حيث صُقلت الأرواح قبل العقول ؛في
عام 1958م وُلدت مدرسة أبو وجنة الابتدائية من رحم الطين ، بناءٌ يشي بضالته لكنه
يختزل في طياته عظمة الكادر وشموخ التعليم ، حيث صقلت الأرواح قبل العقول ، عام 1970م
كان لي شرف الانتماء إلى هذا الصرح ، لم تكن مجرد مدرسة نلتمس فيها العلم ، بل
كانت أشبه بـمعسكر ضبط ؛ مصنعًا للرجال ، وتُصاغ الشخصيات على نار الانضباط الصارم…
معالم الانضباط القاسي: فنون
التربية الغائبة!
من منا لا تزال صور تلك الحقبة
حية في ذاكرته؟! تنكة التبن التي كانت تُجهّز بعناية لاستقبال رأس الكسلان ،
وقوطية الصبغ مع فرشاتها الرفيعة في غرفة الإدارة ، لا لزينة ، بل لتضع وصمةً لا
تُمحى على جبين المتكاسلين ، وتلك ماكنة الحلاقة اليدوية التي كانت ترسم "الشوارع"
في الرؤوس تذكاراً دائماً لدرس قاسٍ ، أو الوقوف على قدم واحدة ورفع اليدين طيلة
الدرس ، طقساً يومياً ، يختبر الصبر ويصقل العزيمة ،
لا يمكن نسيان قابوط الأستاذ عبد
الله ، الذي كان يلفّ به التلميذ المشاكس أو الكسول ، لا شفقةً أو حمايةً من برد
الشتاء ، بل لفّةٌ محكمة تخرج التلميذ من بين يديه الغليظتين وكأنه يلفظ أنفاسه
الأخيرة ، درسًا عملياً في الانصياع ، ثم أصابع الأستاذ إسماعيل التي كانت تُطبَق
على "الزلف" بقوة خارقة لتصل به إلى أعلى الرأس ، وخيزرانة الأستاذ يحيى
التي كانت تثير الرهبة في قلوب المعلمين قبل التلاميذ ، لم يكن يُسمع في أرجاء
المدرسة إلا صدى الدرس ، أما في وقت الفسحة فلا تسمع حتى همسًا ، نعم كان المعلم
قاسياً ، ولكن قسوته كانت منارةً للعلم وسبيلًا للنفع…
فلسفة التعليم بين الأمس واليوم:
عوالم متباينة
إن الفرق بين مدارسنا في الماضي
والحاضر شاسع ، أشبه بمسافة بين كوكبين ، أتذكر أن عدد تلاميذ الصف في الماضي لا
يتجاوز العشرون طالباً ، ولكل منهم نصيبه الوافر في المشاركة الفاعلة بالدرس ،
كانت شخصية المعلم مزيجاً من الهيبة والوقار ، يشدّنا إليه بحضوره الأنيق ودرسه
الآسر ، والتلميذ كان نموذجاً للنظافة والانضباط : هندامٌ مرتب ، شعرٌ مخفّف ،
وأظافر مقلّمة. لم يكن للآباء دورٌ يذكر ، وكأننا خُلقنا على فطرة التعليم وجُبلنا
على عشق حروفها…
لقد تبدل الزمان وتغيرت معالمه ،
فتبدل التلميذ والمعلم معًا ، كان همّ التلميذ في الماضي هو العلم بحد ذاته ، دون
أن يعني أن النجاح كان حليف الجميع ، فمنهم الكسول الذي لا يدرك شيئاً ، ولكن
الأهم أن "الغربلة" كانت بعيدة كل البعد عن المحسوبية أو "هذا فلان
وهذا علان"؛ لكل تلميذ ما يستحقه من نصيب...
أما المعلم آنذاك ، فكأنه كائنٌ
أتى من كوكب آخر ، أو كأنه غصنٌ من شجرة أصيلة ، يجعلك تشعر بأنه خُلق لرسالة
سامية ، يؤديها بصدقٍ وأمانة تُلامس الروح ، وفي هذا السياق ، يطول الكلام ويحلو
الحديث ، فرغم مرارة الحياة وشظف العيش ، كانت النوايا سليمة والأخلاق متأصلة على
الفطرة ، خاليةً من الهموم والبغضاء والحسد ، إنها حقبةٌ رسخت في الوجدان ، لم تكن
مجرد سنوات دراسية بل كانت رحلة حياة صقلت فينا أعمق معاني الإنسانية...

0 comments:
إرسال تعليق