(التمرد) في (المنظور الاجتماعي) فهو يعنى (العصيان) و(التجاوز) و (الثورة)، ويدل
على اهتياج جماعي، أو مقاومة عنيفة مسلحة للنظام القائم. كما يدل على حركة اعتراض
جماعي محدود المدى والهدف.
ولد الشاعر محمد الماغوط في مدينة
سلمية عام (1934)، و نشأ في عائلة شديدة
الفقر. درس في بادئ الأمر في الكتاب ثم انتسب إلى (المدرسة الزراعية) في مدينة (السلمية)،
ثم انتقل إلى دمشق ليدرس في ثانوية (خرابو الزراية) بالغوطة، لكنه لم يتم دراسته
في الثانوية بسبب فقر أسرته، وعندما انتمى لحزب من غير أن يقرأ بنوده تم سجنه بين
القضبان بإنشاده قصيدة (القتل). تعرف الماغوط أثناء سجنه على الشاعر (أدونيس) الذي
زاره فيما بعد في بيروت، قدم أدونيس الماغوط إلى (جماعة الشعر) ويعتبر محمد
الماغوط من الشعراء الذين ينشدون الكوميديا السوداء والأدب الساخط وهذه من مقومات
التمرد.
والتمرد على الذات أو ما يسمى في
علم النفس بـ(المازوخية) أو التمتع بإيذاء النفس، وهو سلوك هادم للذات، ووسيلة لوضع
النفس في موقف الفشل والإذلال والحرمان، ومع ذلك يجد هذا الشخص متعة وراحة خفية في
فعل هذه الأمور؛ أي إنه يعشق تمثيل دور الضحية والمظلوم والمحروم بالرغم من شكواه
وتذمره الظاهري من ذلك. ويعتبر الماغوط من الذين ذاقوا مرارة القسوة وقسوة الحياة
والسجن والفقر، فتلك المعاناة التي فرضها عليه الواقع جعله يكبت بنفسه العذابات في
منطقة (اللاشعور) ففجأة يخرج سلوكه بصيغة كلمات متناثرة مندمجة بآلام ومندملة
بالحرمان قائلاً عن نفسه:
الاسم: حشرة
اللون: أصفر من الرعب
مكان الإقامة: المقبرة أو سجلات
الإحصاء.
فهذه القصيدة تجسد تمرده على ذاته
بمعنى الكلمة، إذ أن الشاعر وصف نفسه بحشرة صغيرة لا قيمة لها، وجسد اللون الأصفر
كلونه المفضل، واختياره لهذا اللون بالذات لم يكن اعتباطا، وإنما اختاره بدوافع
فيزيولوجية ونفسية واجتماعية ودينية ورمزية، فللون معنى نفسي يتكون نتيجة تأثيره
الفيزيولوجي على الإنسان. اللون الأصفر من الألوان المتقلبة، وليس له ايحاءات
ثابتة، يستمد دلالته أحيانا من لون الذهب، وأخرى من لون النحاس، وأحيانا من ضوء
الشمس عند المغيب، وتارة من بعض الثمار مثل الليمون والتفاح، والطيب مثل: الزعفران،
وأحيانا أخرى يستمدها من النباتات الذابلة، حين تجفف فيميل لونها إلى الاصفرار. واللــون
الأصفر يدل على الخريف والحزن والموت والقحط والبؤس والذبول والألم والشحوب
والانقباض وأحياناً أخرى يدل لون الأصفر على الخوف، فمﻥ ﺨﻼل النظر إلى قصائد
الماغوط نجد أن هذا اللون يتكرر كثيراً، وعلى الأغلب يدل على الذعر والخوف وهذه
نتيجة الخوف والهلع اللذين كان يعيشهما الشاعر آنذاك.
ويقول الشاعر بإحدى مقابلاته التي
أجراها مع (الجزيرة): أنا لا أرتجف من البرد أو الجوع أنا فقط ارجف من الخوف؛
فالخوف كان ملازماً للماغوط بشكل متكرر حيث أنه كان إذا رن جرس منزله يخاف أن
يأتوا ويقبضوا عليه ويكمل الماغوط بقصيدته فيصف جبينه أنه الوحل فالوحل هو مكان
القذارة ولا يمكن لشخص طبيعي لا يعاني من اضمحلال ونقص كبير أن يصف نفسه هكذا،
وبهذه اللغة التي استمد منها معظم الشعراء نظامهم اللغوي الخاص بهم، معتمدين في
ذلك على استخدام اللغة وانتقاء الألفاظ المناسبة التي تتفق مع تجاربهم الخاصة، فهي
تشكل حضوراً واسعاً في البناء النصي للقصيدة، وذلك لأن الألفاظ تعكس فكر الشاعر
ومزاجه وشعوره وطبيعته وقدرته على الانتقاء اللغوي، فهي ليست ألفاظاً لها دلالات
ثابتة جامدة بمعانيها القاموسية وحدها، بل إنها لغة انفعال مرنة متجددة بتجدد
الانفعالات والتمرد على النفس ووضع جبينه بالوحل وكأنه بهذا يجعل الوطن الذي يعيش
به كأنه الوحل.
أما عن (مكان الإقامة) فجعل من
القبر المعتم الضيق والمخيف والمروع مكانه، وإن لم يكن كذلك فإن اسمه مهمش فقط في
السجلات الإحصائية في النفوس لاغير، فالشاعر في قصيدته هذه يتمرد على اسمه ولونه
وأقامته وهو تمرد على ذاته بشكل جلي ويقلل من شأن نفسه بنبرة من الحرمان.
وفي قصيدة (محاولة أخيرة) نجد أن (الهو)
يعمل بشكل كبير ومسيطر وطاغ على شخصية الماغوط، ودائماً ما نشعر عند قراءة قصائده
بأن هناك رغبات مكبوتة بداخله يود أن يفصح عنها إلا أن سلطة (الأنا العليا) التي
تتكون من المجتمع، في جميع ذراته، هو الذي يقيده ويبسط سلطته عليه ويجمحه، لكن
شاعرنا لا توجد أية قوة تؤثر عليه، فالحاجات الدفينة بداخله من طفولته وفي شبابه
وفي السجن ومن خلال تعرضه لانتكاسات كثيرة بحياته والتي أدت إلى معاناة كبيرة
استحوذت عليه مما جعل (الأنا) يقف أمام (الأنا العليا) بكل جرأة وقوة ويقول كلمته
غير مبال بأية سلطة؛ لأن (اللاشعور الداخلي) عنده أصبح أقوى من الشعور والتفكير
والمنطق، فظهر اللاشعور عند الماغوط بين أسطر قصائده وبين كلماته وحروفه لدرجة أنه
يتمرد على نفسه :
أريد أن يكون وجهي مسطحاً
وأسناني متفرقة كغيومها
ودموعي عزيزة كأمطارها
ورائحتي نفاذة كمستنقعاتها
ومزاجي متقلباً كفصولها
وكرامتي غامضة كضبابها
ودفاتري بيضا كثلوجها
وأحلامي وهمية كإنجازاتها.
نجد الشاعر يتمحور حول ذاته بدليل
كثرة استخدام (ضمير المتكلم) وهذا يدل على أنه شغوف بنفسه، إلا أنه يصف وطنه بكل
طقوسه بهذه القصيدة ويتمرد عند تشبيه نفسه بالأرض القاحلة، ومن ثم يبين كيف يأتي
المطر من الغيوم الممطرة وكأنه يستهزئ بذلك، أي: جفت دموعه ولا يعني بأنها كثرت
وكثرت لأنها أصبحت غزيرة وذلك على وجه التهكم والاستهتار، ويتمرد على رائحة جسده
وكأنها مستنقع من المستنقعات، وعلى مزاجه المتقلب وكرامته المهتوكة ودفاتره
المليئة بالكتابات وكأنها فارغة، وعلى أحلامه التي لم ينل منها إلا الخسران والخوف
والقمع. فهذا هو شاعرنا المتمرد بسخريته وكوميدته السوداء الرهيبة، ها هو يتمرد
على ذاته من غير أن يخجل، ولايطغى اللاشعور على تفكيره، ويصور ذاته باللاشيء، كما
يصف جسده بكلمات بسيطة بليغة.
0 comments:
إرسال تعليق