يُحكَى أنَّه من زمن بعيد، منذ مائة يوم تقريبا، لا تندهش عزيزي القارئ
فإنَّ الأيام أصبحت في منتهى القسوة، أصبحت لا تمضي مسرعة كعادتها، صارت ثقيلة
الخطا.
قد كان الناس يستيقظون صباحًا يجوبون الشوارع ويذهبون لأعمالهم، ثم ما إن
تنتهي هذه الأعمال حتى يعودوا إلى بيوتهم وهم متعبون ليناموا، ويتخلل هذا اليوم
عباداتٌ يؤدونها في مساجد وكنائس وزيارات يقومون بها لبعضهم البعض، وأصدقاء لا
يملُّون من أصدقائهم، بل إنهم حينما يفترقون عدة سويعات، فكم تكون المشاهد موجعة
حينما يلتقون مرة أخرى ليطفئوا هذه الأشواق بعناق صادقٍ، وقبلات حارة من القلوب
إلى القلوب. ومن المؤكد أنه لو قرأ أحد كلامي هذا في وقت غير هذا لاتَّهمَني
بالجنون أو الحمق والتفاقة.
لكَ أنْ تتخيلَ يا عزيزي أنَّ هذه الأمور
التي كانت في منتهى البساطة والسطحية والاعتياد أصبحت غير مباحة في عمر هذا الزمن.
حالةٌ من الخوف والقلق والدهشة تسيطر على الناس في كل مكان، فقد أصبح هذا
الفيروس اللعين حديث الناس عالميا، وقد أدرك الجميع أنَّ قدرة الله لا تعلوها
قدرة، وقد عَلِمَ مَنْ لَمْ يكُن يعلم أنَّ قدرته –سبحانه وتعالى- جعلت العالم كله
يتحير في أمر شيء لا يُرى بأعيننا المجردة.
الكل قابعٌ في بيته في انتظار المجهول الذي لا نعلمه، كل بلد قامت
بالإجراءات اللازمة لكنَّ حالة الخوف والقلق لا تزال تشوب نفوسنا.
إنَّ الإنسانَ الذي كان أكثرَ الكائنات حاجةً إلى التواصل مع الآخرين ممن
حوله أصبح الآن قاطعا كل صِلاته الخارجية حتى مجرد السلام بالأيادي لم يعد متوفرا،
فما الحكمة من هذا الميكروب اللعين؟! بالتأكيد أنَّ الله الذي خلقنا على هذه الأرض
وجعل التعارف والتواصل هدفا رئيسا في حياتنا لا بد ألا تكون حكمته من ذلك قطع هذه
الصلات، فقد قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾. صدق الله العظيم.
ربما تكون الحكمة من ذلك مجرد الموعظة؛ فقد كثرت الخطايا، واستصغر الناس
أعظم الذنوب، وتجاهلوا لطف الخالق، وتغافلوا قدرته على الانتقام، تشبَّث الجميع
برحمته - وهو الرحيم سبحانه- لكنهم غضوا أبصارهم عن أَخْذِهِ وجبروته.
لا بُدَّ أنَّ حكمة الخالق تتمثل في أنْ يرتقيَ الناس قليلا، وأنْ يتخلصوا
من التفاهة التي يعيشونها، وأنْ ينظروا إلى أنَّ ما وصلوا إليه من تقدُّم وتطور
وتكنولوجيا واتصالات وتطورات كبيرة وخارقة مهما بلغت من كمال فكل ذلك يتوقف ويصيبه
الشلل بمجرد ألا يشاء الله له الاستمرار حاليا، ومتى يُرِدْ له أن يستمر فإنه بكل
تأكيد سيستمر.
جميعنا الآن يفكر في الحكمة من ذلك؛ فقد خسر العالم المليارات في هذه
الأيام التي توقفت فيها الحياة، لكنه مهما كانت الحكمة والله وحده أعلم بملكوته؛
فقد اتفق الجميع على أنَّ حياتنا مليئة بالكثير من المعاني الإنسانية المفتقدة منذ
زمن بعيد.
كثير من الناس كانوا يهتمون بالمال، ولا يلتفتون إلى الفقراء والمحتاجين
المكتظة شوارعهم بهم، بل إنَّ مرور الوقت السريع والتهافت على المادة في ذلك العصر
كان قد ألهى الناس حتى عن ذويهم وأقرب الناس إليهم، وقد اعترف الكثيرون بأنهم
أخيرا يجلسون مع أسرهم لأول مرة.
والسؤال الآن: هل لا بد لنا من قوة إلهية حتى نتذكر أنَّ الإنسان لم يخلق
وحسب لجمع المال والاكتفاء بالمادة؟! أما نعرف من أنفسنا أنَّ أرواحنا بحاجة إلى
محركات روحية أهم بكثير من المادة حتى تنتعش وتعانق انسياب السحب في فضاء الكون؟!
أيها الناس دعوا أرواحكم تستمد قواها من الجمال الحقيقي المتمثل في الإيمان
بالخالق، والإيمان بأن سعادة الروح ليست في الاهتمام بالمادة وحسب، وإننا الآن
بصدد استقبال شهر عظيم الإمدادات الروحية، وكم نتمنى من الله أن يهل علينا رمضان
ونحن ساجدون في رحاب بيوته مالئين الأسماع بآيات كتابه العظيم!
إن الأزمة التي يحياها العالم متى قدَّر الله أنْ تزول فإنها ستمضي
مُخلِّفةً وراءها أثرًا كبيرا، لكننا نطمع أن يكون هذا الأثر شديد الإيجابية في
الوصول إلى كل جميل والتخلص من كل قبيح وسطحي.. والخوف الكبير أن تمضي هذه الأزمة
ويعود العالم لسابق عصره من الأنانية والمادية المتوحشة والسطحية والبعد عن الله؛
فإنَّ الذي لا يتعظ من هذه الأزمة الكبرى لا يستحق الحياة من الأساس!
**
أحبُّ الاستماع إلى آرائكم قرائي الأعزاء على البريد الإلكتروني الخاص بي
وعلى صفحتي على الفيس بوك
بنفس العنوان :
a_ha3im@yahoo.com
0 comments:
إرسال تعليق