إنّ من أكثر لغات شعوب العالم قوةً وجزالةً هي اللغة العربية ، لتمتعها بمفرداتٍ لغويةٍ بلغت الملايين ، ممّا جعل منها أكثر اللغات قدرةً على التعبير، واستخدامًا لأساليب الإيحاء والترميز، والتحكم بالمعايير اللغوية،والتعابير المعنوية، ولقد برع شعراء العرب منذ عصر الشعر العربي الجاهلي إلى عصرنا هذا في تسخير تلك المفردات لصياغة أجمل ما كُتب من الشعر العربي الموزون، ليبقى الشعر العربي هو الشعر الوحيد والعلم الوحيد الذي لم تستطع شعوب العالم أكمل على مجاراته أو الإتيان بمثل مفرداته وأوزانه، وكيف لا وهو لغة القرآن الخالدة ومعجزته.
ولقد تطرقت في الحلقات السابقة إلى عدة أساليب من أساليب الفنّ اللغوي الشعري منها لغة الترميز، وفي هذه الحلقة سأتطرق إلى إسلوبٍ أدبيّ ٍ آخر من أساليب اللغة الشعرية وهو إسلوب الإيحاء.
إنّ للإيحاءات والذّبذبات الإيحائية طاقاتها الإيجابية ، والتي تنتقل من فكر وروح الشاعر إلى فكر وروح المتلقّي ، وفقًا لوعي ومدارك ذاك المتلقّي، وقد يرسم لها صورةً مغايرةً تمامًا للصورة الذهنية التي عند الشاعر، والمتكونة من عدّة إيحاءاتٍ وغموضٍ يرى الشاعر ضرورته لأكثر من سبب.
أستخدم الكثيرُ من الشّعراء لغة الإيحاء كوسيلةٍ لإيصال رسالةٍ ما لفئةٍ من الناس أو مجتمعٍ ما، أو فردٍ ما يخصه الشاعر بالقصيدة ،أو لإضافة جمالياتٍ بلاغيةٍ ولغويةٍ على قصائدهم، تثير فيها الغموض وحبّ الاستكشاف لدى القارئ والمتلقّي، ليبحثَ عن تأويلات هذه القصيدة وعن رؤى الشاعر المخفية بين أبيات القصيدة.
إنّ إسلوب الإيحاء نزعةٌ حضارية، وطفرةٌ أدبيةٌ تجسّد وترسم مدى المعأناة والجراح والمظلومية المكبوتة عند الشاعر، أو عند الأمّة، إنّها لغةُ قمّة الألم والصراع بين البوح وعدمه، وبين التصريح والتلميح، وقد يخلط البعض بين إسلوب الإيحاء وإسلوب التشبيه.
ولقد استدعت عدّة عواملَ وأسبابٍ لاستخدام الشعراء لغة الإيحاء أذكر من تلك العوامل:
١- الإضطهاد ،والضغوطات السياسية، أو النفسية، أو الإجتماعية، أو الأسرية، أو العاطفية.
٢- الإبداع ومحاولة القدرة على تسخير الأساليب البلاغية من خلال لغة الإيحاء والترميز.
٣- القصائد الإيحائية نوعٌ من أنواع القصائد القابلة للتأويلات المتعددة، وهو تدفّقٌ شعوريٌّ ينفجر في حالة العنفوان الشّعري خاصةً، فيعطيها طعمًا أدبيًّا مختلفًا وأكثر جمالا وإثارة .
٤- إسلوب الإيحاء في القصيدة لا يكتبه إلاّ شاعرٌ متمكّنٌ له قدرته الأدبية والبلاغية، والأبيات الإيحائية أو القصيدة الإيحائية تحتاج أيضًا لمتلقٍ وقارئ ٍمبدعٍ لديه المكنة اللغوية، والثقافية، والتّشفيرية.
٥- قد يحتاج الأمر أحيانًا لشرح بعض المفردات في هامش الكتاب، إلاّ أنه ليس من المستحسن فكّ الرموز أو الإشارة إلى المعاني المخفية.
نوعية القصائد الأكثر مرونةً للرمزية وللإيحاء:
١- أكثر القصائد قابليةً للقصائد الرّمزية والإيحائية تكُتب في الشّعر الحرّ الموزون " نظام التفعيلة " والبحر المتعدّد الرّوي، والمتحرر من وحدته، كما أنّه لا يستبعد ذلك مطلقًا عن القصيدة العمودية الموحدة الروي أوالنثر.
٢- يعتمد الشاعر الماهر في كتابة قصيدته الرّمزية على معاناته الشخصية العاطفية منها، أو الإجتماعية، أو المعأناة الجماعية لوطنه، أولشعبه، أو لقبيلته، وما إلى ذلك.
ولديه القدرة أيضًا على التّقمص في شخصية من يريد الشاعر إبراز شخصيته، وما فيها من طموحاتٍ ومتاعبَ وأوجاعٍ، أو ذمًا من خلال اتّباع إسلوب التعنيف والتوبيخ، وهنا تأخذ القصيدة منحى الهجاء في أسلوب التّرميز والإيحاء.
٤- يجب توخي الحذر حين كتابة القصيدة الإيحائية والرّمزية فلا يبالغ الشاعر في الصّور الرّمزيّة والإيحائية الغامضة القاتمة، فتخرج القصيدة عن مستوى الجمال المطلوب وإيصال الرّسالة المطلوب إيصالها إلى المجتمع؛ وتدخل في دهاليز الظلمة المعتمة، فيفقد المتلقّي الأملَ في فكّ شفراتها فيُعرض عنها، فلابدّ من احتواء القصيدة الإيحائية الرمزية على منافذَ ثانويةٍ يرى فيها المتلقيُّ الضّوءَ والذي يزيدها جمالًا وعذوبة.
......................................................
المصدر/ السبيل إلى بحور الخليل- كيف أعدّ نفسي لكتابة الشعر
أ.د.أحلام الحسن
الحقوق محفوظة للمؤلفة
0 comments:
إرسال تعليق