ربما لا تصح المبالغة فى جدوى الموتمر الدولى الأخير فى نيويورك عن "حل الدولتين" وإقامة الدولة الفلسطينية ، ولا يصح الإنكار كذلك ، فنحن بصدد صراع تاريخى طويل المدى ، قد تكون المئة عام الأخيرة هى المدى الأظهر فيه ، منذ "وعد بلفور"عام 1917 إلى إقامة كيان الاغتصاب الصهيونى عام 1948 ، ومن حروب العرب مع كيان الاحتلال إلى الانتفاضتين الفلسطينيتين الأحدث ، وإلى "طوفان الأقصى" وحرب الإبادة الأمريكية "الإسرائيلية" الجارية فى "غزة" ، وقد كان لافتا تلويح رئيس الوزراء البريطانى "كير ستارمر" بعزمه الاعتراف بدولة فلسطين خلال الانعقاد السنوى للجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر المقبل ، مع أن بريطانيا ـ التى كانت عظمى ـ هى صاحبة الدور الأكبر فى إقامة هذه "الإسرائيل" وفى صنع النكبة الفلسطينية ، تلتها فرنسا التى لعبت الدور الأكبر فى إقامة المشروع النووى "الإسرائيلى" ، وقد سبقت فرنسا شريكتها البريطانية فى إعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية ، بينما أمريكا التى ورثت الدورين البريطانى والفرنسى ، لا تزال تعاند مع ربيبتها "إسرائيل" فى رفض إقامة أى كيان فلسطينى مستقل على حدود الرابع من يونيو 1967 ، وعلى مساحة لا تتجاوز 22% من أرض فلسطين التاريخية زمن الانتداب البريطانى .
وصحيح ، أن مبدأ إقامة هذه الدولة الفلسطينية
يحظى باعتراف عالمى ساحق ، سجلته قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وقد قاربت
نحو الألف قرار ، أيدتها 147 دولة من إجمالى 193 كيانا معترفا به على سطح المعمورة
، قد تضاف إليها 20 دولة أخرى قبل ومع اجتماع سبتمبر المقبل ، الجديد فيها انضمام
دول من المعسكر الغربى لنصرة الحق الفلسطينى فى حده الأدنى المطروح اليوم ، وقد
سبقت وتلحق أيرلندا وأسبانيا والنرويج وسلوفينيا والبرتغال وكندا وبلجيكا
ولوكسمبورج وسان مارينو ومالطا وأيسلندا واستراليا وغيرها ، إضافة إلى تشقق
التأييد الغربى التلقائى الأعمى لكيان الاحتلال ، وتصاعد تمرد أعضاء بارزين فى "الاتحاد
الأوروبى" ، وعلى نحو ما جرى فى "هولندا" ، وتأكيد عشر دول بين 27
دولة عضو فى الاتحاد الأوروبى ، أنها تؤيد وقف اتفاق الشراكة التجارية التفضيلية
مع "إسرائيل" ، بينما لا تزال "ألمانيا" الأقوى اقتصاديا
تعارض التوجه الأوروبى الجديد ، ولأسباب كثيرة ، ربما أهمها خلط الأوراق ، والوقوع
فى أسر "عقدة الذنب" التاريخى العائد لزمن هولوكست "هتلر" لليهود
، وبما جعل ألمانيا ـ بعد هتلر ـ بقرة حلوبا للحركة الصهيونية ، دفعت وتدفع لكيان
الاحتلال مئات المليارات من الدولارات ، وتحتل المرتبة الثانية فى منح وتصدير
السلاح للكيان بعد أمريكا ذاتها ، وإن كان الرأى العام الألمانى يضيق بسياسة
حكوماته الذيلية تجاه "إسرائيل" ، وعلى نحو ما نشهده فى شوارع مدن
ألمانيا الكبرى والصغرى من مظاهرات شعبية غاضبة ، وصرخات ضمائر حية ضد حرب الإبادة
والتهجير الجارية للفلسطينيين فى "غزة" والضفة والقدس ، ومظاهرات
الألمان امتداد طبيعى لطوفان غضب الرأى العام فى عواصم الغرب الكبرى ، وعبوره "المحيط
الأطلنطى" إلى كندا وأمريكا نفسها ، وفى بلاد ديمقراطية التكوين السياسى ،
تأتى حكوماتها بالانتخابات الدورية ، ويضطر بعضها إلى مسايرة الرأى العام ، حتى
وإن جرى العدوان عليه وقهره أحيانا ، كما جرى ويجرى فى أمريكا تحت إدارة "دونالد
ترامب" ، لكن الاتجاه العام لنصرة الحق الفلسطينى يبدو صاعدا بانتظام منذ "طوفان
الأقصى" ، الذى تلته حرب الإبادة والعذاب الأسطورى للشعب الفلسطينى ، وصمود
مقاومته المذهلة على مدى ما يقارب سنتين إلى اليوم ، صعد فيها الغضب الشعبى الغربى
إلى أعلى ذراه ، وبالذات فى أوساط الأجيال الجديدة ، التى بدت "فلسطينية"
الهوى مقابل "إسرائيلية" الآباء والأجداد ، ورفعت أعلام و"كوفيات"
وهتافات "فلسطين حرة" فى كل مكان ، وبلغ تأثيرها فى المشهد الشعبى
الغربى حدودا بعيدة ، ففى آخر استطلاع رأى أمريكى ، أبدى 60% من الأمريكيين
تأييدهم للحق الفلسطينى ووقف حرب الإبادة ، بينما تراجعت شعبية "ترامب" نفسه
إلى 40 بالمئة ، وبدا التحول الدرامى الهائل فى الغرب من آيات وتجليات وبركات
المقاومة الفلسطينية بكل المعانى ، فقد ولدت ونمت الظاهرة الجديدة بالتوازى مع
ماجرى فى فلسطين وفى "غزة" بالذات ، وبدا ذلك كله انقلابا تاريخيا فى
الرأى العام الغربى ، فالحركة الصهيونية غربية المنشأ فى الأساس ، ووثيقة الصلة
العضوية بحركة الاستعمار والإمبريالية الغربية ، وانتقلت رعاية الكيان الصهيونى من
بريطانيا إلى أمريكا بعد "حرب السويس" 1956 ، التى قطعت ذيل "الأسد
البريطانى" وأنهت هيمنته الكونية ، وكان الأمر الطبيعى فى السياق الغربى
حكومات وشعوبا ، أن تكون الرواية الصهيونية هى الغالبة بل السائدة لعقود ، وأن
يجرى التغنى بمعجزة "إسرائيل" قاعدة الغرب المتقدمة فى المنطقة العربية
، وفى أوقات سبقت ، كما فى الخمسينيات والستينيات وبعض السبعينيات من القرن
العشرين ، كان تأييد الحق الفلسطينى يكاد يكون محصورا فى جماعات مثقفين تقدميين
وأحزاب يسارية راديكالية قريبة ومناصرة لحركات التحرر العربى ، وبعد انهيارات
موسكو الشيوعية أوائل التسعينيات ، تداعى تأثير وحضور جماعات اليسار الراديكالى ،
وبالتوازى مع انحسار المشاركة العربية فى نصرة الحق الفلسطينى ، انتقلت المقاومة
الفلسطينية إلى أرضها بعد خفوت الصوت العربى العام ، وتوالت الانتفاضات الفلسطينية
الأولى والثانية وصولا إلى "طوفان الأقصى" صباح السابع من أكتوبر 2023 ،
وقبلها مع الخذلان العربى للفلسطينيين بعد حرب أكتوبر 1973 وتوابعها المعاكسة فى
المغزى ، كانت تنشأ وتتطور ظاهرة جديدة ، كان الفلسطينيون وحدهم ـ باستثناء "حزب
الله" اللبنانى ـ فى ميادين الانتفاض والمقاومة ، وكان الفلسطينيون فى الشتات
الغربى وحدهم تقريبا فى نصرة شعبهم ، وكانت جماعات نشطة من الفلسطينيين تتزايد
أدوارها فى نشر الرواية الفلسطينية المضادة للسردية "الإسرائيلية" ،
والمتحدية لسطوة "اللوبيهات" الصهيونية المسيطرة فى عواصم الغرب الكبرى
، ونجح الجهد الفلسطينى وبعض العربى الشعبى المهاجر ، وجذب شرائح هامشية من الرأى
العام الغربى ، وكانت تلك خميرة أولية مناسبة ، وجدت فى لحظة "طوفان الأقصى"
وما تبعها مددا فياضا ، مع التطور الطفرى فى وسائط التواصل الاجتماعى ، وكثافة
الحوادث الدموية المنقولة لحظيا بالصوت والصورة ، وكل ذلك قاد إلى تحول مثير غير
مسبوق ، انتقلت معه صرخة "فلسطين حرة" من الهامش الغربى إلى المتن
الفعال ، وصارت "الرواية الفلسطينية" منافسة مزاحمة للرواية الصهيونية
فى الوجدان الغربى ، وجرى التحول الذى ضغط على سياسة حكومات غربية متزايدة العدد ،
وظهر الميل الغربى المتزايد للاعتراف بالحق الفلسطينى كثمرة مباشرة لكفاح المقاومة
وغرس الدم الفلسطينى .
ومع التسليم بأن طريق التحرير لايزال طويلا
وشاقا ، فإن مؤتمرات الاعتراف بدولة فلسطين لا تخلو من أثر إيجابى ، صحيح أن دولة
فلسطين لن تقوم فى الخمسة عشر شهرا المقبلة كما يطمح البيان الختامى لمؤتمر
نيويورك الأخير ، والسبب ببساطة ، أن تعهدات التنفيذ من قبل ما يسمى المجتمع
الدولى ، لا تملك الاستعداد ولا القوة الجبرية اللازمة لتحرير الأراضى وإنهاء
الاحتلال ، وعلينا أن نضع الأمر فى مكانه الذى لا يبارحه ، فكسب الرأى العام
الدولى مفيد جدا لنصرة الحق الفلسطينى ، وعلى نحو سياسى رمزى الطابع غالبا ، لكن
التحرير الفعلى يظل رهنا بتطور المقاومة الفلسطينية ، وبكل صورها الشعبية السلمية
والمسلحة ، وهو ما يجعل بعض نصوص البيان الختامى لمؤتمر نيويورك خارج النص وفاقدة
الصلاحية ، فلا يمكن ـ مثلا ـ لجماعات المقاومة تسليم سلاحها قبل القيام الفعلى
للدولة ، ولا تستساغ إدانة البيان إياه لهجوم السابع من أكتوبر الفلسطينى ، فالحق
فى المقاومة مقدس ومسنود ومكفول بشرائع السماء والقوانين الدولية ، وما دام ثمة
احتلال فلا بد من المقاومة ، والمقاومة هى التى تصنع التعاطف الدولى وليس العكس ،
وفى التاريخ الفلسطينى الحديث والمعاصر ، نجحت مرحلة مقاومة "فتح" وأخواتها
فى كسب تأييد دولى من الصين وروسيا وشعوب ودول الجنوب العالمى ، ثم أضافت موجة
مقاومة "حماس" وأخواتها بالذات بعد "طوفان الأقصى" وتوابعه ،
وكسبت مددا جديدا مناصرا للحق الفلسطينى ، وفى خلخلة حائط التأييد الغربى الأعمى
لكيان الاحتلال وحروبه الهمجية ، ولا تزال هناك أشواط مضافة ، لا تفيد فيها
مناشدات عربية بائسة لحكومة الاحتلال فى تل أبيب ولا لحكومة "إسرائيل" العليا
فى واشنطن ، فلسنا بصدد سوق خيرى وتسول للحقوق ، وقد فرضوا ويفرضون الاحتلال
بالقوة على الشعب الفلسطينى والشعوب العربية المجاورة ، والحقوق لا تعود
بالاستجداء بل بتغيير موازين القوى فى الميدان ، وحتى فى التفاوض ، فلا يكسب أحد
فوق الموائد بأبعد مما تصل إليه مدافعه ، ولم تملك أى حركة مقاومة وتحرير فى
التاريخ ما يملكه عدوها من سلاح ، ووظيفة المقاومة هى إنهاك العدو تدريجيا ودفعه
للتراجع فى النهاية .
وبالجملة ، لا تقوم دولة فلسطين بمجرد
الاعتراف الدولى بالحق فى إقامتها ، بل تقوم الدولة حين تتحرر أرضها ، وما من سبيل
لتحرير بغير المقاومة أولا وأخيرا.
Kandel2002@hotmail.com

0 comments:
إرسال تعليق