• اخر الاخبار

    الأحد، 31 أغسطس 2025

    احزان للبيع..حافظ الشاعر يكتب عن : مقامات من الذاكرة ..زمان المذياع وذاكرة العائلة.

     

     


    ثمة حزن شفيف يراود الروح كلما استدعينا ملامح زمن مضى، زمن لم يكن يرحل إلا ليترك في القلب أثره، وفي الذاكرة عبقه. نتأمل حاضرنا المزدحم بالصخب والركض، فنجد أن الماضي – بطيئه وهدوئه – كان أكثر رحمة بنا، أكثر إنصافاً لإنسانيتنا. هناك، في أواخر السبعينيات وبدايات الثمانينيات، كان للمساء طقوسه، وللبيت نكهته، وللأسرة مكانها الدافئ في القلب.

     

    كانت الساعة الثامنة مساءً موعداً لا يُخطئه أهل الدار. في بيت من الطوب اللبن، تحيطه الجدران البسيطة الموشاة برطوبة الشتاء أو دفء الصيف، نجلس جميعاً في صحن المنزل، حيث السماء تظلّلنا بصفائها، والنجوم تتلألأ كأنها تتسامر معنا. المذياع يتوسط المجلس، يطلق موسيقى الثلاثية المقدسة: أم كلثوم، وعبدالوهاب، كأنها نداء سحري يجمع الأنفاس ويوحد الوجوه على إيقاع واحد.

     

    كانت الجلسة لوحة متكاملة: أب يضع مسبحته بين أنامله، أم توزع ابتسامتها على الأبناء، وأطفال يتقافزون ثم يهدأون حين يعلو صوت أم كلثوم  في "الثلاثية المقدسة"..لبيك اللهم لبيك ..رحاب الهدى يا منار الضياء ..سمعتك فى ساعة من صفاء.. تقول انا البيت ظل الإله.. وركن الخليل أبى الأنبياء؛ أصوات الجيران تتداخل من بعيد، ووقع خطوات عابر في الحارة ينساب مع النسمات. المصابيح الكابية تضيء بالكاد، لكنها تمنح المكان وهجاً خاصاً، كأنها تحفظ سرّ السعادة في بيوت لم تعرف بعد فوضى الأجهزة الحديثة.

     

    في تلك الأمسيات، لم يكن مجرد اجتماع عائلي، بل كان احتفالاً صغيراً بالطمأنينة. لم نكن نملك الكثير، لكن ما ملكناه من دفء الروح وتلاحم القلوب كان يغني عن كل شيء.

     

    واليوم، ونحن نعيش غربة في بيوت مليئة بالأجهزة والشاشات، نفتقد تلك الساعات التي جمعتنا على البساطة والمحبة. لذلك، لا بد من أن نعيد المعنى إلى البيوت، أن نلملم شتات العائلة كما كنا، وأن نستعيد من الماضي سرّ السكينة، فاجتماع القلوب هو الذي يصنع مجتمعات متماسكة، وحياة أكرم بالود والرحمة.

    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: احزان للبيع..حافظ الشاعر يكتب عن : مقامات من الذاكرة ..زمان المذياع وذاكرة العائلة. Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top