من مخازى المشهد العربى الراهن ، أن أحدا لم يخرج بعد تدمير طائرات الاحتلال لقنصلية طهران فى دمشق ، وسأل عن رد سوريا على العدوان الداهس لسيادتها وسوابقه التى لا تحصى ، ولا عن رد أى طرف عربى آخر ، بل كانت الأسئلة كلها عن رد إيران ، وربما يعبر السؤال المعوج عن تسليم صار مستقرا بحقائق الهوان العربى ، وكأن دمشق ليست عاصمة لبلد عربى ولا لنظام ، بل محض جغرافيا ، صارت مجرد عنوان بريدى ، ومحلا مختارا رخوا لتلقى الضربات فى حرب الكيان ضد إيران ، التى تتواصل حلقاتها من سنوات ، وتفاقمت حمم النار فيها بعد "طوفان الأقصى" وحرب "غزة" الجارية فصولها .
وقد لا نكون بحاجة لشروح مضافة
عن الذى جرى ويجرى ، وهو لم يبدأ اليوم ، ولا مع حرب سوريا بعد دفن ثورتها ، بل تعود
الأصول إلى نحو خمسين سنة مضت ، مع الاستثمار العكسى لنتائج ومغزى النصر فى حرب أكتوبر
المصرية السورية ، وقرار الرئيس السادات بإخراج مصر الرسمية من جبهة الصراع ضد كيان
الاحتلال ، وعقد ما يسمى معاهدة السلام قبل 45 سنة ، وفتح سفارة للكيان الصهيونى فى
القاهرة ، وفى ذات العام 1979 ، الذى قامت فيه "ثورة الخمينى" الإيرانية
، وأغلقت سفارة العدو فى طهران ، وحولتها إلى سفارة لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وكان
التحول أكبر من عقد معاهدات وحركة سفارات ، كان إيذانا بانسحاب مصر من المشرق العربى
عموما ، وغض الطرف عن أحواله ، التى راحت تتفجر تباعا ، من حرب لبنان الأهلية بدءا
من عام 1975 ، وإلى غزو العراق للكويت عام 1990 ، وإلى تحطيم سوريا بعد العراق ، كان
الغياب المصرى يخلى الساحات ، بينما كان يزحف الدور الإيرانى ، فكل فراغ تتركه خلفك
يحتله غيرك ، ولم يكن من طرف آخر مؤهلا لاتصال دور عربى جامع موحد فى المشرق ، ولا
لحمل مسئولية مشروع عربى فى أدنى درجاته ، اللهم إلا من أطراف الفوائض المالية ودفاتر
الشيكات ، ومن دون مضامين بناء أو تماسك لتكوينات فسيفسائية بطبيعتها ، وهكذا وجدت
إيران ومشروعها طريقا خاليا ممهدا ، خصوصا أن الأطراف البديلة للدور المصرى القديم
، انغمست حتى الآذان فى اللعبة الطائفية ، وكان ذلك مما يسوغ للدور الإيرانى ، ويفتح
الأبواب واسعة لتوحشه ، وتدفقت عشرات مليارات الدولارات على مشايخ وجماعات تكفير ،
تنفذ بالوعى أو بدونه حملات "فرق تسد" طائفية لحساب الغير المتربص ، وتكفر
الشيعة العرب بالجملة ، خصوصا بعد مشاركة نظم عربية وازنة فى دعم المجهود الحربى الأمريكى
لغزو العراق عام 2003 ، الذى ترك فراغا ملأته إيران ، وكانت جملة التطورات مواتية تماما
للنظام الإيرانى ، الذى يرتكز فى جوهره إلى تفسير خاص لمذهب الشيعة الإمامية الإثنى
عشرية ، ويعد المذهبية الشيعية عنصر تماسك "قومى" غالب فى إيران المتعددة
القوميات ، بينما "التمذهب" و"التطييف" يمزق نسيج المجتمعات العربية
المجاورة ، وهكذا راحت إيران تضيف إلى توابعها وجماعاتها ، سواء فى أقطار المشرق العربى
، وعلى حواف الخليج العربى ، وتمد حضورها الاستراتيجى إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط
، وإلى العنق الجنوبى للبحر الأحمر عبر "الحوثيين" المتشيعين فى اليمن ،
وهكذا تكونت ملامح الصورة الراهنة ، بما فيها تفريغ أوضاع أقطار عربية ضحية من معانى
الاستقلال الذاتى ، أو حتى الحفاظ على مبنى الدول بعد نفاد معانيها ، إضافة لتردى ظروفها
إلى قيعان الفشل المقيم المزمن ، وتحولها إلى جغرافيا مفتوحة لصدامات إيران مع
"إسرائيل" ، ومع أمريكا أحيانا ، وبالذات مع تصاعد القوة العسكرية الإيرانية
، وتطور برامجها الصاروخية والنووية ، وكان طبيعيا أن تصل القصة إلى ذروتها ، وأن يجرى
التسليم عمليا بأيلولة قيادة قضايا المنطقة المركزية إلى طرفها الإيرانى بعد غياب وتنائى
قلبها المصرى .
ولست بالطبع مع شطط المساواة
بين إيران وكيان الاحتلال "الإسرائيلى" ، فإيران فى البدء والمنتهى من حقائق
المنطقة الأصلية ، وتوحش نفوذها ومشروعها ، ليس له من سبب جوهرى إلا غياب المشروع العربى
المقابل المجاور ، وميل أغلب الأنظمة العربية القائمة إلى احتماء بالمظلة الأمريكية
، وإلى تفاهم مرئى مع كيان الاحتلال "الإسرائيلى" نفسه ، ورفعها لرايات عروبة
مريبة ، عروبة فارغة من أى معنى للعروبة ، وتفرط ـ ربما تخون ـ قضية الأمة ، وبالذات
فى عنوانها الفلسطينى ، الذى التمس فيه المشروع الإيرانى دفئا خاصا ، عملت عليه السياسة
الإيرانية بذكاء ودأب ، وإلى أن صارت طهران هى الداعم الأول ماليا وعسكريا لجماعات
المقاومة اللبنانية والفلسطينية ، بينما النظم العربية الوازنة تخلت عن المقاومة ،
بل وعملت ضدها ، وتواصل خيبة البحث عن السلام كخيار "استراتيجى" (!) ، وتغفل
عن ، بل وتصادم تطورا محسوسا على الصعيد الشعبى ، جعل المقاومة أولا فى لبنان ، ثم
بعدها فى فلسطين ، هى الخيار الاستراتيجى الجديد العائد ، الذى أنجز تحريرالجنوب اللبنانى
، ثم تحرير "غزة" الأول عام 2005 ، وبوسعه ـ بإذن الله ـ كسب تحرير
"غزة" النهائى فى الحرب الجارية اليوم ، التى تجد الأنظمة العربية نفسها
معزولة عن مجراها ، اللهم إلا من باب تقديم بعض المساعدات الإنسانية ، والعودة لتكرار
معزوفة "حل الدولتين" ، أو إقامة دولة فلسطينية ، لن يفتح لها باب النور
بغير المقاومة المسلحة ، وبغير برنامج كفاح فلسطينى موحد ، يصوغ الغايات النهائية والمرحلية
، فقد سقطت كل مراهنات الخيار "السلامى" البائس ، من "كامب ديفيد"
إلى "وادى عربة" و"أوسلو" وأخواتها ، ناهيك عن صفقات التطبيع واتفاقات
"أبراهام" وأشباهها ، وهو ما يضع سيرة الأنظمة العربية فى مأزق ، يكاد يشبه
مأزق كيان الاحتلال "الإسرائيلى" نفسه ، كذا مأزق "أمريكا" شريكته
فى حرب الإبادة ، ومع المأزق الجامع لحلفاء المسرح الإجرامى ، تكاد إيران هى الأخرى
تصل إلى حائط مسدود ، فقد لا ينكر أحد دورها فى دعم جماعات المقاومة ، لكن سيرة الصراع
تجاوزت حتى حدود الدور الإيرانى ، فلم تعلم طهران بعملية "طوفان الأقصى"
المزلزلة قبل الشروع فى التنفيذ ، وقد كانت تفترض العلم المسبق والإجازة أو المنع بحكم
كونها رأسا لما تسميه "محور الممانعة" ، وليس ببعيد ذلك الخلاف العلنى الذى
دار ، ورفضت فيه "حركة حماس" مزاعم إيرانية ، هدفت إلى تجيير "طوفان
الأقصى" لصالح طهران ، وادعت أن العملية "الفلسطينية" الخالصة كانت
ثأرا لاغتيال "قاسم سليمانى" قيادى الحرس الثورى الإيرانى ، وقد تجد حركات
مقاومة فلسطينية نفسها مدفوعة لحفظ خيوط إلى طهران ، فلا توجد حركة مقاومة فى التاريخ
تصد يدا تدعمها ، وحركات المقاومة الفلسطينية بلغت حدا مميزا من الرشد ، وإلى حد امتناعها
عن الدخول فى ملاسنات علنية مع أطراف عربية تخذلها ، وليس من مصلحتها ولا صالح قضيتها
الفلسطينية من باب أولى ، أن تدخل فى مماحكات مع أطراف تبدى رغبة فى دعمها ، وعلى أن
يكون الشعار والغاية فلسطين أولا ، فالمنطقة مزدحمة بعشرات من القضايا والإشكاليات
والمآزق والمآسى ، لا يصح لقضية التحرير الفلسطينى المقدسة أن تتوه فى دهاليزها ، وتحرير
فلسطين يبدأ من فلسطين ، وليس من أى مكان آخر ، وعقيدة المقاومة الفلسطينية هى فلسطين
وقدسها وأقصاها وكنائسها وأرضها من النهر إلى البحر ، وقد أثبت الشعب الفلسطينى مقدرة
لا تنفد على الفداء والتضحية ، ورد اعتبار قضيته فى العالمين ، وجعلها قضية العالم
الأولى اليوم ، والعنوان الأبرز لتحركات ومظاهرات أحرار الدنيا ، حتى فى عواصم الغرب
المتواطئ بالخلقة مع كيان الاحتلال الصهيونى ، وهو ما لا نشهد له مثيلا فى أغلب عواصم
العرب المحكومة بالخفافيش ، ومن دون إنكار حقيقة تعلق قلوب الشعوب العربية بالهم الفلسطينى
، ففلسطين توحد العرب ، ولكن ليسوا هم الذين يحررونها اليوم ، ولا الإيرانيون طبعا
، المحكومون بسقف مصالح المشروع والدور الإيرانى ، أيا ما كانت المزاعم الأيديولوجية
، وعند نقطة معينة من تطور الكفاح الفلسطينى ، كالتى نشهدها اليوم ، لم يكن غريبا أن
تبدى طهران ميلا للتراجع ، والإعلان عن عدم رغبتها فى خوض حرب شاملة مع كيان الاحتلال
"الإسرائيلى" ، مع ضبط أسقف انخراط "حزب الله" بالذات ، وتبادل
الرسائل الضاغطة مع واشنطن ، وعلى نحو ما فعلت بعد تدمير قنصلية طهران فى دمشق ، وقتل
عدد من كبار قادة الحرس الثورى الإيرانى ، ومن دون رد إيرانى ، قد يتلكأ قليلا أو كثيرا
، لكنه ـ فيما نعتقد ـ لن يصل إلى حد إشعال حرب واسعة ، تشارك فيها طهران بسلاحها المباشر
، ربما رغبة من طهران فى مواصلة ما تسميه "الصبر الاستراتيجى" ، وعلى أمل
أن يتاح لها قطف بعض ثمار معركة الدم الفلسطينى ، الذى يهزم السيف "الإسرائيلى"
والأمريكى بإذنه تعالى .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق