لم يكد
يمر يوم على فيديو الطفلة التي منحت ثمن كيس "شيبسي" لمتسول في الشارع،
حتى خرج المجلس القومي للأمومة والطفولة ببيان ضخم - ومقابلة للطفلة واهلها- يتحدث
عن عظمة الموقف وضرورة الاقتداء به. وكأن المجلس كان ينتظر لحظة "ركوب
التريند" ليظهر بمظهر الحامي للقيم، بينما دوره الحقيقي – حماية الأطفال من
العنف والإهمال وتبني سياسات تنموية – غائب عن الأنظار.
لا شك
أن براءة الطفلة تُعطي درساً جميلاً في نقاء الفطرة، لكن الخطورة تكمن في تضخيم
الحدث وتحويله إلى "قصة بطولة" من مؤسسات ووسائل إعلام تبحث عن العناوين
السهلة. فالمجتمع يعرف جيداً أن التسول اليوم لم يعد دائماً فعلاً فردياً نابعا من
الحاجة، بل كثير منه يُدار عبر شبكات منظمة تدر دخلاً يفوق دخل أي موظف شريف. فهل
من الحكمة أن نُشجع الأطفال على إعطاء المال لكل من يمد يده دون وعي؟
وسائل
التواصل الاجتماعي لعبت الدور الأخطر، فهي تصنع من مشهد عابر "مهرجاناً"
من التعليقات والتفاعلات، وكأننا أمام حدث وطني جلل. في حين تُدفن تحت ركام "اللايك
والشير" القضايا الكبرى: أطفال بلا مأوى، أسر مسحوقة تحت خط الفقر، غياب
سياسات فعالة لمكافحة الاستغلال الاقتصادي للأطفال، وضرورة ضبط ظاهرة التسول من
جذورها.
يا سادة
.. الحقيقة أن المجلس القومي للأمومة والطفولة، بدلاً من أن يرفع لافتة الإشادة في
واقعة فردية، كان الأجدر به أن يقدم حملات توعية للأسر والأطفال عن كيفية التمييز
بين المحتاج الحقيقي وبين المتسول المحترف، وأن يُشجع المجتمع على التبرع عبر
قنوات رسمية تضمن وصول العطاء لمستحقيه. لكن من الأسهل دائماً الظهور في "التريند"
بدلاً من النزول إلى الميدان.
فى
النهاية بقى أن أقول ؛ إن ما فعلته الطفلة يظل عملاً نابعاً من الفطرة الطيبة لا
غبار عليه، لكن تحويل البراءة إلى أداة "شو إعلامي" يُفرغ المعنى من
قيمته. المطلوب أن نحمي أطفالنا من الاستغلال، وأن نُربيهم على العطاء بوعي، لا أن
نُسلمهم إلى إعلام يعيش على المبالغة ومؤسسات تبحث عن الضوء ولو على حساب الطفولة
ذاتها.

0 comments:
إرسال تعليق