رغم تصريحات هنا وهناك من وسطاء ، بينها ما صدر عن مدير المخابرات المركزية الأمريكية "ويليام بيرنز" قبل أيام ، وكلها تشير لاستمرار مساعى التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار موقوت فى حرب "غزة" ، وكان ظن بعضهم ، أن تهدئة أو هدنة الأسابيع الستة ستبدأ مع دخول شهر رمضان المعظم ، وهو ما لم يحدث ، وإن كانت المحاولات جارية لاستئنافه ، وكان موقف حركة "حماس" وأخواتها قاطعا وصحيحا فيما نظن ، فليس من معنى لوقف مؤقت للحرب ، يعود بعده كيان الاحتلال "الإسرائيلى" للعدوان الهمجى البربرى ، ومواصلة حرب الإبادة الجماعية للمدنيين العزل الأبرياء ، ومضاعفة شلالات الدماء وزلازل التدمير ، والتقدم بالغزو البرى إلى "رفح" أقصى جنوب "غزة" ، وقصف حياة مليون ونصف مليون فلسطينى فى خيام بدائية ، نزح أغلبهم مرارا من مناطق شمال ووسط قطاع "غزة" .
وفيما ذهبت
المراجع "الإسرائيلية" والأمريكية ، وبينها الرئيس الأمريكى "جو
بايدن" نفسه ، إلى تحميل حركة "حماس" المسئولية عن تعثر المفاوضات
، فقد ذهب الوسطاء العرب من مصر وقطر إلى العكس بالضبط ، وحملوا المسئولية لتعنت
حكومة "بنيامين نتنياهو" ، فموقف حركة "حماس" بدا أكثر اتساقا
مع الخطة الأصلية للتفاوض ، على نحو ما بدا فى إطار "باريس" الأول ،
المبنى فى خطوطه العريضة ضمنا على تصور مصرى أسبق من ثلاث مراحل متتابعة ، يتعدى
الاتفاق على تبادلات الأسرى فى كل مرحلة ، وينتهى بالاتفاق على وقف إطلاق نار دائم
وشامل ، وهو ما أبدت حركة "حماس" مرونة ظاهرة معه ، وانتقلت من موقف
الإصرار على عدم تجزئة ورقة الأسرى ، إلى قبول التجزئة المتسلسلة ، ولكن مع اتفاق
بضمانات دولية ، يشمل التعهد بوقف إطلاق نار دائم لا مرحلى ، وانسحاب قوات
الاحتلال من "غزة" بكاملها ، وتأمين عودة كلية للنازحين إلى مناطقهم
الأصلية فى شمال غزة ووسطها ، والانسياب الحر عبر كل المعابر للمساعدات الإنسانية
وإعادة الإعمار ، وهو ما ترفضه "إسرائيل" طبعا ، وتعتبره تسليما كاملا
بهزيمة حملتها الوحشية فى "غزة" ،
وهو ما يعنى استمرار الحرب ، خصوصا مع اتضاح دعم "واشنطن" للحرب
على "غزة" ، وإعلان الرئيس الأمريكى عدم وجود خطوط حمراء فى دعم
"إسرائيل" بالسلاح والطائرات والقنابل والصواريخ ، وقد أرسلت
"واشنطن" مئة صفقة سلاح متطور لجيش الاحتلال ، وإن كانت
"واشنطن" تشك فى نفع إمدادات السلاح ، وفى جدوى الاحتكام إليه ، فى حرب
طويلة دخلت شهرها السادس ، ومن دون أن يتحقق لحكومتى "واشنطن" و"تل
أبيب" شئ من الأهداف المتفق عليها ، فلا الحرب المجنونة قضت على القوة
العسكرية لحركة "حماس" ، وقد احتفظت بغالب كتائبها وأنفاقها لا تزال
بحسب تقييم استخباراتى أخير للأجهزة الأمريكية ، ولا الحرب الدموية أعادت أسيرا
"إسرائيليا" واحدا من "غزة" بالقوة المسلحة ، ولا هى مهدت وضع
غزة المدمرة لإقامة حكم عائلات عميلة ، وما من فارق جوهرى طبعا بين أمريكا
و"إسرائيل" فى الأهداف الأصلية ، وإن كان التفاوت ظاهرا فى تقدير
النتائج المحققة ، ومن هنا نفهم إشارة "بايدن" إلى أن "نتنياهو يضر
إسرائيل أكثر مما ينفعها" ، وهو ما رد عليه "نتنياهو" فى حوار لاحق
مع قناة "فوكس" الأمريكية ، وقال أن "بايدن" مخطئ ، وأن
سياسته تحظى بدعم ائتلاف حكومى يمثل غالبية "الإسرائيليين" ، ونفى
"نتنياهو" وجود "اعتبارات شخصية" فى سياسته المصممة على إحراز
ما أسماه" النصر المطلق" ، مع أن "الاعتبارات الشخصية" فاقعة
فى حالة "نتنياهو" ، الذى يدرك أن إنهاء حربه يعنى نهاية وجوده السياسى
، وعلى العكس من "بايدن" ، الذى تزايدت خشيته مع اتصال الحرب من فقدان
فرصته فى التجديد الرئاسى بنهاية العام الجارى ، وتحت وطأة المخاوف الشخصية
المتبادلة المتعارضة ، يحاول "بايدن" إخضاع نتنياهو لرؤية حكومة
"إسرائيل" الأم فى "واشنطن" ، ودعت إدارته "بينى
جانتس" منافس نتنياهو لزيارة إلى واشنطن ، ربما لتخويف "نتنياهو"
من بديل يبدو جاهزا بشعبية أعلى ، بينما "نتنياهو" يدفع لتبديل
"بايدن" نفسه ، ولا مانع عنده من تقبل تدهور علاقته الشخصية مع
"بايدن" ، فهو ينتظر صديقه الأوثق "دونالد ترامب" ، وفوزه
المرجح برئاسة أمريكا بحسب استطلاعات الرأى ، ويؤكد على ثقته المطلقة فى التأييد
الساحق من أغلب الأمريكيين لحكومة "إسرائيل" الأصغر فى "تل
أبيب" ، وما دام "نتنياهو" واثقا فى عدم قدرة "بايدن"
ولا رغبته بإبداء أى ضغط جدى تجاهه ، فهو يعتبر أن لديه الضوء الأخضر من
"واشنطن" ، ويطارد أوهامه التى لم يتحقق منها شئ حتى تاريخه ، ويظن أنه
لم يتبق فى الحرب سوى شهرين أو أقل ، ينجز فيها اجتياحا لمنطقة "رفح" ،
ويحطم ما يقول أنه "الربع" الأخير من قوة "حماس" ، واغتيال
القادة الثلاثة المتبقين لحركة "حماس" فى "غزة" ، وهو ما لا
تمانع فيه الإدارة الأمريكية ، وإن كانت لا تثق فى مقدرة "إسرائيل" على
تحقيق أهداف "نتنياهو" ، فما عجزت عنه "إسرائيل" فى خمسة شهور
وتزيد ، لا يبدو ممكنا تحقيقه فى بضعة أسابيع إضافية ، و"واشنطن" تعرف
أن "نتنياهو" يكذب حتى على نفسه ، فجيش "حماس" المنعوت
بالإرهاب "إسرائيليا" وأمريكيا ، ليس جيشا منظورا معدود الكتائب ، بل
جيش غاطس مختفى فى شبكة أنفاق هائلة تحت الأرض ، ودخول جيش الاحتلال إلى منطقة ما
فى "غزة" شمالا أو جنوبا ، لا يعنى أنه قضى على "كتائب حماس"
فى منطقة سبق غزوها أرضيا ، فالمقاتلون المقاومون يتحركون بسلاسة من الشمال إلى
الجنوب وبالعكس ، ومقتل قائد من "حماس" أو حتى كل القادة ، لا يعنى أن
حماس انتهت أو شارفت على النهاية ، وقد اغتالت "إسرائيل" أجيالا من
القادة السياسيين والعسكريين لحركة "حماس" ، ولكن من دون أن تختفى
الحركة ، فتيار المقاومة هو القائد وليس شخصا بعينه ، واستشهاد الأشخاص يزيد
المقاومة لهيبا ، ثم أن الحركات المقاومة العقائدية من نوع "حماس"
وأخواتها ، تبنى تنظيماتها الحديدية على أساس وجود بدائل جاهزة لكل شخص قيادى ،
وهو ما تعجز "إسرائيل" ـ وأمريكا أيضا ـ عن فهمه للاختلاف الثقافى البين
، تماما كما تعجز عن فهم اختلاف "حماس" وأخواتها عن تنظيمات الإرهاب
المأجور من نوع "القاعدة" و"داعش" وغيرهما ، وهو ما يمارى فيه
كيان الاحتلال ، ويتخيل أنه بالوسع القضاء على المقاومة باغتيال قادتها ، ويعد كل
اغتيال يحدث وكأنه النصر المبين ، والفرصة المؤكدة لإحلال جماعات مأجورة محل
جماعات المقاومة ، وعلى نحو ما يحلم به اليوم ، ويعد له عبر الجنرال "غسان
عليان" "الإسرائيلى" "درزى" الأصل ، والتحرك لشراء ولاء
عائلات و"حمائل فلسطينية ، وتسليح العائلات المعنية لمحاربة "حماس"
عسكريا ، وبدعوى الدفاع عن الشعب الذى قتل وجرح وفقد منه نحو المئة والعشرة آلاف
إلى اليوم ، وكأن الشعب الفلسطينى ينسى ، أن حرب الإبادة "الإسرائيلية"
هى التى تقتل وتدمر وتجوع وتفتك بأطفاله ونسائه ، وتجاهل ذلك كله وغيره ، هو منتهى
الجهل بوعى الشعب الفلسطينى ، الذى يعرف طفلا وأبا وأما عن جد وجدة ، أن صانع
مأساته هو الاحتلال لا المقاومة ، وأن أى تجاوب مع مخططات الاحتلال ، هو قمة الخيانة
للأرض والشهداء والدماء ، وهو ما يجعل فكرة إدارات وروابط "الحمائل"
محكوما عليها بالإعدام ، حتى قبل أن تبدأ ، وقد وجهت حركة "حماس" تحذيرا
للمعنيين ، الذين يعرفون جيدا مصائر العملاء وصناع الفتن ، تماما كما عرفوها قبل
أربعين سنة فى "روابط القرى" بالضفة الغربية ، وهى فكرة
"إسرائيلية" ساذجة ، وأدتها حركة "فتح" وقتها فى مهدها ، وهنا
تبدو حكومة "إسرائيل" فى "واشنطن" أكثر حذرا من حكومة
"إسرائيل" فى "تل أبيب" ، وتطرح أفكارا التفافية من نوع إقامة
ميناء ورصيف بحرى على سواحل "غزة" ، وبدعوى تسريع المساعدات الإنسانية
للمحتاجين ، وباتفاق ظاهر مع حكومة "تل أبيب" ، ومن وراء الغلالة
"الإنسانية" المموهة ، تسعى "واشنطن" لإقامة رأس جسر بحرى ،
ربما يتم عبره تهجير واسع للفلسطينيين من "غزة" ، وربما توفير قاعدة
عسكرية تسهل الاستيلاء على حقول الغاز الفلسطينى فى بحر "غزة" فيما بعد
، والفكرة تبدو أخطر من أفكار "روابط الحمائل" المتهالكة ، خصوصا أنها
تجرى باتفاق مع أطراف سياسية فلسطينية مريبة ، وإذا كانت حركات المقاومة حذرت
عملاء إدارات "الحمائل" ، فربما يصح بالقدر نفسه ، أن تتحرك ضد ترتيبات
"واشنطن" المتفق معها "إسرائيليا" ، فمن حق الفلسطينيين طبعا
أن تكون لهم موانيهم على بحر "غزة" ، وعلى أن تكون مدارة من قبل سلطة
وطنية جامعة ، وليس من قبل عناصر مشتبه بأمرها ، تريد أن تقفز إلى قلب الصورة وسط
دمار حرب الإبادة ، وهو ما نثق أن شعب فلسطين فى "غزة" لن يقبل به ، حتى
لو كان الثمن استمرار الحرب الجارية لسنوات مقبلة .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق