• اخر الاخبار

    الخميس، 3 ديسمبر 2020

    نواعي متوقفة ..قصة لـ داود سلمان الشويلي/ العراق


     


       لم أكن لوحدي أنا، بل كنا أنا وأخي الصغير، وأمي معنا، ننتظر خارج المستشفى الذي يرقد فيه أبي لإصابته بفايروس كوفيد 19، المسبب لوباء كورونا المميت. منذ أربعة أيام ونحن هكذا، نأتي صباحا ونعود الى البيت عصرا منهكين من انتظار المفاجأة التي تحمل خبر الشفاء أو الموت. نعود ونحن مخذولون لا نرغب بأي كلام، يرافقنا أكلنا، خبزا وتمرا، وقناني الماء، دون أن نمسه، وأمل الشفاء يتحرك معنا أنّى ذهبنا، فيما المفاجأة لا تدعنا نهنأ.

       كان أترابنا، أنا وأخي، الذين في الشارع يلعبون دون الإحساس بشيء يقلق حياتهم. فأهلهم جميعا بصحة جيدة، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

       أتذكر قول والدي بعد عودته من محطة القطار. قال: عندما تستيقظ صباحا فتجد ان لحافك الذي كنت ملتحفا به قد أزيح عنك بعيدا، تأكد ان جسمك قد خضّه البرد خضا، وربما ستمرض لاحقا، وهكذا أمسك به المرض وأنشب أنيابه الحادة والطويلة فيه.

      بهذا القول ابتدأ أبي حديثه معي، ومع أخي الصغير وهو يعود من محطة القطار التي يذهب لها مساء كل يوم وعلى رأسه عمامة بيضاء صغيرة مائلة الى الخلف، وقد اتسخت حوافها السفلية بعرق جلده. يخرج من تحت هذه العمامة خصلة شعر سوداء، ويرتدي "جبّة"(1) رجال الدين، وينتعل خفا أسودا خاصا بهم، وقد ترك شعر لحيته دون أن يزيله، بل انه قام بتشذيب شاربه، وحفّ شعر خدوده بالخيط، ووضع ماء الورد على جسمه، وداخل طيات ملابسه. كان يرافقه كيسا من قماش "السواحل"(2) الأسمر وهو يحتوي على مجموعة من كتيّبات الأدعية، والآيات القرآنية، والكثير من "الچكليت".(3)

       كان الليل قد حل في الفضاء، والسماء أصبحت سوداء داكنة، ولا وجود لأية نجمة فيها، ولا قمر يبدّد ظلامها. عاد أبي خالي الوفاض، لا شيء عنده سوى ذلك الكيس وما فيه، ولم يبع كتيبا واحدا، أو يوزع چكليتة واحدة. وصل والغضب يقطر من ملامح وجهه. قال بغضب بيّن عندما جلس على البساط القديم وكأنه يكلّمنا:

    - لقد منعوني من الصعود على القطار وكأني أنقل مرض كورونا الى الركّاب.

       جلبت له أمي طاسة ماء، أخذها منها وشرب ما فيها، وكأنه لم يشرب الماء من وقت طويل، بعدها مسّد شاربيه، ونزع عمامته التي وضعها جانبا، ومسح جبينه بمنديل قماشي أبيض اللون أخرجه من جيب "جبّته" الجانبي.

       شعرت به كطفل صغير، وقد خيمت عليه غلالة من الحزن الثقيل، وكاد صوته يتهدج كصوت آلة كهربائية في طريقها الى التوقّف، فيما خيّم علينا نحن أولاده صمت ثقيل كصمت القبور في ظهيرة يوم قائض.

       كان أبي في كل مساء يركب القطار الصاعد الى بغداد ويبدأ بصوته الشجي الحزين، النعي على الامام الحسين، وهو يمشي في القطار، ويوزع الچكليت على ركابه، ويعرض أمامهم كتيبات الأدعية، والآيات القرآنية، فيشتري منه الكثير من ركاب هذه العربات وهم من بسطاء الناس، المشغولون بمشاكلهم اليومية، هذه الكتيبات. مرة قالت له عجوز من الركاب وهي تجفف دموعها بطرف عصابتها السوداء بعد انتهاء "نواعيه"(4) على الحسين:

    - يرحم أبوك على هذه النواعي.. صوتك حزين يفتّت الصخر.

       فيما قال راكب آخر بعد أن عدّل يشماغه وعقاله على رأسه، ومسح دموع عينيه الصغيرتين، وتمخط بمنيله القماشي:

    - ستنال ثوابا كثيرا يا شيخ.

       وقال شاب ممتعض من اسلوبه في تحصيل المال، الى جاره الذي يجلس على الكرسي المحاذي لكرسيه:

    - لا فرق بينه وبين أي متسوّل. ناس ما تستحي ولا تخجل، يستخدم صوته للتأثير على بسطاء الناس وفقرائهم ويسلبهم مالهم.

       رد عليه رجل عجوز لحيته بيضاء غير حليقة يجلس ليس بعيدا عنه:

    - ماذا فعل لك هذا الرجل؟ اتركه يسترزق، انه لا يفرّغ جيوب الفقراء من المال مثل البقية.

       قال الشاب وما زالت السيكارة بين أصابعة لم يضعها بين شفتيه:

    - ان أغلب الركاب هم من ذوي الجيوب شبه الفارغة.. انه يبيع كلمات فارغة.  صدقني انه رجل قوي، وهو لايريد أن يتعب نفسه في العمل... العمل ليس عيبا وإنما فعله هذا هو العيب، يأخذ من أموال الفقراء ليعيش هو وعائلته برفاهية، وبلا تعب.

       كان والدي يجمع ما يعطيه الركاب من نقود، ثم ينتقل الى العربة الأخرى ويفعل كما فعل في العربة الأولى حتى يصل القطار الى مدينة السماوة فينتقل الى القطار النازل من بغداد الى البصرة، ويفعل كما فعل في القطار الصاعد.

       لقد منعت كورونا والدي من عمله هذا، وهو عمل يلومه الكثير من الناس على القيام به، ويعدّوه مثل "الڴدية"، فيها كذب، ودجل، وضحك على ذقون الناس. سألته أمي عن هذا المنع، وكم سيطول، فقال لها:

    - لا أعرف، ربما يطول الى ما بعد موتنا أنا وانتم من الفقر والعوز، أو من كورونا اللعينة.

       عندها فكرت مع نفسي في أن والدي يجب عليه أن يغيّر عمله، وفكرت بصوت عالٍ أمام أخي. قال  أخي الصغير:

    - ان والدي لا يعرف غير هذا العمل.

       تابعت القول وأنا أضع بعض حبات العنب في فمي:

    - واذا بقينا هكذا سنموت من الجوع. ولا نلبس الملابس الجديده.

       أكد أخي الصغير وهو يمسك موبايله الذي اشتراه أبي له قبل أيام:

    - وربما لا نستطيع أن نعبيء موبايلاتنا بالرصيد، وسينقطع عنّا الأنترنيت، ولا نتابع الدردشة مع الأصدقاء.

       قلت حزينا وأنا أخرج موبايلي من جيب البنطلون:

    - سنعيش مثل الفقراء.

       وسمعنا أمّنا تقول لأبي وهي قلقة، تشجعه على فعل ما:

    - يجب أن تفعل شيئا.

       أجابها بشيء من الإصرار والتحدي، وقد ملأت وجهه سورة من الغضب، واحمرت عيناه التي اضطرم فيها لهيب النار:

    - غدا سأركب القطار ولا يهمني ما يحدث، علينا أن نعيش.

       قالت له أمي وهي تجلس أمامه:

    - ارتدي الكمامة والقفازات، وخبّيء كيسك، ودس نفسك بين الركاب واصعد.

       رد عليها بعد أن مسح عينيه:

    - سأفعل ذلك.. ولا يهمني كورونا، سأسمع الناس صوتي الحزين، وأنعي على الحسين كما يريدون.. يجب أن نعيش.

    ***

       عدنا أنا وأخي الصغير، وأمي، من المستشفى الذي كان يرقد فيه أبي لإصابته بفايروس كوفيد/19، إذ أخبرنا أحد المضمدين ان والدنا قد توفي، وسينقلون جثمانه الى النجف بواسطة سيارة الإسعاف.

    ***

    [1] - جبه: جلباب، قفطان. زي خاص برجال الدين.

    2 - السواحل: قماش أسمر اللون رخيص الثمن.

    3 - الچكليت: الشوكلاته.

    4- نواعي: صوت حزين يردد في المآتم يكثر بين النساء.

     

    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: نواعي متوقفة ..قصة لـ داود سلمان الشويلي/ العراق Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top