انقضى الأسبوع الأول من الأسابيع الثلاثة
التي قضيناها في السكن، وقد مر بطيئا كأنه شهر أو أكثر، كنا نتظاهر فيه بالسعادة،
ونحدث زملاءنا من بلدتنا عن فضل السكن وراحته خاصة بين المحاضرات، وأية راحة في
السكن؟، لا خصوصية ولا طعام جيد ولا وسيلة للتواصل مع الأهل والأصدقاء، ثم عدنا
إلى بلدتنا في نهاية الأسبوع وقوبلنا بحفاوة من الجميع وكأننا كنا في غربة وسفر
طويل، وجلسنا نحكي الأساطير، وذهابنا إلى السينما، ومتعة السكن الكاذبة في
المنصورة.
فوجئنا في الأسبوع التالي بستة من
زملائنا قرروا محاكاة تجربتنا في السكن، وقد استأجروا شقة كاملة لهم، قررنا نحن
الثلاثة القدامى أن نذهب لزيارتهم، كان أحدهم في هندسة وآخر في تربية واثنان في
آداب واثنان في تجارة.
كانت الزيارة بين المغرب والعشاء،
وصلنا الشقة وكانوا يتضاحكون ويتسامرون، وبعضهم يعد وجبة العشاء ( مكرونة)، جلسنا
نتبادل الأحاديث والضحات حتى انتهى زميلنا الطاهي من إعداد الطعام، وجاء حاملاً
(حلة المكرونة).
المعروف أن حبات المكرونة متفرقة
متباعدة، إلا هذه المكرونة، كانت حباتها متماسكة متعانقة بينها ود عجيب، كأنها
تنتمي إلى حزب واحد، كتل مكرونية كأنها طهيت بالجبس، لم يلتفت أحد من أصحابنا إلى
تلك التفاصيل السخيفة وقطعوا الأحاديث، وانقضوا على حلة المكرونة، وقد أمسك كل
واحد منهم ملعقة كبيرة أشبه بالمغرفة، ولم نشاركهم في الأمر، فقد نسوا من لهفتهم
أن يدعونا إلى الطعام، وبدأت المعركة، وغرز كل واحد منهم مغرفته في الحلة ليخرج
بما لا يقل عن ربع كيلو مكرونة، وفتحوا الأفواه على مصراعيها ليتمكنوا من استيعاب
هذه الكتلة المكرونية، وقد عم الصمت، فلا تسمع إلا أصوات الملاعق وهي تدك جوانب
الحلة، والأفواه التي تلوك الطعام، وقبل أن يفرغ أحدهم من بلع الملعقة الأولى،
تجده يبادر بملء الثانية استعداداً لالتهامها، لم تمر إلا دقائق وقد فرغت الحلة من
المكرونة تماماً، لم يبق فيها إلا بعض قطرات من الصلصة على جوانب الحلة، ولو أمكن
التهامها لتم ذلك.
وضع كل منهم يده على بطنه في سعادة،
كأنه أكل نصف خروف، ثم قال أحدهم : النهاردة فيه ماتش للأهلي وعاوزين نتفرج عليه،
بس هنتفرج فين؟
رد آخر مسرعاً : نروح أي قهوة نتفرج
فيها على الماتش.
لم نفكر كثيراً، وانطلقنا نبحث عن
قهوة، ووفقنا إلى واحدة.
وقفنا نحن التسعة على باب القهوة شبه
المليئة بالزبائن نبحث عن مكان يسعنا جميعاً فلم نجد.
وما هي إلا لحظة وجاء عامل القهوة، شاب
قوي البنية حاد الملامح، يحمل في يده اليسرى (صينية) عليها أكواب فارغة، وحمل
باليمنى طاولة كبيرة بكل قوة وضعها خارج القهوة وأتى بالكراسي من هنا وهناك، ثم
نظر إلينا في جد قائلاً :
تشربوا ايه؟
رددنا تقريبا في نفس واحد : نشرب شاي
هم العامل بالانصراف، فإذا بصوت يخرج
من بيننا قائلاً :
أنا هشرب قهوة، كان زميلنا في كلية
الهندسة، نظر إليه العامل نظرة استنكار، ثم انصرف مسرعاً داخل القهوة، وما هي إلا
لحظات حتى أتى بصينية عليها أكواب من الشاي يحملها بيده اليسرى، ويقلب السكر فيها
باليمنى، كأنه في عراك معها، وتعلو كل كوب من الشاي رغوة أشبه برغوة الصابون في
منظر مقزز، جمعت قوتي وهممت أن أطلب منه إزالة تلك الرغوة من الكوب الخاص بي، لكن
ملامحه حالت دون ذلك، وآثرت السلامة ولم أتكلم، خشية ردة فعل من هذا الأحمق.
وقبل أن ينصرف سأله زميلنا :فين القهوة
بتاعتي؟
نظر إليه في حده وبصوت أجش رد قائلاً
:اصبر شوية.
كتمنا الضحكات ولم نستطع أن نبدها خشية
العاقبة، دخل العامل سريعاً كعادته ولم يلبث أن عاد بفنجان القهوة ووضعه أمام
صاحبنا، فحمله صاحبنا على الفور ومع أول رشفة منه نادى على العامل في شجاعة : لو
سمحت شوية سكر القهوة مُرَّة.
وهنا وقعت الواقعة، كسفت الشمس وخسف
القمر، واستدار العامل إلينا بقوة وعيناه الحمراوان ترسل إلى صاحبنا نظرات حادة
تكاد تحرق المكان، ثم قال بصوت أجش مرتفع :أنت طلبت قهوة مظبوطة، ودي مظبوطة، لما
انت ملكش في القهوة بتطلب قهوة ليه؟
هنا لم نتمالك أنفسنا، تغلبنا على
خوفنا وكانت لنا ردة فعل واحدة، لا تتوهموا أننا عنفناه لطريقته الفظة مع صاحبنا،
حاشا لله، وأنى لنا هذا مع ذلك العتي الأحمق، بل انفجرنا في الضحك بصوت عالٍ، جعل
الجالسين ينظرون إلينا في غضب، فما كان منا إلا أن طلبنا الحساب، ودفعناه وانطلقنا
مسرعين في الشارع ونحن نتمايل من شدة الضحكات وليس على ألسنتنا جميعاً إلا عبارة
واحدة نوجهها لصاحبنا المهندس
"لما انت ملكش في القهوة بتطلب
قهوة ليه"
وللحديث تتمة..
0 comments:
إرسال تعليق