يتصور البعض ممن يشتغلون على النقد بشتى أشكاله أنه عبارات تفسرّ النصّ أو (العمل المُنتَج) من قبل منتِجٍ، عبر إعطاء معاني الكلمات اعتماداً على القاموس اللغوي، ومن ثمَّ تجميع عبارات تتخللها فلسفة كلامية، وسفسطة شكلية، أو مناورات كلامية بتشكيلات تحاول فيها تأطير مصطلح للنقاش كحوارات المتجادلين أو الباحثين في علم الكلام، لتثوير مجموعة لغوية فيها كنايات وانزياحات أكثر مما في النص الذي يشتغلون عليه بغية اثارة المتلقي لشيء هو في الحقيقة مبهم، تضيع به جمالية وقوة نصوص وأعمال اجتهد كاتبها أن يُلبِسها أجمل ما يكون، وصانعها لوّنها بأبهى حلّة، وبذا يفقد النقد هدفه.
بمعنى أدقّ، إنَّ الناقد اليوم بحاجة لشيء جديد، وطريقة اشتغالية جديدة، كمنهج يتماشى مع ما يجده أمامه، وما هو موجود فعلاً تجديدياً لما تنتجه الثقافة خاصة، وبقية الفعاليات الحياتية الأخرى، بعيداً عن مناهج النقد القديمة التي خنق بعض النقاد أنفسهم فيها كقوالب لا تقبل الجدل والنقاش أبداً، وطالما سمعنا الكثير من النقاد المعاصرين أنهم يبحثون عن طريقة جديدة غير مقولبة كي لا يظلوا متخندقين هناك، وينطلقوا نحو التجديد الذي حلَّ فعلاً وعملياً اليوم لكن الكثير منهم ظلَّ متردِّداً أو متخوفاً من صنع شيء جديد يدعو له سراّ وعلنا مخافة انتقاده بقسوة تماشياً ومجاملة مع أصحاب واتباع المناهج الكلاسيكية التي بات الكثير من تأويلاتها وطروحاتها من الماضي!
نحن لا ننفي الدور الكبير الذي لعبته الكثير من المدارس النقدية، وما أفرزته صراعاتها من مناهج فكرية، لكنها ليست جميعاً بالتي يجب الالتزام بها، ولا بأس من الاستفادة منها واخضاع النصوص الأدبية والأعمال الأخرى لها كشواهد مفيدة، وقد تكون تلك الضرورة في بعض الأحيان انسجاماً مع الثقافة الكونية، لا الخضوع التام لها؛ ما تستدعي الناقد الوقوف عندها مضيفاً لها أبداعه الجديد كمبدع تجديدي. من هناء جاءت تسمية النظرية النقدية الجديدة بـ "نظرية التحليل والارتقاء، مدرسة النقد التجديدية" كمحاولة بحثية تنطلق من العراق كمولود ناصع النقاء تحت مظلة اللغة العربية بمدياتها التي تتسع ولا تضيق. فما هي أهم دلالات ومرتكزات نظرية التحليل والارتقاء؟
لدخول ماهيّة النظرية؛ نتناول بشكل مختصر دلالة الاسم الذي حملته، وما المقصود بالتحليل والارتقاء في بناء مدرسة النقد التجديدية؛ كعنوان دون غيره من العناوين الأخرى:
أولاً / دلالة المفهوم: يُعد أي تأمّل فكري بشيء ما، بعد النظر فيه مليّاً، من أجل وضع قواعد وأسس لمعرفته، والتوصل لحقيقة أخرى جديدة، تساعد في الكشف الآني أو المستقبلي، وتساهم في تشكيل المعرفة، هو نظرية جديدة، يمكن استخدامها في أية عملية وصفية وتحليلية، وليس من الصعوبة التوصل الى ذلك استناداً للمنطق والعقل والمعارف السابقة، سواء في المجالات العلمية، الفلسفية، الأدبية، السياسية وغيرها التي يمكن بها اثبات تلك الحقيقة. من ذلك، ومن خلال فروض حقيقية واستنباط مجموعة استنتاجات، يمكن بعدها التوصل للنتائج المطلوبة في فكرة وأصل النظرية المتولّدة.
ثانياً / التحليل: المعنى العام لتحليل نصٍّ ما هو: "وصف وبيان أجزائه ووظيفته، أو تقسيم الكل الى أجزائه وردّ الشيء الى عناصره" حسب معجم المعاني الجامع وغيره / مادة حلّلَ.. وجاء في تاج العروس أصل الحل، حلّ العقدة، ومنه قوله تعالى: ((واحلُل عقدةً من لساني)) بمعنى الفكّ والتفكيك. في حين تأتي قدرة التحليل عبر انتاج صورة منفصلة لأشياء موضوعة بشكل قريب يستخدمها الباحث العلمي التجريبي أكثر من غيره، ويمكن للناقد توظيف ذلك بشكل أسهل اذا تناول عملاً وأخضعه في مدارات البحث التحليلي؛ سواء اللغوي، أو وفق منطق الدلالات التي تتكشف أمامه. أما اصطلاحاً، فيمكننا تحديد مفهوم نشتغل عليه نقدياً من خلال رؤية الناقد، ودراسة نتاج أديب أو مبدع فني بطروحات فكرية موضوعية، وفق تصوراته البنائية العامة والخاصة بما يتوقعه من مؤثرات لاحقة على المتلقي (القارئ أو المشاهد) حين يتعرف على ذلك النتاج الإنساني إنْ كان يحمل سمة الأبداع، وكذلك العكس إن كان النتاج يفتقد المضامين الهادفة.
بمعنى آخر: الوقوف عند اللغة الفنية المكتوب بها النص والانطلاق منها وفق أسس معدة لذلك، أو الملاحظة الدقيقة لأي عمل يقدمه فاعل ما ضمن مجالات الحياة المتعددة، ثقافياً، سياسياً، تربوياً، أو فنياً محضاً وغيرها، وكملاحظة توضيحية عن الدور الاشتغالي للنظرية أنها انبثقت تأسس لدراسة الأدب بصورة عامة، لكن يمكن اسقاط وتحويل العمل بها لبقية الانبعاثات الابداعية الانسانية الأخرى. ويرى الباحث ابراهيم الشافعي في مقاله المعنون (التحليل اللغوي، فكرة عامة وتطبيق المنشور في موقع الألوكة الالكتروني) إن: "اللغة التي نستخدمها في التحليل اللغوي تختلف بالضرورة عن التي يستخدمها منشئ النص؛ فلغة المبدع فطرية، وهي الموضوع، وتعتبر لغة التحليل لغة علمية علوية، وهذا لا يعني أن تكون لغة التحليل أضعف من اللغة المستخدمة في النص؛ وإلاّ لا يعقل أن تكون لغة النص جزلة وتتمتع بقدر كبير من الفصاحة، ولغة التحليل ركيكة هشة".
ثالثاً / الارتقاء: إنه باختصار وفق معاجم اللغة يعني: "الصعود لمكان عالٍ، كمن يصعد الى جبل حسب تعريف معاجم اللغة، أو كمن يرتقي مرتقىً صعباً، ويجهد نفسه بالوصول اليه". كما يمكن أن يكون من الرقيّ؛ أي جودة التحسين والرتبة العليا، وهذا ما على الناقد المنصف فعله بالخصوص تجاه جيل الشباب الساعي نحو ابداع لا يعرف به من أين يبدأ طريقه الأوضح والأسلم، وبهذا ينمي الناقد موهبة ذلك الموهوب الجديد، واذكاء روح الابداع دوماً لديه، ويعيش حالة الانتماء بعطاء لا يعرف الحدود. هنا يكون الناقد أداة فاعلة في صنع شيء ابداعي جديد، وعامل مهم مساعد حين يتخذ من هذا المنهج الوسيلة المثلى وهو يرتقي بغيره كمربٍ و منشئ لجيل هو في الواقع يختلف عن جيله بكثير من المواصفات، التي ربما تمناها ذات يوم ذلك الناقد لنفسه وهو يرى من يشد على يديه، ويربت على كتفه مشجعاً، إن لم يصادفه مثله اليوم.
رابعاً / التجديد: لا يعد مفهوم التجديد غريباً في كل مجالات الحياة نظراً للحاجة اليه وما تقتضيه دوافع كثيرة، لمسايرة طبيعة الزمن وتطوراته بما يصاحب ذلك من ظروف مختلفة، وليس بعيداً عن كل ذلك المناهج النقدية التي هي أوْلى من يحتاج للتجديد حسب طبيعة الانتاج الابداعي المتدفق يومياً من فنون وآداب واكتشافات علمية تقتضي وقفات طويلة وكثيرة أمامها. التجديد بحد ذاته يمكن أن يكون نظرية جديدة ظهرت للعلن داعمة للفكر، مطورة لنظرية المعرفة العامة. إنَّ مفهوم التجديد يأتي متوافقاً بحالاته مع مفهومين مهمين هما التغيير والاصلاح، ولا يختلف اثنان على ذلك عقلياً كأدراك واقعي مصاحب للتغيرات المستمرة في كل بقاع الأرض عبر المسيرة الزمنية.
اذن، عملية التجديد بمفهومه الكوني العام هي أيضاً متجددة، ليس لها نهاية، مثلما كانت بدايتها مع أول أنسان وُجد حتى وإن اختفى التجديد طويلاً في سبات عميق، أو خنقته شتى أنواع الصراعات، لكنه يظهر متى توفرت الظروف الملائمة لذلك؛ وقد تكون الصراعات الفكرية والاختلافات المتنافرة في وجهات النظر من الأسباب المؤثرة والقوية جداً في ذلك.
في مدرسة التحليل والارتقاء النقدية التي نحن بصدد الوقوف عندها وتعريفها بشكل مبسط كمنهج نقدي جديد غرضه الأول وضع منهجية موضوعية عن طريقها يؤسس الناقد التجديدي طريقته الاشتغالية بكشف الانبعاث الناتج بما يحمل من قيم انسانية قبل كل شيء، ومن ثمة توثيق حقيقة الابداع التجديدي تفادياً لمزج وزج مفاهيم غامضة جاءت بها المناهج النقدية السابقة، أو التي ابتكرها من سار وفق مسارات تلك المناهج لكنه أضاف اليها المبهم بدلاً عن وضوح الرؤية واخراج نقد فني هو في حقيقته داعم ومساعد يعاضد المبدعين لاسيما الجدد، وبذا يكون التجديد هو عملية جديدة، ومفهوم له دلالته المعرفية الخاصة. بمعنى اتحاد التجديد والجديد ضمن مسيرة عامة واضحة محصلتها النهائية وغايتها تقديم الأفضل والمفيد؛ مثل صنع جهاز كومبيوتر كآلة جديدة، لكن تعليم الكتابة عليها هي طريقة تجديدية للكتابة عبر معرفة الرموز، ومواقع الحروف وطرق النسخ واللصق مثلاً؛ لأن الكتابة معروفة أصلاً لمن يريد العمل على ذلك الجهاز.
ولو تساءلنا: لماذا دول الغرب ترحب بكل جديد وتجديد ونحن العرب عكس ذلك؟ الجواب باختصار: لأنَّ العرب طموحهم محدود وشبه معدوم، وتأصلت لديهم طبيعة محاربة ومعاداة كل جديد نظراً لرواسب الجهل والرجعية لدى الكثيرين منهم؛ فما أن يظهر مجدِّد حتى يجد سهام القدح والذم تأتيه من كل مكان قبل فهم ما يدعو اليه وينادي به؛ فقط لأن ما تبَّناه يحمل صفة الجديد، أو الدعوة للتجديد!
من هنا يتضح أنّ التجديد هو عملية فكرية تساهم في بناء معرفي نتيجة وجود ابداع منبعث، مهما كان هذا الانبعاث، وفي أي مجال من مجالات الحياة المختلفة، وأهم دافع له هو خلق تفاعل بشري بعيداً عن كل أنواع الضعف لخلق حالة تسمو بالفكر وطبيعته القابلة لقبول الجديد وإن اكتنفته الصعوبات أحياناً عبر ما توفر من وسائط مساعدة، وما دمنا هنا ندعو لتشكيل مدرسة عربية نقدية تجديدية فإننا لا نجد صعوبة مطلقاً بذلك بما لدى العربية من مساحات واسعة لا حدود لها اذا ما تبناها ناقد يعي ما بين يديه حين يريد الوقوف والاشتغال بإخلاص للغته وواقعه وانتمائه الحقيقي، لا الانتماء البعيد جداً عنها.
0 comments:
إرسال تعليق