ليس بوسع أحد فى مصر أن ينسى أو أن يتناسى خطر سد الخراب الاثيوبى ، فليس فى القضية من فارق بين موالين ومعارضين ، والمسألة وطنية جامعة ، والنيل ومياه النيل قدس أقداس التكوين المصرى ، ولا يملك حاكم ولا سلطة ولا نظام ترف ولا نزق التفريط فى قطرة واحدة من حصة مياه مصر التاريخية ، وإن قادت سياسات بعينها ، وعلى مدى عقود سبقت ، إلى مأزق التحدى الأثيوبى لحقوق مصر ، وتفاقم أزمة تهدد الوجود المصرى فى عمق أساساته .
وعلى مدى شهور مضت ، بدا أن قضية السد الذى
تسميه أثيوبيا "سد النهضة" ، قد صارت نسيا منسيا ، وغاب ذكرها فى وسائل
الإعلام الرسمية ، وفى تصريحات المسئولين المعنيين ، من وزير الرى إلى وزير
الخارجية إلى رئيس الجمهورية نفسه ، وتواقتت فترة الصمت مع موسم فيضان النيل ،
الذى جاء هذه السنة فوق أفضل التوقعات ، وزاد بنسبة 30% عن مستوى الفيضان المعتاد
، بعد سنة سابقة (2020) ، وصل فيها فيضان النيل إلى أعلى ذراه عبر مئة سنة ، وبعد
سنة سبقتها عام 2019 ، كان الفيضان فيها هو الأعلى على مدى خمسين سنة ، وهو ما عنى
ببساطة ، أن إيراد النيل الوارد لمصبه المصرى ، لم يتأثر إلى الآن ، بل زاد وفاض
للمفارقة ، ربما بسبب تغيرات مناخ تهطل أحيانا بالخير ، وبسبب تعثر وبدائية خطط
تعلية السد الأثيوبى ، وفشلها البائس فى حجز 18 مليار متر مكعب مياه خلف السد كما
كان قد أعلن ، وأخطرت "أديس أبابا" به مصر والسودان على نحو متعجرف
أوائل يوليو 2021 ، ثم كان الإخفاق الأثيوبى ، الذى كانت تعلم به السلطات المصرية
المعنية يقينا ، ونزل لحجز ما لا يزيد على 8 مليارات متر مكعب لاغير ، فى نوبتى
ملء أثيوبى منفرد بغير اتفاق ، لا تبدو مؤثرة بحال ، ولا معيقة لانفساح مسارح ضربة
مصرية محتومة ، اتسع لها وعاء الزمن لعام إضافى ، أو بالدقة لتسعة شهور مقبلة ،
قبل أن تبدأ أثيوبيا جولة الملء المنفرد الثالث ، بعد تعلية الجزء الأوسط من جسم
السد إلى 595 مترا فوق سطح البحر ، أى التعلية إلى 95 مترا فوق سطح الهضبة المقام
عليها السد ، ووقتها يصبح الخطر أكبر ، وقد يتعذر تحطيم السد الأصلى ، أو السد
المساعد الركامى "السيرج" ، وبمخاوف مفهومة من مخاطر إطلاق القنبلة
المائية المخزنة على السودان الشقيق بالذات ، وإن كانت المخاطر على مصر متواضعة فى
كل الأحوال ، فلدى مصر طاقات تخزين هائلة ، تصل إلى خمسة أمثال نصيبها السنوى من
مياه النيل المقدر بنحو 55.5 مليار متر مكعب ، ببركة المقدرة المتفوقة لبحيرة ناصر
والسد العالى ، الذى يصل ارتفاعه إلى مائة وثمانين مترا .
ولا أحد عاقل ، يتوقع أن تؤدى أى مفاوضات لاحقة
إلى اتفاق ملزم شامل وعادل ، على النحو الذى اعتادت طلبه أصوات الدبلوماسيتين
المصرية والسودانية ، وعادت إليه الدبلوماسية المصرية بعد فترة توقف عن الإثارة
العلنية للموضوع ، وعادت إليه التصريحات الرسمية للرئيس عبد الفتاح السيسى ، وفى
كل مناسبة ولقاء ، خصوصا بعد صدور البيان الرئاسى لمجلس الأمن حول قضية السد
الأثيوبى ، وصحيح أن صيغة "البيان الرئاسى" أقل قيمة فى مغزاها القانونى
من صيغة القرار الذى لم يصدر صريحا ، وإن كان الفوز الدبلوماسى المصرى السودانى
هنا جاء بالنقاط ، وأقرب إلى المعنى الرمزى منه إلى الإلزام الفعلى ، فقد حملت
الدبلوماسية المصرية مجلس الأمن الدولى على مناقشة القضية لعامين متتاليين ، وعلى
العكس بالضبط مما رغبت به الحكومة الأثيوبية ، ثم حمل "البيان الرئاسى" الدولى
ملامح وألفاظ الموقف المصرى السودانى ، ومن زوايا ثلاث ، بالنص على صيغة "اتفاق
قانونى ملزم" ، وبالنص على دور "تسهيلى" للمراقبين الدوليين فى
مفاوضات يقودها الاتحاد الأفريقى ، ثم بالنص على "مدى زمنى معقول" للتفاوض
، بعد تكرار التأكيدات المصرية السودانية المتتابعة ، على تعنت الموقف الأثيوبى
طوال عقد كامل من المفاوضات العبثية ، والمعنى المقصود هنا ، أن "البيان
الرئاسى" لمجلس الأمن بغير تهويل ولا تهوين ، لا يعدو كونه تقدما رمزيا ، وإن
كان يؤدى الوظيفة المطلوبة من وجهة نظر السياسة المصرية الرسمية ، فلم تذهب مصر
إلى مجلس الأمن طلبا لنجدة دولية ، وقصارى ما كانت تريده وتحقق ، هو الإشهار
الدولى لموقفها ، وإسقاط أية تعلات أو أعذار أو نوايا لوم ، إن لجأت إلى التصرف
بنفسها دفاعا عن وجودها ، واستنادا إلى قوة الجيش ومؤسسات النخاع العظمى للدولة ،
التى آل إليها موضوع السد الأثيوبى برمته ، ربما من دون انتظار لساعة صفر يجرى
إعلانها ، فقد بدأت الحرب من وقت ، وبغير صخب ، والرئيس المصرى أشار مجددا إلى
احتمالات وعواقب دمار منطقة القرن الأفريقى بكاملها ، وعمليات تحطيم الدولة
الأثيوبية فى قلبها جارية من فترة ، وبحروب أعراق داخلية لا تتوقف ، تدفع أثيوبيا
إلى حافة إفلاس سياسى ومالى مشهر ، وإلى إغلاق عشرات من سفاراتها حول العالم ،
بينها سفارتها فى القاهرة ذاتها ، ومن غير أن تبدى مصر الرسمية اهتماما معلنا
كثيرا ولا قليلا ، وإن كان المفهوم ضمنا ، أن تقويض الخطر الأثيوبى من منابعه هو
عين المطلوب ، وليس الاقتصار على تقويض خطر السد الأثيوبى فى ذاته .
والقضية أكبر من أثيوبيا بالطبع ، ومن هم وراء
أثيوبيا معروفون اسما ورسما ، لا تتحدث عنهم القاهرة الرسمية فى العادة ، وإن
توالت إشارات وتسريبات ، على طريقة تصريحات أحمد أبو الغيط الأمين العام للجامعة
العربية ، وهو دبلوماسى مصرى ووزير خارجية سابق ، قريب بالطبع من حس الدوائر
المعنية ، وقد جمع بين أثيوبيا و"إسرائيل" فى جملة أزمة السد ، وتوعد
الطرفين ب "دفع الثمن" فى حوار تليفزيونى ، فيما امتنعت الجهات الرسمية
المصرية عن التعليق على بيانات إسرائيلية لاحقة لكلام "أبو الغيط" ،
تبرئ كيانها وتدعى حيادها ، وليس واردا بالطبع ، أن يصدق عاقل ترهات حملات الذباب
الإلكترونى ، وخرافات استعداد مصر لتزويد "إسرائيل" بمياه النيل ، مقابل
وساطة لحل مشكلة السد الأثيوبى ، فلا أحد فى مصر يريد أو يملك أن يفعل ، وقد ذهب
الرئيس السادات إلى قبره بعد ما نقل عن عزمه مد مياه النيل إلى القدس المحتلة ،
فلسنا هنا بصدد حديث عن موقف وطنى أو غير وطنى ، بل القضية "وجودية" حصرا
، وبالمعنى الكامل للكلمة ، وكما لا يصح فى الشرع المصرى ، أن تأخذ أثيوبيا نقطة
واحدة من حصة مصر المائية ، فلا يصح أن تعطى قطرة مياه لأى طرف آخر ، عدوا كان أو
صديقا ، خصوصا أن احتياجات مصر المائية اليوم تفوق حصتها المقررة بمقدار الضعف ،
وتبلغ نحو 120 مليار متر مكعب سنويا ، توفر مصر منها نحو 80 مليار متر مكعب ،
بطاقات تخزين مهولة ، وبالاستخدام الرشيد للمياه المتوافرة ، وبمحطات تحلية مياه
البحر ، وبمحطات عملاقة للمعالجة الثلاثية لمياه الصرف الزراعى ، على طريقة محطة
مصرف "بحر البقر" ، وهى الأكبر من نوعها فى العالم ، وتوفر نحو ستة
ملايين متر مكعب يوميا ، أى نحو مليارى متر مكعب سنويا ، تدفع لاستزراع نحو نصف
مليون فدان جديد فى سيناء ، إضافة لمحطة كبرى مماثلة فى منطقة "الحمام" ،
توفر نحو سبعة ملايين متر مكعب يوميا ، أى ما يزيد على مليارى متر مكعب سنويا ،
تدفع لاستزراع أراضى "الدلتا الجديدة" على الساحل الشمالى الغربى ،
وكلها مجهودات مطلوب الاستزادة فيها ، ولا علاقة عينية مباشرة لها بطوارئ أزمة
السد الأثيوبى ، ولا بمخاطره المحتملة ، فقد دخلت مصر إلى منطقة الفقر المائى قبل
ثلاثين سنة ، وبالدقة عندما زاد عدد سكان مصر على 55.5 مليون نسمة ، وقتها كان
نصيب الفرد إحصائيا عند حدود الألف متر مكعب سنويا ، أى عند خط الكفاية المائية
المسلم بها دوليا ، ومع كل زيادة طرأت على عدد السكان ، كان نصيب الفرد ينزل إلى
فقر مائى متزايد ، فى بلد معروف بجفاف مناخه عموما ، واعتماده الأساسى على إيراد
النيل بنسبة تفوق التسعين بالمئة ، وزيادة موارد النيل هى المطلوبة ، وليس
الانتقاص منها ، وهو ما يفسر قلق المصريين "العارم" ـ بتعبير السيسى ـ
من مضاعفات ومخاطر السد الأثيوبى ، وحتمية اضطرارهم للدفاع جبرا عن ماء الحياة ،
فلا قيمة لوجودنا ولا لجيوشنا ، إن لم نخض حرب النيل حتى نصر بلا بديل ، فمصر
والنيل توأمان من أول الزمان إلى آخره ، و"ماحك جلدك مثل ظفرك / فتول أنت
جميع أمرك" كما قال الإمام الشافعى من قرون .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق