• اخر الاخبار

    الأحد، 3 أغسطس 2025

    ذكريات من مدرسة الطين: بقلم/ المهندس ابراهيم علي المعماري - المدارس الطينية

     

     

     


    حيث صُقلت الأرواح قبل العقول ؛في عام 1958م وُلدت مدرسة أبو وجنة الابتدائية من رحم الطين ، بناءٌ يشي بضالته لكنه يختزل في طياته عظمة الكادر وشموخ التعليم ، حيث صقلت الأرواح قبل العقول ، عام 1970م كان لي شرف الانتماء إلى هذا الصرح ، لم تكن مجرد مدرسة نلتمس فيها العلم ، بل كانت أشبه بـمعسكر ضبط ؛ مصنعًا للرجال ، وتُصاغ الشخصيات على نار الانضباط الصارم…

    ​معالم الانضباط القاسي: فنون التربية الغائبة!

    ​من منا لا تزال صور تلك الحقبة حية في ذاكرته؟! تنكة التبن التي كانت تُجهّز بعناية لاستقبال رأس الكسلان ، وقوطية الصبغ مع فرشاتها الرفيعة في غرفة الإدارة ، لا لزينة ، بل لتضع وصمةً لا تُمحى على جبين المتكاسلين ، وتلك ماكنة الحلاقة اليدوية التي كانت ترسم "الشوارع" في الرؤوس تذكاراً دائماً لدرس قاسٍ ، أو الوقوف على قدم واحدة ورفع اليدين طيلة الدرس ، طقساً يومياً ، يختبر الصبر ويصقل العزيمة ،

    ​لا يمكن نسيان قابوط الأستاذ عبد الله ، الذي كان يلفّ به التلميذ المشاكس أو الكسول ، لا شفقةً أو حمايةً من برد الشتاء ، بل لفّةٌ محكمة تخرج التلميذ من بين يديه الغليظتين وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة ، درسًا عملياً في الانصياع ، ثم أصابع الأستاذ إسماعيل التي كانت تُطبَق على "الزلف" بقوة خارقة لتصل به إلى أعلى الرأس ، وخيزرانة الأستاذ يحيى التي كانت تثير الرهبة في قلوب المعلمين قبل التلاميذ ، لم يكن يُسمع في أرجاء المدرسة إلا صدى الدرس ، أما في وقت الفسحة فلا تسمع حتى همسًا ، نعم كان المعلم قاسياً ، ولكن قسوته كانت منارةً للعلم وسبيلًا للنفع…

    ​فلسفة التعليم بين الأمس واليوم: عوالم متباينة

    ​إن الفرق بين مدارسنا في الماضي والحاضر شاسع ، أشبه بمسافة بين كوكبين ، أتذكر أن عدد تلاميذ الصف في الماضي لا يتجاوز العشرون طالباً ، ولكل منهم نصيبه الوافر في المشاركة الفاعلة بالدرس ، كانت شخصية المعلم مزيجاً من الهيبة والوقار ، يشدّنا إليه بحضوره الأنيق ودرسه الآسر ، والتلميذ كان نموذجاً للنظافة والانضباط : هندامٌ مرتب ، شعرٌ مخفّف ، وأظافر مقلّمة. لم يكن للآباء دورٌ يذكر ، وكأننا خُلقنا على فطرة التعليم وجُبلنا على عشق حروفها…

    ​لقد تبدل الزمان وتغيرت معالمه ، فتبدل التلميذ والمعلم معًا ، كان همّ التلميذ في الماضي هو العلم بحد ذاته ، دون أن يعني أن النجاح كان حليف الجميع ، فمنهم الكسول الذي لا يدرك شيئاً ، ولكن الأهم أن "الغربلة" كانت بعيدة كل البعد عن المحسوبية أو "هذا فلان وهذا علان"؛ لكل تلميذ ما يستحقه من نصيب...

    ​أما المعلم آنذاك ، فكأنه كائنٌ أتى من كوكب آخر ، أو كأنه غصنٌ من شجرة أصيلة ، يجعلك تشعر بأنه خُلق لرسالة سامية ، يؤديها بصدقٍ وأمانة تُلامس الروح ، وفي هذا السياق ، يطول الكلام ويحلو الحديث ، فرغم مرارة الحياة وشظف العيش ، كانت النوايا سليمة والأخلاق متأصلة على الفطرة ، خاليةً من الهموم والبغضاء والحسد ، إنها حقبةٌ رسخت في الوجدان ، لم تكن مجرد سنوات دراسية بل كانت رحلة حياة صقلت فينا أعمق معاني الإنسانية...

    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: ذكريات من مدرسة الطين: بقلم/ المهندس ابراهيم علي المعماري - المدارس الطينية Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top