كنت
شاهدا على ما يحدث فى قريتى خلال العقود القليلة المنصرمة ؛حينما تنطلق الأصوات
عبر مكبرات الصوت وتصدح بها مآذن قريتى ؛وينادى المنادى جملته المشهورة ..غدا أول
أيام شهر رمضان الكريم..فيجوب الأطفال فى
الشوارع ويصدحون بأهازيج أغانى الشهر المعظم ،وآخرون يسرقون طبقا من الدقيق من حجرة المعيشة لأمهاتهم ويجتمعون مع
آخرين ينتظرونهم على ناصية الشارع ومعهم ورق الجرائد والمقص وكتبهم بتاعت السنة
اللى فاتت .
ويجلسون
فرادى وجماعات ويقسمون العمل فيما بينهم ،كل واحد له مهمة محددة ، فواحد يضع
الدقيق فى "حلة" كبيرة ،وثانى
ياتى بالماء فيصبه قطرة قطرة حتى يتجمد
الدقيق ويصبح عجينة لينة ؛ وثالث يضع بيده قطعة من الدقيق على أطراف الورق التى
قطعوه ليصبح "شراشيب" ورابع يأتى بالخيط ويربطه من الناحيتين ويأخذ
الشراشيب ليلصقها على الخيط ويتركونها تنشف ،ومجموعة اخرى تقوم يتعليق الشراشيب فى
الشارع ؛والجميع يجلس طوال العشر الأوائل من الشهر الكريم ليحرس
"الشراشيب" من إغارة أبناء الشوارع المجاورة لاسيما لو كان يتخلل
الشراشيب فانوسا كبيرا.
انطلقت
أنا أجوب شوارع وحوارى القرية ؛فأرى أبواب
المنازل وقد أوصدت ومن خلفها إما أرملة أو شيخ كبير أو مريض منتظرين فى لهفة قدوم
ذلك الزائر العزيز ؛فيدق على الأبواب وبيده مظروف أبيض بداخله مائة جنيه ،وما إن
يتناولها إلا وتلوح على وجهه مظاهر الفرحة والسعادة ؛داعيا الله بأن يمن بالصحة
على من أرسلها ومن حملها .
هكذا
اعتاد الناس لسنوات طوال على هذه المنحة وهذا العطاء ؛ ولكن خلال هذا العام رحل
صاحبها وانتقل إلى الرفيق الأعلى ؛وانقسم الناس وقتها فريقين أحدهما يؤكد وصول
المنحة ،وآخرون فقدوا الأمل فى الحصول عليها .وانتظر الناس خلف الأبواب كعادتهم
؛فلم يأت الطارق!
فأخذت
على عاتقى فى الصباح أن أذهب إلى المدينة المجاورة حيث دفن ،ووقفت أتأمل تلك
الغابة من المقابر المتلاصقة التى لا يفصلها عن بعضها إلا شوارع ضيقة ..جبت
شوارعها شارعا يلو الآخر لعلى اهتدى إلى مقبرته ،ومررت على مقابر أنيقة منها من
الزخارف ومن فنون المعمار ما يبهر الناظرين وعليها شواهد نقش بأسماء ساكنيها
وتاريخ وفاتهم .
0 comments:
إرسال تعليق