( الصلح ) يطلبه كل إنسان حكيم ويرغب فيه كل عاقل ، فالصلح معناه إعادة المياه إلى مجاريها او ارجاع ما فسد إلى سيرته الاولى ، او قطع النزاع ، فطبيعة الإنسان أنه مدني بطبعه لا يستغني عن التعامل مع إخوانه من بني البشر ، ولا يستطيع أن يعيش منفرداً، ولكن عليه أن يحتمل الأذى ويكف أذاه عن إخوانه،وان يصطلح وان يرجع وهو دليل كذلك على صفاء نفسه وحسن خلقه .
وقد أمر الله- تعالى - عباده بالصلح ، وذكر - سبحانه - ذلك في أية كريمة بأن الصلح خير
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
ورغم ورود هذه الأية القرآنية فى سياق الحديث عما قد يقع بين الأزواج من أحوال قد تؤدى إلى الاختلاف والتفرق، وأن الصلح بينهم على أى شىء يرضيانه ويتفقان عليه هو خير من تفرقهم، غير أنها قاعدة هامة من قواعد بناء المجتمع، وإصلاحه، وتدارك أى سبب لتفككه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو من أرسى أسس الصلح والخير والحوار والتسامح ، فلو تأملنا في صلح الحديبية وبنوده والاتفاقات التي تمت فيه بين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وبين مشركي مكة ، لوجدنا أن في ظاهرها إجحافاً واضحاً على المسلمين وهضماً لهم، وضعفا منهم ، بل تبادر إلى أذهان بعض الصحابة -رضي الله عنهم- أن هذا تنازل من جهتهم لأعداء الله، حتى قال عمر -رضي الله عنه – لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآه قد وافق على بنود الصلح ورضي بها قال: “يارسول الله: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين عدونا؟” ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو معلم البشرية، والذي يعلم أن الخير كل الخير في الصلح قال له: “يا عمر إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ولن يضيعني أبداً
وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ترك الصلح ورده فقال: “تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثنين، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا”
فالصلح خير للجميع ، فهو الخيار الأفضل في كل النزاعات والمشاكل ، وهو خير أسلوب في كل نواحي الحياة ، لأن الخصام والتعنت والتشبث بالرأي يؤدى الى الهلاك ، وتبقي المشاكل قائمة والنزاعات مستمرة .
ومن تأمل القرآن، رأى سعة هذه القاعدة من جهة التطبيق، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره من الإصلاح بين الأزواج، فإننا نجد فى القرآن الحث على الإصلاح بين الفئتين المتقاتلتين، ونجده يثنى ثناء عظيما على الساعين فى الإصلاح بين الناس: {لَا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}
كعادتى ، أتسائل :
ماذا نقول فيمن يتعنت ويرفض الصلح ويحب أن تبقى الأمور كما هي ويرضى بالمشاكل أن نستفحل وتتطور؟
ماذا نقول فيمن يطرق أبواب المحاكم، ويطول القضايا، ويعقد المشاكل ويرفض الصلح؟ ... ويحب أن تبقى المشكلة في المحكمة فترة طويلة يتكلف فيها أموالاً طائلة مع المحامين وغيرهم، وينقطع فيها عن مشاغله وأموره حتى يتفرغ لجلسات المحاكم وفصوله، ويرى أن حكم المحكمة خير له من الصلح؟ وينسى قول الله – سبحانه وتعالى -: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)
ماذا نقول في الذين يمرون على مشكلة معينة أو يقفون عليها وبإمكانهم أن يتدخلوا فيها بالإصلاح والصلح؟ ... ولكنهم يتهربون من ذلك، ويقولون قولتهم الشهيرة "أنا مالي ومال الناس!! وينسى أن الصلح خير.
كم من مشاكل يعج بها مجتمعنا وتدور في واقعنا وتبقى لسنوات طويلة مستمرة بين الطرفين ؟ وقد تنتهي بالقتل والخراب ، بسبب أننا لم نفقه أن الصلح خير، وإلا لو فقه المتخاصمون أن الصلح خير، وفقهنا نحن أن السعي على صلح المتخاصمين خير، وقمنا بدورنا في حلها وإصلاحها لما كثرت وتعقدت المشاكل داخل المجتمع .
فمن وفقه الله - سبحانه - لهذا الخلق الحسن، سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب، بخلاف من لم يجتهد فى إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ما له من حقوق ،ولا يرضى أن يؤدى ما عليه من واجبات ، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر ،وتغلق بذلك أبواب الخير والصلاح ، وتفتح أبواب الشر والشيطان .
وها هو شهر رمضان على وشك القدوم ، فهو شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار ، فهل نرغب أن يدخل هذا الشهر الكريم وفى قلوبنا شحناء وكراهية وخصام وبغضاء ، بالطبع : لا يرغب صاحب عقل في ذلك ، فكيف يرغب في الخطام وهو ينتظر رحمة الله وعفوه ومغفرته ، فالإعتذار ثقافة جميلة ، والصلح نوع من الرقي والتحضر ، وكلنا معرضون للخطأ ، ولا يوجد أحد منا خالى من العيوب ولا النقص ، ولا من سيطرة الأهواء النفسية .
فهنيئًا لمن جعله الله من خيار الناس الساعين فى الإصلاح بينهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم .
0 comments:
إرسال تعليق