعجم؟ أم تحتمل وضوحه وغموضه معا؟ وهل لا يشتهر سوى السامى الجليل فقط؟ أم يشتهر
المنحط الردىء،والمجرم الفاجر أيضا؟
إن
ذاكرة الشهرة مرهقة تعج بالأضداد،وقد اقترنت الشهرة فى لسان العرب بمعنى الفضيحة
والقبح والشناعة فهى:(ظهور الشىء فى شنعة حتى يشهره الناس).ونستطيع أن نستنتج من
ذلك أن القبيح يشتهر بفعل فعلته الشنعاء القبيحة،ومن هنا ليس كل مشهور مهما،فشتان
بين المهم والمشهور، الأهمية رسوخ واطراد وأفق وتعدد،والمشهور لمعان وطروء وصناعة
وفبركة،فالراقصة الفلانية مشهورة جدا،لكن أحمد زويل مهم،وأشعب الطماع مشهور
جدا،لكن المتبنى مهم،وهكذا ليس كل مشهور مهما،ولكن كل مهم مشهور،والشهرة خطاب مدبر
وفق آليات وتقنيات معينة وليس بالضروة أن تحتوى على قيمة ما،فالشهرة صناعة إعلامية
مثلها مثل كل الصناعات الأخرى تحتاج إلى تدبير وتخطيط وترتيب حتى تمتلك القدرة على
منازعة القيمة فيختلط الحابل بالنابل ويغم الأمر على الناس بين فن صناعة الأوهام
وفن تأسيس الحقيقة.
تستمد
الشهرة أوهام شرعيتها من سلطة الأمر الواقع،بينما تستمد الحقيقة قوتها من سلطة
القيمة الفعلية.وبهذا التصور تكون سلطة الشهرة وهما من الأوهام فهى تدبير لغوى
وتخطيط أيديولوجى وترتيب اصطناعى مدبر،فهى قناع زائف يخفى الضحالة والتردى
والتهافت والتلاشى،ولكن القناع هنا يستمد قوته من سلطة الأمر الواقع المدبر مسبقا.إن
إشهار الأمر الواقع يتم تسييده وتدشينه وفبركته،وفى المقابل يتم تغييب نص القيمة
لأسباب سياسية واجتماعية وثقافية،حيث نص الشهرة ـــ لا نص القيمة ـــ يمتاز
بالتكتل والتدشين والإشهار الإيديولوجى العام.فمن دلالاته الإشهار فى لسان العرب (شاهَرَ
الأَجيرَ مُشاهَرَةً وشِهاراً: استأْجره للشَّهْر),فكأن الفائز المشهور قد استأجر
من خطط له فى اللجنة فأنجحه لخطة بينهما،وكأن المستأجر المحكم قد استأجر الفائز
لخطة بينهما.لكن السؤال يبقى هنا: على أية أسس ومعايير تمت شهرة هذا المجهول
وإخفاء هذا العلم المعلوم؟ طبعا كل هذا خاضع لفن التدبير والتدليس والإظهار
والإخفاء والإقصاء والنكران!! من أجل تمكين خطاب لايستحق وإقصاء خطاب آخر
يستحق،فتتحقق معادلة الخلل المدبرة المقصودة بين جدليات الاستحاق والاسترقاق بناء
على طلبات كهنة الرأسمال الثقافى الرمزى العام وما يحيكونه بالليل والنهار،فى
الخفاء والعلن من تدابير وتقارير وتراتبات ثقافية عنيفة.
فمتى
يكف سدنة الجوائز الكبار عن تضليل الكتاب بوسائل تدجينهم وآليات استقطابهم؟ للتثبت
من ولائهم الشخصى والسياسى والجمالى؟،حتى إذا حصل الاسم الوهمى على الجائزة بعرق
الاتصالات ورهق الترتيبات وسهر التدابير لا بعرق وكد الإبداع،ظن نفسه أحد قادة
الإبداع العالمى المعاصر مثلما قال بعضهم. لكنه فى الحقيقة لاوزن له ولاعمق
ولاكثافة،بل خفة وسطحية ولمعان وبريق.وكما يقول المفكر المغربى عبد السلام بن عبد
العالى ( ليس النجم من يمتلك كفاءات ولايتقن مهارات ويتميز بقدرات،ولكن قيمته تكمن
فى أن له قيمة فلا وزن ولاعمق ولاكثافة ...إنه مجرد سطح مجرد اسم،فالشاعر هو من
يسمى شاعرا والمفكر هو من يشتهر مفكرا ... ولاينبغى أن نذهب أبعد من هذا أبدا،فيجب
ألا نعقد الأمور فنحملها أكثر مما تحتمل فنبحث فى الأغوار والأعماق والكثافة).
إذن
المفكر الكبير والمبدع الكبير هنا هو من يشتهر بهذا اللقب فيحقق ذيوعا جماليا
وهميا سائرا بصرف النظر عن حقيقة ذلك من عدم!! بل تكمن حقيقة الأمر فقط فى كثافة
الإشتهار لا فى حقيقة القيمة.حتى يصبح الجميع من تكرار الاشتهار وكثافة الذيوع
يسلم مضطرا بالأمر الواقع فيقول مثلما يقول بقية الناس: الشاعر الكبير،والمفكر
الكبير،ثم يتحول ما كان يعمل كمظهر ليكون هو حقيقة الجوهر.ومن ثمة تلعب كثير من
الجوائز الأدبية دور التسطيح والتسييس والامتثال والابتذال مطيحة بالإبداع الأصيل
لصالح الأشباح والأشباه الثقافية الوهمية،إنه عالم الأوهام والإعلام والإشهار
والحقيقة الوهمية الكاذبة.
لكن
الذى يفضح كل هذه التقارير الوهمية المدبرة،عظمة القيمة الإبداعية الحقيقية
الرصينة التى رسختها الأسماء الإبداعية الكبيرة فى الوجدان الثقافى المصرى
العام،ولو أردت أن أعطى مجرد أمثلة ــ فقط للإستشهاد ــ لبعض هذه الأسماء،لوجدنا
الأسماء السابقة مثل محمد حسن عبد الله ويوسف نوفل وفوزى عيسى تسمق فى قيمتها
الإبداعية على هامات كثيرين ممن حكموا عليهم لا لهم، بل نجد اسما عظيما ومفخرة
إبداعية واكاديمية مصرية يفخر بها العالم كله مثل الدكتور محمد عنانى ثم لايجد
مايليق بمكانته وقامته!! ألا ساء مايحكمون!!
بل
وصل الأمر حد المهزلة بل عفوا ــ المسخرة ــ أن نجد بعض تلامذتهم يحكمون عليهم لا
لهم،وهم أقصر منهم قامة وقيمة،بل دون هؤلاء وهؤلاء خرق القتاد،لكن لمجرد أنهم ممثلون
فقط فى لجان المجلس الأعلى للثقافة حكموا عليهم.والأغرب أن بعض الأسماء الموجودة
فى لجنة جائزة الدولة التقديرية قعيدة البيت منذ زمن طويل نظرا لمرضها الطويل ــ
أسأل ربى أن يشفيهم بفضله ــ ( ولاداع هنا لذكر أسمائهم احتراما نكنه لهم من
جهة،كما أمرنا ربنا بالستر من جهة أخرى) ناهيك عن أن بعضهم لاعلاقة له منذ زمن
بعيد بما جد على حقول الثقافة والإبداع والفكر من تطورات معرفية ومنهجية هائلة
ترسم فروقا علمية واضحة وقاسية بين الثريا والثرى.فهل يخفى على أحد الإضافات
العلمية الكبيرة الرائدة التى أضافها الأستاذ الدكتور أسامة أبوطالب فى مجال
المسرح المعاصر؟ لكن أعجب العجب ألا يوجد فى أعضاء لجنة جائزة الدولة التقديرية
سوى فرد واحد حصل على التقديرية،فكيف يحكم على الشىء من لم يره؟!
لكن
مايفضح كل هذه التخطيطيات الأيديولوجية والمعرفية المدبرة قوة إبداع الأساتذة
الكبار التى تمكنا دوما من اكتشاف فجوات الوهم الجمالية والمعرفية الكامنة فى بنية
التدبير الرسمى الخفى والمعلن حيث يفضح الإبداع العظيم لهؤلاء الأساتذة الكبار
الذين أقصوا وأبعدوا عن الجائزة هذا المسكوت عنه أيديولوجيا،واللامفكر فيه علميا
فى بنية التدبير والتخطيط،ويبقى الاصطراع الخلقى والعلمى مشتعلا بين معنى القيمة
ووهم الشهرة والتدبير على امتلاك المعنى والشرعية فى الواقع الجمالى والثقافى
المصرى المعاصر،وهو فى الحقيقة اصطراع خطابات رمزية قيمية على امتلاك سلطة المعنى
والقيمة والوجود،فمن يتملك شروط المعنى والخطاب يتملك أسباب المشروعية فى
الواقع،حيث سلطة الحقيقة هى حقيقة السلطة.ومن هنا كانت سلطة الأمر الواقع الذى
تدشنها سلطة الرأسمال الرمزى الرسمى للقائمين على أمر الجوائز لا تعدو أن تكون نصا
قد ترسخ وهما ــ لاحقا ــ لأسباب جمالية وأيديولوجية وتصنيفية وإقصاية
وتاريخية،فلا تمثل أبدا قيمة جمالية تاريخية حقيقة راسخة بالضرورة.
وفى
ضوء جسارات وخروقات الإبداع والمبدعين ربما تحتاج معايير وشروط الإجماع الأدبى فى
لجان جوائز الدولة خاصة التفوق والتقديرية والنيل إلى مراجعات فكرية وثقافية
ومنطقية جذرية: فما معنى أن تشترط على الإبداع الذى هو بدوره فوق كل شرط ومعيار؟
وماذا يعنى التصويت والإجماع الجمالى والثقافى والأيديولوجى العام على الإبداع
الذى يهرطق دائما ضد فكرة الحشد والتصويت؟ أليس اليقين المطلق العام وهما عاما
يخلف دمارا عاما على كافة المستويات الثقافية فى المجتمع؟! وما هى الحيثية العلمية
والمنهجية والثقافية للمجمعين المصوتين على بعض الأسماء دون بعض؟.بل أنا أعلم كل
العلم أن رئيسة لجنة جائزة الدولة التقديرية هذا العام والتى أكن لها كل احترام
لأننى أحد المعجبين بكتابتها وأحب أن أقرأ لها،وقد قرأت كل ماكتبته ــ أعلم أنها
تشرف مثلا بالتلمذة على يد العلامة الكبير محمد حسن عبد الله مثلا ناهيك عن باقى
الأساتذة!! وأظن أن هذا يشرفها ويشرفنا جميعا.وكلنا يعلم أن هناك أسماء كثيرة فى
لجان التصويت لاعلاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بحقيقة الإبداع فى صورته الجديدة
المعاصرة ومستوى المبدعين الكبار المطروحة أسماؤهم لنيل الجائزة،ناهيك عن بعض
الضغائن الخاصة المستكنة فى الصدور التى يحملها بعض المصوتين ضد بعض الأساتذة
الكبار لمجرد اختلاف الأساتذة الكبار عن أفكارهم،فهناك الماركسى الوهمى المغلق
الذى يحمل ضغينة عميقة للمفكر الإسلامى المنفتح،وهناك الليبرالى السطحى الذى يكن
كراهية لاتزول للمختلف معه فى الفكر والتصور،وهناك وهناك....،ولابد هنا من تفكيك
فكرة التصويت الوهمى والإجماع المخادع الذى تقوم به كثير من لجان الجوائز تكأة
لإقصاء المبدعين الكبار،ولنا أن نقرر هنا طبقا لهذا التصور المعرفى والمنهحى أن
الواقع نفسه إن هو إلا طرائق إدراكه،وطرائق إدراك الواقع تتبلور فى النماذج
الجمالية والمعرفية والأيديولوجية والثقافية الكامنة والمهيمنة على عقول وممارسات
القائمين عليه،هذه النماذج التى تشكل المفاهيم الجمالية والتصورات المعرفية
والاعتقادات الثقافية عن هذا الواقع والتى يرى ويفسر ويعلل القائمون على أمر
الجوائز بها الإبداع والمبدعين والعالم من حولهم، ويجب أن نعى أن هذه النماذج
الجمالية والمعرفية والأيديولوجية الراسخة فى بنية معايير الجوائز الأدبية هى
بدورها نصوص جمالية بشرية تاريخية نسبية عن الإبداع والواقع،وقد لاتمثل الواقع
الفعلى بالضرورة،فالمعايير لا تساوى الواقع،والنظريات لاتساوى الإبداع،والتشارط
على الإبداع لا يرادف التاريخ الفعلى للإبداع والمبدعين.ولعل كل هذه التصورات
الجمالية السابقة التى فككناها وفضحناها تؤسس للأسف لفكرة الإجماع الأدبى والتصويت
على الفائزين بالجائزة.وهى فكرة ايديولوجية لا علاقة لها ابدا بفكرة الإبداع
ولابد
هنا أن نفكك فكرة الإجماع والتصويت علميا ومنهجيا وأيديولوجيا،لابد أن نعى هنا أن
فكرة الإجماع تضمر المصالح المعرفية والأيديولوجية لمن أجمعوا عليه،والإبداع الحر
الجسور يقع بطبيعته الخلاقة الحرة خارج منطق الإجماع والتصويت العام،ولن تكون فكرة
الإجماع أيا كان شكلها ومستواها ومقصدها أبدا بريئة صافية لوجه الإبداع فى ذاته بل
يشوبها مايشوب كل تصرفات وتصورات البشر من تحيزات الإدراك،وغلبة المصالح،وتحكم
الأهواء،وتقحم الرغبات،ومن ثمة يتخلل كل إجماع عام خلل ما،ويتبطن كل انسجام عام
كثير من الشروخ والأوهام،فكل معارفنا وتصرفاتنا يشوبها من الخلل بقدر مايصيبها من
الدقة،ويتخللها من الوهم بقدر ما يتخللها من المنطق والصلابة،وينتابها من الريب
بقدر ما يتناوبها من اليقين. فطالما ليس ثمة نسق فكرى جاهز لكل شىء،وليس ثمة وثوق
مطلق فى تصوراتنا ومعارفنا فثمة احتمالات لانهائية أيضا لإدراكات وممارسات جديدة
على كافة مستويات وجودنا وتصوراتنا ومعارفنا وممارساتنا.ومن ثمة تكون ثقافة
الإبداع الحقيقى الخلاق ثقافة الحوار والرفض والاختلاف،لا ثقافة الإجماع والتصويت
والرضا والسكوت على مالايلزم ومالايحسن السكوت عليه كما تفعل كثير من لجان المجلس
الأعلى للثقافة أو غيره من المجالس الثقافية فى المجتمع المصرى والعربى.
وللمقالة
بقية فى الحلقة القادمة أكتب فيها إن شاء الله عن القامات العلمية الكبيرة التى
أقصتهم جائزة الدولة التقديرية هذا العام،أبين فيها هل قرأ القائمون على جوائز
الدولة مشاريعهم الفكرية والجمالية والمنهجية حقا؟ وماهى حقيقة المعايير التى
حكموا بها على هؤلاء ليعطوهم،وعلى هؤلاء ليقصوهم؟!
0 comments:
إرسال تعليق