اكتظ المكان بأناس أقوياء من كل حدب
وصوب ..أناس شعث غبر..لباسهم من خيش ..وأقدامهم ألبسها الزمان حذاءاً لا يبلى
؛جاءوا ليلقوا نظرة الوداع على ملكتهم التي أفنت شبابها وجمالها ومالها لتقدم لهم
الطعام والكساء ،فى زمان ذاقوا فيه مرارة الأيام وقسوتها ..تنهمر من عيونهم شلالات
من الدموع التى روت ثرى المكان ؛إلا رجل أطلق لحيته البيضاء التى اضفت على وجهه
الأبيض نور الأولياء وفى فؤاده صفاء الناسكين .احتفظ برباطة جأشه إلا من حبات من
الدموع تقف على وجنتيه كأنها اللؤلؤ المتلألأ بنور وجهه .
أعطى واحداً منهم وعاءاً مملوءاً بماء
زمزم وزجاجات من العطور ،وهمس فى أذنه غسلوها بهذا الماء واسكبوا على جسدها العطور
وكتفوها فى أربعة أدراج من السندس والديباج الأبيض ربما نكون قد رددنا ولو قيد
أنملة من كرمها معنا .
وما إن خرج الجثمان حتى اصطف المشيعون
فى صفين بعضهم يرفع بيارق خضراء ،وأخرى بيضاء ،وآخرون يحملون حللاً كبيرة ،وكهل
ممسك بصاجات نحاسية والجثمان يتوسطهم ،وأمام الجثمان كهل آخر يمسك أكليلاً من أعواد
الصفصاف المورقة بعناية ،وزهور برية مختلفة الألوان .
ودوت فى أرجاء المكان أصوات الطبول
والدفوف والصاجات معلنة تحرك الجنازة ..وشيخ آخر يتحرك بين الصفوف ممسكاً بعصاه
..وإذا صادف أحد الجنازة شاركهم الوداع .
وقبل وصول الجثمان إلى المقابر بمسافة
انحرف فانحرف معه جمهور المشتاقين حتى وصل إلى مكان آخر وتسمرت الخشبة وابت ألا
تفارق هذا المكان ؛ فأنزل الجثمان وجاء كبيرهم وضرب الأرض بعصاه معلنا: هنا سيٌبنى
المقام .
0 comments:
إرسال تعليق