• اخر الاخبار

    الخميس، 17 ديسمبر 2020

    ظاهرية الترميز والدلالة المضمرة في القصيدة..أحمد رافع أنموذجاً ..بقلم: الناقد العراقى سعد الساعدي



    يمتاز بعض الشعراء بشجاعة كتابية فنية لغوية متميزة؛ وشجاعتهم من نوع خاص يمتلكونها بتطويع كلماتها ورموز صورها فيما يكتبون رغم صعوبة الفهم للبعض أحياناً، ويلقونها للمتلقي بالتدريج، وإن كانت للوهلة الأولى تبدو بعض منها سريالية اللهجة واللون، وبعض يأتي بلغة مفعمة بنقاء الواقع المنبسط بشتى الصور، مع نَحْتٍ تشكيلي في الجملة، لكنها تفسح المجال لاحقاً على أقل تقدير لمتوسطي الثقافة بفكِّ الرموز، والتأمّل بتلك اللوحات الشعرية والاستشعار بالمتعة، وهذا سرّ من أسرار نجاح العمل الفني مهما كان شكله وجنسه، وكما سنلاحظ في نص للشاعر العراقي أحمد رافع الذي تتسم نصوصه بالتجديدية الكتابية بين العمودي والنثري.
    يقترب الشاعر ويقرّب أسيجة قصائده الخارجية والداخلية ويبدأ بتفسير صورة لحكاية هي في الحقيقة قصيدة تحكي معاناة متعددة الأوجه تارة، ومن منّا ليست له معاناة ، وتارة أخرى تصف هواجس شتى؛ عشق امرأة يحاورها أو حب الوطن الجريح والحنين والعزف المنفرد لأوجاع وآمال وذكريات متنوعة تدل على أصالة في عشقه لكل شيء جميل خلّفه الماضي، أو تترقبه ساعات التصوُّر امتداداً لمستقبل لا يعرف بواطنه الحقيقية.
    النص:
    (أغني من ثقل الجوى)
    ولففتُ عمداً في الليالي ضحيتي.. كيما ترقرق في الهجير مطولا
    وتـراخت الاوتـاد من ثقلِ الجوى.. حتى تهشَّم كـل حاوٍ مفصلا
    فالدربُ يمشي للمياه بواكيا.. ما همتُ في عرض الممات مثقّلا
    علَّلت نفسي في المسالك والقذى.. فبدا الزمان الى الوجوه ليجهلا!
    قـــالت: أتنشد للمنافي مولولا؟.. فالروح تطوي ذا الفراغ المقبلا
    سيعود إذ ذاك التصابي والصبا.. أنْ يستحيلَ الحقلُ حقلاً أجملا
    فعنيتُ أردفُ للغيوم نوائحي.. ردَّتْ على رجعِ النشيج المَقتلا
    لما تداركت الوقوف مع اللقا.. فرأيت عمري في الدروب مغزّلا
    ويموت في كفّ الهواءِ كشمعةٍ.. ويطيح من خفِ السعادة مذبلا
    رافع لو كتب بطريقة مغايرة في تعقيد رمزي محبوك بدقة بالغة، فلن يخلو النص من صعوبة فهم واستدراك يلاقيه المتلقي وهو يستعرضه بتلك الصور المحملة بمعانٍ متشابكة، وأنَّ قرّاءه سيتنحون عنه بعيداً ربماً، وهذا ما لم يفعله، فكتب بلغة شفافة تفصح عن نفسها ليفسرها القارئ بما يشاء، و هذا هو مفتاح الغاز القصائد والنصوص التجديدية بكل ألوانها.
    النخبة تقرأ وتفسر، والقارئ البسيط يقرأ ويفسر، والناقد الايجابي الموضوعي ما عليه إلاّ تحليل النص، والكشف عن مكنوناته البلاغية والموسيقية والدلالية، وايصال ما يمكن ايصاله للمتلقي أيضاً، وبيان الجمالية، أو الركاكة والضعف، وما خفي من رموز إن استطاع الوصول اليها بدقة البحث وليس التخمين؛ من أجل التصويب والتقويم ليس إلاّ، وهذا ما يؤكّده الكثيرون ونحن نؤيدهم، ونقف معهم على طول الخط. في هذا النص وفي غيره هناك متعة خفية وارهاصات تبرز في مواضع شتى وتختفي أحياناً، يعلن بها ويكشف الشاعر قدرته الوصفية ممسكاً خيوط عمله من كل الجوانب.
    بالنسبة لنا كقرّاء ونقاد لمثل هكذا نص ومحاولة تحليله وبنائه ادراكياً بقدر؛ يمكننا القول أنه جاء بموسيقا حزينة حالمة في آن واحد معاً اكتسى نصه منذ البداية بمسحة الصورة المؤلمة. الى ماذا يشير ذلك؟
    يشير الى عمق الثقافة ومقدرة السباحة عكس التيار بالنسبة للشاعر، وحتى لو كانت امرأة شاعرة أيضاً، فهي مهما تكن انثى مرهفة الحس كزميلها؛ نبيلة المشاعر، عزيزة بقوة ثقتها بنفسها. في الساحة الأدبية هناك الكثيرات من الشاعرات برزن من خلال ابداعهن الجميل، وثقافتهن العالية وجمال ما يرسمنه في قصائدهن كل يوم. هذا الطور البنائي الجديد بحد ذاته خروج عن المألوف، ودخول فضاء العالم الجديد، عالم القصيدة التجديدية رغم غلبة القصيدة النثرية بشكل واضح جداً في كثير من الاتجاهات لأنها طغت على الساحة بشكل مبهر، في حين نحن بصد دراسة جوانب من قصيدة عمودية.
    أمّا الاشكالية الرمزية فغالباّ هي غير موجودة بالمعنى الشمولي لعمق وتعقيد الرمز، إلاّ في قصائد من يكتب بلغة غامقة يمكن تسميتها اللغة الفوقية، أو العبثية المتلاشية في فضاء الوهم، والأقرب لها قد تكون السوريالية السوداء الغارقة بالتعقيد الحالم، كلوحات الرسم غير المفهومة، بعيداً عن صور الجمال الغارقة بنشوة الامتاع، وهنا على الناقد الواعي معرفة ما يلتزم به ويقوم بعملية تحليلية شمولية إن أراد التقدم نحو تلك الاعمال. لا ننسى أيضاً أن أحمد رافع يكتب بلغة تتموج في كثير منها المعاني الغامقة أحياناً لكنها ليست عصية التحليل والتفسير، وليست نخبوية فقط، والسبب جمالية اشتغالاته كي يبرز حالة ابداعية في كل نص، وبذا يسير ضمناً مع المرتكزات الحقيقية الجامعة للغة والمعنى والجمال التي تراها نظرية التحليل والارتقاء أنها الأساس الفاعل في خلق انبعاث تجديدي تتضح صورته أكثر مع بقية نصوص الشاعر النثرية.
    لكون القصيدة التجديدية تمتاز بلغة عالية البناء فلا يعني ذلك استغراقها بالعتمة، بل بما اتاحته العربية من سعة الاشتقاق اللامحدود، اضافة الى الوصفية الدلالية والجمالية التي تمتاز بها القصيدة، والمعاني المتنوعة بكل ما يريده الشاعر ويكتب في أغراضه الشعرية، وهذا ما لاحظناه في هذا النص. حتى التناص الانطباعي مع الغير وباقي الموجودات يمكن اضافته كصفة للقصيدة التجديدية كتب بها الشاعر بغير هذا النص بوضوح، اضافة لتوظيف الرمز الأسطوري كحالة بنائية جديدة في القصيدة، وكثيرون اليوم ممن يكتبون قصائدهم المليئة بإشارات جمّة عن مجموعات ورموز اسطورية محلية وعالمية كلونٍ يتميزون به.
    ليس فقط أحمد رافع، من تفرّد وغرد بطريقة خاصة باستخدام رمزية خاصة به، أو تناص منفرد يتضمن انزياحات اغنت النص، تاركاً المساحة مفتوحة، والأرض مكشوفة للجميع يتبارون بما يشاؤون مع أفكاره؛ وما يريده ويبطنه لا يعرفه غيره قطعاً. الاشارات التي أطلقها هنا الشاعر كثيرة متنوعة في نصه المفعم بحكائية شعرية إدهاشها ينعش المتلقي بلا ملل طالما كان من المتابعين والمهتمين بمثل هكذا نصوص جديدة.

     
     
     
    تعليق
     
     
    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: ظاهرية الترميز والدلالة المضمرة في القصيدة..أحمد رافع أنموذجاً ..بقلم: الناقد العراقى سعد الساعدي Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top