هل من أفق مفتوح للتقدم إلى تسوية قريبة على
الجبهة الفلسطينية ؟ ، لا يبدو الجواب بالإيجاب واردا فى المدى المنظور ، صحيح أن
ثمة نشاطا سياسيا ودبلوماسيا مكثفا متواترا يجرى بعد قيامة فلسطين الأخيرة ، وعقب
التوصل لوقف إطلاق النار بتدخل ووساطة مصرية أساسا ، وبترحيب أمريكى ظاهر ،
وبمحادثات هاتفية مطولة ومتكررة ، بادر إليها الرئيس الأمريكى جوبايدن مع الرئيس
المصرى عبد الفتاح السيسى ، عكست اهتماما واعترافا أمريكيا متزايدا بتقدم الدور
المصرى القيادى الجديد فى المنطقة ، وشملت أغلب قضايا الاهتمام المشترك فى المحيط
العربى ، بما فيها أولوية مشكلة سد النهضة وحقوق مصر المائية غير القابلة للتصرف ،
وركزت بالطبع على المسار الفلسطينى الإسرائيلى ، وإن ظلت الهوة واسعة عميقة ،
فالدبلوماسية المصرية تتحدث عن ضرورة التوصل لحل دائم عادل شامل ، وإقامة دولة
فلسطينية عاصمتها القدس على حدود الرابع من يونيو 1967 ، بينما تميل واشنطن
كعادتها إلى إدارة الصراع لا حله ، والتحيز المطلق لكيان الاحتلال الإسرائيلى ،
وتناول مفردات جزئية ، من نوع إعادة إعمار غزة ، والدعم المالى لوكالة غوث اللاجئين
الفلسطينيين "الأونروا"، وإعادة مد الجسور مع سلطة الرئيس عباس ، وتجنب
التعامل المباشر مع حركة "حماس" ، وتفضيل التواصل معها عبر "القاهرة"
وعواصم أخرى ، والبحث فى صيغ ما يسمى "هدنة دائمة" ، بعد أربعة حروب
دامية دارت بين جيش الاحتلال وفصائل الصواريخ والمقاومة فى غزة .
والمعنى ببساطة ، أنه لا فرصة للوصول إلى تسوية
عادلة ولا ظالمة فى مدى الشهور المقبلة ،
وربما فى سنوات إدارة بايدن كلها ، حتى لو جرى استئناف التفاوض ، أو عقد
لقاءات على نحو مباشر أو غير مباشر ، كما أوحت زيارات وزير الخارجية الأمريكى
أنتونى بلينكن الأخيرة للقدس ورام الله والقاهرة وعمان ، فقد أظهر الصدام الشعبى
والحربى الأخير وجها أصيلا كان مخفيا للصراع ، ولم تعد القصة محصورة فى غزة ولا فى
الضفة ولا حتى فى القدس الشرقية ، ولا فى نتائج عدوان 1967 ، بل عادت القضية
الفلسطينية إلى صباها وفتوتها الأولى ، وعاد الصراع إلى كل فلسطين من النهر إلى
البحر ، ومن "رفح" إلى "رأس
الناقورة" ، وهذا هو المكسب الحقيقى الباهر لقيامة القدس وفلسطين الأخيرة ،
فقد كانت حروب 2008 ـ 2009 و2012 و2014 تدور فى غزة ، أو على غلافها المحتل ،
بينما كانت حرب 2021 مختلفة نوعيا ، وجعلت "غزة" جزءا من معنى فلسطينى
جامع ، أكده تضاعف مدى الصواريخ "الغزاوية" إلى كل فلسطين المحتلة ،
وهلع أغلب سكان إسرائيل ، واللجوء شبه الجماعى إلى سكنى المخابىء والملاجىء ، فوق
صحوة فلسطينيى الداخل على نحو غير مسبوق منذ نكبة 1948 ، ولم يكن لذلك كله أن يحدث
، لولا تراكم أثر الانتفاضات الفلسطينية الأحدث فى 1987 و2000 و2015 و2017 ، ولولا
رمزية "القدس" التى بدأت منها القيامة الأخيرة ، وهذا ما يدركه كيان
الاحتلال بالغريزة ، وجعله يواصل الحرب برغم سريان اتفاق وقف إطلاق النار مع غزة ،
وعلى جبهات اقتحام المسجد الأقصى ، والعدوان اليومى على "حى الشيخ جراح" و "بطن الهوى" وغيره من أحياء القدس
، وقتل النشطاء الفلسطينيين فى مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية ، وأسر المئات من
قادة انتفاضة الداخل الفلسطينى ، فقد اتسعت جبهات الصدام بما لا يقاس إلى ما كان
من قبل ، ويسعى كيان الاحتلال إلى مطاردة أشباح هزيمة تاريخية بدت نذرها ، ويريد
أن يصادر بالقوة الفظة العارية على احتمالات المستقبل الفلسطينى ، فقد بدا وكأن كل
شهداء فلسطين على مدى تاريخها الحديث ، عادوا من المقابر ثانية ، واستأنفوا رحلة
الثأر للوطن السليب كله ، وبما لم يرد أبدا فى حسابات المخطط الإسرائيلى ، الذى
تصور أن اتفاقات تطبيع "أبراهام" وإغراءاتها ، قد تكتم أنفاس فلسطين إلى
الأبد ، بينما حدث العكس بالضبط ، فليست القصة فى خسائر الفلسطينيين بغزة ، ولا فى
غيرها ، ولا فى مئات الفلسطينيين الذين ارتقوا إلى سماوات الشهادة ، ولا فى
التشريد والهدم ، ولا فى تدمير آلاف الوحدات السكنية كليا وجزئيا ، وكل ذلك مما
اعتاده الفلسطينيون فى رحلة العذاب الطويل ، وصبروا على مكارهه وآلامه وتضحياته ،
بل القصة فى مكان آخر ، فى ذعر إسرائيل الغريزى التاريخى، وفى المخاوف من إنزلاق
إلى الهاوية ، فقد تصنع القوة الظالمة واقعا موقوتا ، لكن ليس بوسعها طمس الحقائق
الأكثر رسوخا ، وقد وصلت إسرائيل إلى ذروة توسعها فى حرب 1967 الخاطفة ، لكنها لم
تنتصر أبدا فى أى حرب تلت ، لا فى حرب الاستنزاف ولا فى حرب أكتوبر ، ولا فى حرب
لبنان ، ولا فى حروب غزة ذاتها ، التى جلت عنها إسرائيل من طرف واحد ، وفككت
مستعمراتها اليهودية فيها عام 2005 ، ليس باتفاق سلام مما يعدون ، بل تحت ضغط
انتفاضات الحجارة والرصاص ، ومن دون توقيع صك تطبيع ولا استسلام ، ولا حتى قبول
لصيغة "هدنة دائمة" إلى اليوم .
والمعنى مجددا ، أننا بصدد انكماش تاريخى
متزايد فى توسعات كيان الاحتلال ، فوق الانكماش السكانى مع تزايد الكثافة
الفلسطينية بالأرض المقدسة ، وبمداخل وملابسات تاريخية متنوعة ، بدءا من تحرير "سيناء"
، التى تساوى مساحتها ثلاثة أمثال ونصف مثل مساحة فلسطين المحتلة كلها ، ثم عودة
الجيش المصرى بهيئته الكاملة فى السنوات الأخيرة إلى الحدود المصرية الفلسطينية
التاريخية ، بعد الإنهاء العملى لمناطق وشروط نزع السلاح المنصوص عليها فيما يسمى "معاهدة
السلام" القائمة نظريا ، ثم الجلاء الإسرائيلى الإجبارى عن جنوب لبنان هروبا
من ضربات المقاومة ، ثم الجلاء عن غزة ، ثم الجلاء عن مزارع الأردن المؤجرة بعد
ربع قرن على معاهدة "وادى عربة" ، ثم عودة الروح القومية إلى الشوارع
العربية الممزقة مع البعث الفلسطينى الجديد ، وانفتاح سبل عمل ثلاث إلى هدف
التحرير الفلسطينى ، أولها : المقاومة الشعبية والمسلحة على خريطة فلسطين كلها ،
وثانيها : المقاطعة الشعبية العربية لكيان الاحتلال واتفاقات التطبيع ، وثالثها : مناصرة
أحرار العالم للقضية العائدة إلى التوهج ، وتدفق مظاهرات التضامن بمئات آلاف
النشطاء مع الحق الفلسطينى ، حتى فى عواصم الدول الغربية الكبرى ، التى أنشأت كيان
الاحتلال ودعمته وتدعمه ، وبالذات فى بريطانيا صاحبة "وعد بلفور" ، وفى
أمريكا كفيلة إسرائيل وأمنها ووجودها المهدد ، وكما لم يحدث على مدى 73 سنة من عمر
النكبة الفلسطينية .
ومن الخطأ اختصار قضية فلسطين فى حركة أو فصيل
بعينه ، أو حتى فى صراع دينى محض ضيق الأفق بطبعه ، فنحن لا نعادى اليهود كيهود ،
بل نعادى الصهيونية وأساطيرها المصطنعة المكذوبة ، التى احتلت فلسطين ، واستوطنتها
وشردت أهلها ، ولم تفلح برغم توالى نوبات التهجير والمجازر ، فى نفى الوجود
الفلسطينى المتكاثر الصامد على أرضه ، الرافض لانتقاص حقه ، المصمم على مواصلة معارك
التحرير الوطنى ، وبكافة الصور والأساليب المتاحة ، وحتى إقامة دولته الديمقراطية
على كامل أرضه المحتلة ، وبغير تمييز دينى أو عنصرى ، وهذه رحلة قد تطول بطبائع
الأحوال ، وعلى مدى العقود القليلة المقبلة ، وقد لا يفيد معها استئناف المفاوضات
إياها ، وقد استمرت بغير جدوى عبر نحو ثلاثين سنة سبقت ، منذ عقد اتفاقية "أوسلو"
وأخواتها ، التى تحولت إلى قيد ثقيل على طلاقة حركة الشعب الفلسطينى ، وأدخلته فى
متاهة ، لم تنقذه منها غير قيامة القدس وفلسطين الجديدة ، فقد يكون مقبولا ومعقولا
، أن يتقدم الشعب الفلسطينى إلى حقه كاملا على مراحل إنجاز متلاحقة ، وأن تتحرر
قطعة أرض تلو الأخرى ، وعلى نحو ما جرى فى تحرير "غزة" ، وهذه طريقة
مختلفة فى الفهم والسلوك ، ليست واردة فيما يعرض من تسويات على الموائد اليوم ،
كتلك الطبخة المسماة "حل الدولتين" ، وبتبادل أراضى ، والإبقاء على أغلب
المستعمرات اليهودية فى الضفة ، ومن دون استعادة القدس ، أو مع افتعال "قدس
أخرى" خارج حدود زهرة المدائن ، ونزع سلاح الدولة الفلسطينية المقترحة ، وهذه
كلها صيغ تداول ، لن يقبلها الشعب الفلسطينى فيما نظن ، حتى لو تورط أحدهم ووقع
عليها ، فتكون نهاية سيرته المستعجلة ، الساعية إلى تسوية تبدو مستحيلة القبول
شعبيا ، فى وقت عادت فيه السيرة الفلسطينية من حيث بدأت ، وهذه طبيعة المأزق
الراهن لمحاولات وجهود التسوية إياها ، فقد تعود المفاوضات ، وتنعقد المؤتمرات ،
وتجرى اتفاقات على عناوين تهدئة موقوتة ، وعلى التقاط أنفاس ، وعلى إعادة تنظيم
وتبادل أدوار إقليمية ، أو حتى تحسين وتجديد وتوحيد قيادة وطنية فلسطينية ، لن
تكون عندها مستعدة لقبول ما يعرض من تسويات مجحفة ، تقطف الثمار من جذورها قبل
تمام النضج .
0 comments:
إرسال تعليق