يبدو أن الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" اكتفى فى حرب أوكرانيا بلعب دور هامشى كوميدى الطابع ، فقد صعد موخرا إلى سطح مبنى البيت الأبيض ، وكان الصحفيون يخاطبونه ويرقبونه من أسفل ، وسألوه عما إذا كان ينوى تجديد وبناء قاعة للرقص هناك ، ومازحهم قائلا فى نبرة عالية الصوت ، أنه ينوى بناء صواريخ نووية ! ، وتدفقت الأسئلة المذعورة ، مع استفسارات قلقة عن ما يقصده الرئيس ، وبالذات بعد قرار "ترامب" المعروف بنشر غواصتين نوويتين أمريكيتين بالقرب من سواحل روسيا ، ولم يفاجأ عاقل ولا مجنون بجواب "ترامب" لاحقا ، حين أعلن أنه ينوى سحب الولايات المتحدة بالكامل من حرب أوكرانيا ، وقال فى لهجة مسرحية "هذه ليست حربى" ، وأضاف "إنها حرب جو بايدن" ، جريا على عادته فى تحميل الأوزار كلها للرئيس الأمريكى السابق ، وإن كان لا ضير عنده من توزيع الشتائم والبلاوى على آخرين أحيانا ، وعلى الرئيس الأمريكى الأسبق "باراك أوباما" بالذات .
وعلى سبيل إكمال دوره الكوميدى البائس ، قرر "ترامب"
أن يرسل صديقه ومبعوثه المقاول الصهيونى اليهودى "ستيف ويتكوف" إلى
موسكو سعيا للقاء الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" ، الذى سبق لترامب أن
أنذره وهدده إن لم يوقف حرب أوكرانيا ، ومنحه مهلة لخمسين يوما ، قرر اختصارها
فيما بعد إلى عشرة أيام ، ومن دون أن يرمش جفن "بوتين" ، فكان قرار "ترامب"
أن يرسل "ويتكوف" لاستمالة عطف "بوتين" ، الذى لم يغير حرفا
فى شروطه لتسوية النزاع الأوكرانى ، وهكذا بدا مشهد إرسال "ويتكوف" فى
نهاية مهلة أيام "ترامب" ، وكأن الأخير كان يعطى مهلة وإنذارا لنفسه لا
للرئيس الروسى ، ولكى يوحى بأن هناك تقدما ما فى سعيه للحصول على جائزة وقف حرب
أوكرانيا ، وكان "ترامب" إدعى أن بوسعه وقف حرب أوكرانيا فى 24 ساعة ،
ثم تداعت الأيام والشهور إلى اليوم ، ومن دون أن يحدث شئ ، اللهم إلا اشتداد وطأة
الحرب ، واتساع خرائط التقدم والتمدد العسكرى الروسى فى الأراضى الأوكرانية ، وكان
"ترامب" عبر مرارا عن ضيقه من مراوغات "بوتين" ، رغم أنه ـ أى
"ترامب" ـ أنفق ساعات طويلة فى ست مكالمات هاتفية طويلة مع سيد الكرملين
، وفى ذروة ضيق "ترامب" المعلن من استخفاف "بوتين" به ، هدد
روسيا بفرض عقوبات أمريكية إضافية ، وفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة مئة بالمئة على
صادرات روسيا وشركائها التجاريين فى الهند والصين بالذات ، وجاءت النسبة أقل بكثير
من نصوص مشروع قانون فى الكونجرس ، أعده السيناتور "لينزى جراهام" الصهيونى
اليهودى ، ورفع فيه نسبة الرسوم المفترضة عقابا لروسيا والشركاء إلى 500% ، ورغم
تواضع عقوبات "ترامب" قياسا لما أراده "جراهام" ، فقد عاد "ترامب"
إلى التشكك فى جدوى أى عقوبات على روسيا ، وقال فى تصريحات لاحقة ما نصه أن الروس "ماكرون
وبارعون جدا فى تجنب (أثر) العقوبات" ، وهكذا بدا "ترامب" كأنه
يريد التراجع عن قصة التهديد بالعقوبات على روسيا ، ويسعى لإخراج التراجع بقرار
إرسال "ويتكوف" للقاء "بوتين" لمدة ثلاث ساعات ، خرج بعدها "يورى
أوشاكوف" مستشار الرئيس الروسى ، ووصف المحادثات بالبناءة الحافلة بإشارات
متبادلة بين موسكو وواشنطن ، وهو ما اعتادت موسكو على قوله كل يوم تقريبا ، ولكن
بمفهومها لخاص ، الذى يريد تصريف مباحثات "اسطنبول" وغيرها فى جوانب
إنسانية ، من نوع تبادل الأسرى وتسليم جثث آلاف القتلى الأوكران ، أو حتى وقف
إطلاق نار نوعى عابر ، أما وقف الحرب فمشروط بقبول الشروط الروسية الكاملة ،
وإعلان "كييف" عن الاستسلام الكامل ، وهو ما عبر عنه الناطق باسم
الكرملين "ديمترى بيسكوف" ، حين قال للصحفيين "أن العملية طويلة ،
وتتطلب جهدا ، (...) وعلى الأرجح يتزايد فهم هذا الأمر فى واشنطن" ، فيما لا
تعبر موسكو عن شبهة جزع من فرض عقوبات جديدة عليها ، فاقتصاد روسيا ينمو بمعدلات
كبيرة ، رغم أو بفضل فرض 24 ألف عقوبة اقتصادية على موسكو ، ومعدل نمو الاقتصاد
الروسى بلغ 4.3% فى العام الأخير ، والعملة الروسية "الروبل" تبدى ثباتا
مدهشا ، فقد كان الدولار الأمريكى يساوى 75 روبل قبل حرب أوكرانيا ، وبعد نحو ثلاث
سنوات ونصف السنة من الحرب الضروس ، لا يزال سعر الدولار عند مستوى 78 روبل روسى ،
وهكذا تبددت أوهام الغرب كله عن إمكانية خنق روسيا بسلاسل العقوبات الغليظة ، وفرض
أسعار تحكمية مخفضة للبترول الروسى إلى 43 دولار للبرميل ، على نحو ما فعله
الاتحاد الأوروبى فى حزمة عقوباته الأخيرة المضافة ، وهو ما تهزأ به روسيا صاحبة
الاحتياطات المهولة من البترول والغاز الطبيعى ، وصاحبة "أسطول الظل" ،
والمكانة المميزة فى "أوبك بلس" ومنظمة "بريكس" وتحالف "شنجهاى"
وغيرها ، ولا يضيرها أن تبيع بترولها لأصدقائها بأسعار تفضيلية مخفضة .
وفى الميدان العسكرى الملتهب ، تواصل روسيا
امتيازها وتفوقها الميدانى ، وحرب أوكرانيا كما هو معروف ، كانت من بدايتها حربا
ذات طابع عالمى جارية فى الميدان الأوكرانى ، وواجهت فيها روسيا وتواجه تحالفا من 54
دولة معادية على رأسها أمريكا ، وأدار الرئيس الروسى حربه على نحو مدروس متدرج دون
إعلان التعبئة العامة ، ولجأ إلى بناء وتطوير مجمع عسكرى صناعى هائل ، تزيد
إنتاجيته اليوم بأربعة أمثال قياسا إلى ما ينتجه الغرب الأمريكى الأوروبى كله ،
وثبت بحقائق الميدان المرئية ، أن ما أسماه "بوتين" بالعملية العسكرية
الخاصة ، تحرز تقدما يوميا مطردا على الأرض ، يتجاوز المقاطعات الأوكرانية الأربع
التى أعلنت روسيا ضمها رسميا فى أواخر سبتمبر 2022 (لوجانسك ودونيتسك وزاباروجيا
وخيرسون) ، ففى كل يوم ، تسيطر روسيا على بلدة أو بلدتين مما تبقى من المقاطعات
الأربع تحت اليد الأوكرانية ، وتضيف إليها تقدما محسوسا فى ثلاث مقاطعات أخرى هى "سومى"
و"خاركيف" و"دنيبرو بتروفسك" ، وتخطط لعبور نهر "دنيبرو"
، الذى تريد موسكو جعله حاجزا طبيعيا يفصل أراضيها الجديدة عن ما تبقى من أوكرانيا
، إضافة للسيطرة مع "القرم" على حزام من المناطق الآمنة شمال وغرب ما
تسميه روسيا الجديدة ، مع توجيه ضرباتها الصاروخية شبه اليومية إلى مخازن وخطوط
الإمداد والتدريب بالسلاح الغربى ، وتسعى لاستنزاف متصل لأسلحة الغرب ومئات
مليارات دولاراته جميعا فى الميدان ، وتمتص الضربات المتفرقة لأراضيها بأسراب
الطائرات المسيرة المنطلقة من أراضى أوكرانيا ، وقد لا يمكن لأحد عاقل ، أن يتصور
حدودا بعينها للتوسع الروسى الدءوب فى غير تعجل ، فأهداف روسيا أبعد من إخضاع
أوكرانيا ونزع سلاحها ، أو منعها من الانضمام لحلف "الناتو" والاتحاد
الأوروبى ، والجيش الأوكرانى غادر مربع الإنهاك إلى هاوية الهلاك الفعلى ، وإلى حد
أن الرئيس الأوكرانى اليائس "فلوديمير زيلينسكى" ، قرر مؤخرا جواز تجنيد
الرجال فوق سن الستين (!) ، وبما آثار سخرية الرئيس الأمريكى نفسه ، رغم أن الأخير
قرر استئناف توريد المعدات العسكرية للميدان الأوكرانى ، وبشرط أن يدفع الحلفاء
الأوروبيون الثمن مقدما ، فهو يدرك قبل غيره ، أن هزيمة الغرب فى أوكرانيا صارت
أمرا مقضيا ، ولا يلتفت كثيرا إلى أقوال ساذجة تصدر أحيانا عن مسئولين أوروبيين ،
بينها ـ مثلا ـ تصريح عبثى صدر عن وزير الخارجية الألمانى الجديد "يوهان فاديفول"
، الذى قال قبل أسابيع ، أن "أوكرانيا لا تخسر" (!) ، وأشاد بالتحول فى
موقف "ترامب" إلى مواجهة "بوتين" ، فيما لا تصدر عن الرئيس الروسى غير أقواله
المحسوبة بعناية ، وقبلها أفعاله بقرار فك القيود عن نشر شبكات الصواريخ القصيرة
والمتوسطة المدى باتجاه أوروبا وآسيا وعبر المحيط الهادى ، ثم فاجأ "بوتين "
الغرب بإعلانه عن دخول صواريخ "أوريشنيك" إلى الخدمة على أراضى "بيلاروسيا"
المجاورة الشقيقة المتحالفة مع موسكو ، كان الإعلان صادما لأوروبا المتخوفة من جيش
روسيا ، الذى يستعيد سمعة "الجيش الأحمر" فى الحرب العالمية الثانية ،
وصواريخ "أوريشنيك" متعددة الرءوس كمعناها فى اللغة الروسية "شجرة
البندق" ، وتستطيع حمل رءوس تقليدية ونووية معا ، ويصل مداها إلى 5500
كيلومتر ، وليس بوسع أى نظام دفاع جوى فى العالم اعتراضها ، وتزيد سرعتها عن عشرة
أضعاف سرعة الصوت ، وتقطع 1200 كيلومترا فى الدقيقة الواحدة ، وجرت تجربتها
النهائية قبل شهور على أراضى أوكرانيا نفسها ، وأتى إعلان "أوريشنيك" المفزع
للغرب عقب إعلان "ترامب" عن نشر غواصتين نوويتين بالقرب من روسيا ، وعقب
المجادلة العنيفة لفظيا بين "ترامب" و"ديمترى ميدفيديف" نائب
رئيس مجلس الأمن القومى الروسى ، والتى هدد فيها "ميدفديف" بنظام "اليد
الميتة" الموروث عن الاتحاد السوفيتى السابق ، وهو نظام آلى للرد تلقائيا على
أى هجوم نووى يستهدف روسيا .
وباختصار ، دفعت روسيا الوضع كله إلى حافة
الحرب النووية ، وتركت "ترامب" لمقاطعه الكوميدية المصورة تليفزيونيا .
Kandel2002@hotmail.com

0 comments:
إرسال تعليق