عند كتابة القصيدة الشعرية ، يُعدّ العنوان عتبة النص كما هو متعارف عليه ، أي انه الخطوة الاولى في العمل والبناء ، ولنقل الأساس الاول . أول درجات السلّم هي العتبة رقم واحد ، وفي النص الشعري فان العنوان هو الخطوة الأولى ، والتي ينبغي فيها على النّاص ان يوافق بين المعنى ، وما يليه من سردٍ كي يخرج العمل الفني بحلّة جديدة متلونة بألوانها البراقة .
ان فقد العنوان يؤكد فقدان علو بناء عظيم بحاجة ماسة له ، كونه تكثيف مختزل لذلك البناء الذي يحتاجه ، لكن الملفت للنظر ان بعض القصائد المعنونة تأخذ شكلاً رمزياً احياناً بعنوانها حين يعتليها بيت كامل من الشعر (في الشعر العمودي) او جملة اسمية ، او فعلية تامة البناء والمعنى كرمز دلالي لما يأتي بعدُ من تدرّج في كلمات النص ، وهذا كثير الملاحظة في القصيدة النثرية ، او قصيدة السرد التعبيري كما في قصائده الشاعر العراقي كريم عبد الله ( أقسمتُ انْ اتوضّأ بثغرك ) و
(تعدّدَ التفاح في سلالك العذبة ) و ( طعنّي صمتك ان افتح مغاليق نوافذ احلامي ) و ( ألذُّ صباحاتي انوثتك اليانعة ) . والشاعر عدنان جمعة نجده في ديوانه ناي قلق يختار عناوينه بكلمات قليلة أو كلمة واحدة أحياناً : ( انهيار .. أوراق .. محاولة .. راشيل.. إغفاءة شفاه ... ) وغيرها ، وغيرهما آخرون .
وفي سؤال منّي شخصياً للأديب البروفيسور مديح الصادق استاذ اللغة العربية ، عن العنونة الطويلة أجابني :
( مسالة عنوان القصيدة لم يكن موجوداً في الشعر القديم ، وهو حالة مستحدثة ) .. اما بالنسبة لرأيه الشخصي فيجيب : ( ان عنوان القصيدة هو المدخل لها ، وهو بمثابة الموجز لمضمونها ، وربما تكون ظاهرة جديدة يُعلن عنها فيما بعد ... الاختزال جوهر اللغة العربية ، وهو اساس البلاغة ، حيث عُرفت العربية بانّها لغة الاختزال . الاختزال واحد من اركان الجمال ، ومن يطيل في العنوان فإنما يسهب بلا مبرر ، والاسهاب بغير ضرورة إضاعة للجمال ) .
الشاعرة والناقدة رشا اهلال السيد احمد في حواري معها عن ذلك قالت :
( العناوين المطولة تشتت القارئ برأيي وتبعثر المضمون .. لذا اجد البعض يعجز عن العنونة التي تشير للعمل بشكل كامل ، فيأتي العنوان شارحاً والذي يجب ان يكون مقتضباً جداً ودالاً على المحتوى برمزية القول ) .
وعن كثرة القصائد طويلة العنوان التي ظهرت في الآونة الاخيرة تقول :
( كثرت مثل هذه القصائد ، لان الشاعر يريد ان يقول في عنوانه أكثر من مختصر، يريد ان يجعل القارئ يخوض في أعماق النص مباشرة ليكوّن دهش شعري اكثر. وتضيف عن القصائد الخالية من عنوان : ( اولاً القصيدة بلا عنوان تترك للقارئ التفكير بعنوان ملائم حين يستنبطه بشكل تلقائي القارئ ، ومن جهة ثانية الغموض في القصيدة يفتح باب التأويل ).
اما الناقد مالك مسلماوي في كتابه البياض في شعر عصام عيّاد والذي قدّم له الاستاذ باقر جاسم محمد يقول في الصفحة ٣٢ :
( غير ان علاقة العنوان بالمتن غالباً ما تكون اتصالية ، ونادراً ما تكون إحالية غير مرئية ) . ويضيف : ( العنونة جزء من المثيرات البصرية غير آثارها الدلالية..)
من مجموع تلك الآراء الحداثوية نرى ان عنونة النص شيء مهم ومن ضرورياته ، وحين يتخلى عنها كثيرون فانهم يصنعون نصاً كجسدٍ مقطوع الرأس مع ما بها من جماليات انفعالية ، ورمزية متأنقة تسرّ المتلقي بقدر معانيها الجميلة ، في حين نجد عنونة النصوص السردية متقنة بحرفية شاعر مبدع يحيل الارض اليباب الى حدائق غنّاء لاسيما ما كان منها مختزَل العنوان ، مختزَل الجمل والكلمات المرصوفة في متن كتلوي متسق البناء ؛ متصاعد باختزاله وسيميائية رمزيته غير المبعثرة ، بل تتصف بنسغ منتظم متزن القدرة بمثيرات طالما تستهوي القارئ ، وكثيراً ما يبحث عن مثلها .
من خلال استعراض بعض النصوص الشعرية الفيسبوكية كونها الأكثر انتشاراً الان نجد ان الوجدان والعواطف ، والمشاعر الناطقة من أرواح أصحابها متدفقة بالحب؛ حب الوطن ، وحب الانسان ، والأرض والطبيعة ، وهي انفعالات صُبّت على الورق الرقمي بدلاً عن ورق الدفاتر . فمنهم من يكتب قصيدته آنيّاً مرتجلاً ، ويقوم بنشرها على صفحات الفيسبوك ، ولاحقاً يسجلها على أوراقه ودفاتره . ومنهم من يتركها كما هي ، ومنهم من يعاود التصويبات والتنقيحات ، ومنهم من يكتبها عمودية السرد ، وفي مكان اخر يضعها بكتلة واحدة كأنها مقطوعة انشاء ، أو قصة قصيرة.
هذا التنوع لم يصنع اختلافاً محدداً في معاني النصوص بقدر ما خلق قصيدة جديدة، أو تشكيلاً آخر بروح العصر والتجديد ، فيه اشراقات منيرة في البيان الشعري رغم أن البعض يدّعي بان الحركة الشعرية تمرّ بحالة ضعف ، أو تشتت يتلاشى معه الذوق ، ويتشظى به المعنى ، وهذا يجانب الحقيقة إلاّ في حالات ـ وإن كان فيها قصائد تائهة ـ لكنها ليست المقياس الحقيقي والمعيار العام للجودة ، والرصانة ؛ لان القصائد المتينة في البناء واللغة والعنوان ، أثبتت جدارتها من خلال أصحابها في كل بقاع الأرض .
وعلى سبيل المثال من بعض النصوص خالية العنوان نجد الجمالية المائزة في الكثير منها . فمثلاً الشاعر والناقد التونسي الطاهر مشي نجده لا يكتب شعره خالياً من عنونة موضوعية جميلة إلاّ مقطوعاته القصيرة التي تعد ومضات شعرية باذخة فعلاّ لجمالية ما تحوي من بيان وتراتبية مبهرة ووجدانيات بعواطف جياشة فيقول مثلاً :
( وضاع الهوى في تقاسيم ليلى .. وشريان قلب دماء تُراق
فلن تشرق الشمس فوق الهضاب .. ولن يولد الحب دون الوفاق
عسى وجدها يلتقيني بفجر .. وبالوصل يحي عليل الفراق ) .. انتهى النص
وكذلك الشاعر المصري وائل سعيد بما عرف عنه كتابة الشعر العامي ايضاً فهو يكتب بلا عنونة للنص في بعض مما يكتب . ومن قصيدة فيسبوكية له تميزت بكلمات ومعانٍ جميلة يقول فيها :
( سجنوني صبياً ولا أدري .. هل صرت طليقاً
أم دمت سجيناً ؟ .. سطا السّجان على فكري
وترك الجثمان أميناً .. وضع الأغلال على قلبي
علمني صمت الصامتين ..علمني الخوف من غدي
فضاعت آمالي .
بوجود نصوص شعرية متكاملة خالية من عنوان خاص بها مع هذا الكم الهائل اليومي من الانتاج الشعري لا يمكن الوقوف عند صور إبداعية متكاملة ولو بشكل جزئي ، ما يعني الان ان تلاشي عنونة النص الشعري تعني فقدانه لدلالات مكثفة تميزه ؛ يُحرم منها المتلقي أحياناً ؛ فتجميع هذه الاختزالات بكلمة ، أو عدة كلمات هو الصورة والاختزال الحقيقي للرسالة المطلوب ايصالها بشكل تدريجي يبدأ من العنوان .
فالعين هنا تندهش باثارة العنوان لها قبل الدخول بالتفاصيل اللاحقة ، في المساحة التي ستمتلئ بالمعاني والرموز السيميائية ، ومختلف التدرجات النصية . ان انعدام وجود عنونة مهيأة ، ومعدة بحرفية متقنة ستحول الدهشة البصرية الى جدار بلا ظلّ، وحديقة خالية من الازهار .
وما تحمله النصوص من اختزال لابد منه بعيداً عن مطولات العناوين صار من الأمور المسلم بها في عصر الحداثة وما بعدها حسبما نرى ، بعد ان كنا لا نعرفه في الشعر القديم كما جاء في البحوث ودلت عليه نصوص الأقدمين .
هذا الاستحداث كأنه أوجب على الشاعر وضع عناوينه الخاصة كي يميز بها نصوصه ، ومع هذا تخلى كثيرون عن ذلك وبقيت النصوص كجسد مقطوع الرأس ـ رغم انها ليست كذلك أحياناً ـ لان القارئ تعود مشاهدة نصوص مبنية بالكامل بعنونات تامة ، ومع كل ذلك تبقى جمالية النص هي التي تفرض نفسها .
في القصيدة الفيسبوكية خالية العنوان هناك قيمة ضاعت ربما عن النص ( المتن ) الناشئ برمزية غامقة ، أو بسيطة ، أو سرد مفتوح الاتجاهات والمعاني بتسلسل اعتباري موضوعي واضح غاية الوضوح بجزيل العبارات ، أو لنقل : الوضوح التفصيلي المباشر بجمالياته الواسعة الابعاد في النظم والوصف والاختزال حتى .
إن افرازات القيم الحضارية الجديدة القت بظلالها على الشعر ايضاً ، فالحركة المتسارعة بكل شيء ، جعلت من بعض الشعراء يدخل هذا المدخل بقصدية تستدعيها الضرورة حسب ظنه ، مضافاً الى قلة كلمات النص أو مساحته الصغيرة بالقياس للنصوص الطويلة ، والطويلة جداً التي تدفع المتلقي بكل تأكيد للابتعاد ، أو عدم الاهتمام بمتابعة ما يقرأه للنهاية ، وهذا يحسب على الشاعر قبل النص ، باعتباره هو الناصّ .
0 comments:
إرسال تعليق