ربما لا يوجد منطق مقبول وراء وضع العربة أمام الحصان فى قصة سوريا ، ففرص تغيير النظام السورى لا تبدو واردة فى المدى المنظور ، والثورة السورية المطالبة بالحرية قمعت بعنف همجى ، واختفت ملامحها السلمية الشعبية فى صبوتها الأولى ، التى لم تستمر سوى لتسعة شهور بدءا بصيحة "درعا" ، ثم كان الخطأ القاتل بعسكرة الثورة واستدعاء التدخل الأجنبى ، وهو ما صادف هوى غريزيا عند النظام ، تحولت به الثورة فى سوريا إلى ثورة على سوريا ، وحروب دمار شامل بالوكالة وبالأصالة ، قادت إلى خراب شامل لأغلب مدن وقرى سوريا ، وانتهت بنصف أهلها إلى مآسى النزوح واللجوء ، وإلى تقسيم فعلى للخرائط على جبهات السلاح ، وإلى خسائر كلية قد تصل لنحو 800 مليار دولار، فوق المقتلة المفزعة التى جرت وتجرى ، وراح ضحيتها نحو المليون سورى .
ومن زاوية أخلاقية ، فقد تورطت كل الأطراف فى
إهدار الدم السورى ، صحيح أن النظام أو ما تبقى منه ، وهو استبدادى وطائفى بلا
شبهة ، يتحمل النصيب الأكبر فى المأساة ، ومن دون تهوين ولا إغفال لجرائم أطراف
أخرى ، تدعى الانتساب لمعنى الثورة ، وهى براء منها ، وشكلت أغلب مايسمى فصائل
المعارضة المسلحة ، وكثير منها جماعات يمين دينى وسلفية "جهادية" ، وإرهابية
صريحة ، بادلت جماعة النظام طائفية بطائفية ، وولغت فى دم السوريين كما فعل النظام
، ومن دون اكتراث بسعى إلى "ديمقراطية" ولا إلى "وطنية سورية"
، لاتؤمن بها أصلا ، واستعانت كما استعان النظام عسكريا بالأجانب ، وبخطوط تمويل
تدفقت بمليارات الدولارات ، وبفضائح فساد طافح ، اللهم إلا من استثناءات متناثرة
فى المعارضة ، قد يعتد بنقاء أصواتها ، ورفضها "العسكرة" والتدخل
الأجنبى ، برزت بينها "هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطنى الديمقراطى" ،
إضافة لمجموعات أخرى وطيف واسع من الشخصيات الوطنية المستقلة ، بدت كلها حريصة على
ابتعاد عن جماعات اليمين الدينى و"داعش" و"جبهة النصرة" وأخواتها
، خصوصا مع تغير شامل تزايد أخيرا فى المزاج الشعبى العربى عموما ، وفى المزاج
السورى ضمنا ، لم يعد يرى فى الجماعات الدينية بديلا سياسيا يؤتمن أو يوثق به ،
بقدر ما هى عنوان للدمار والتفتيت المرعب للأوطان ، صار مكشوفا للعيان من مشارق
الأمة حتى مغاربها .
والمعنى ببساطة ، أن البيئة تبدلت ، وأن الوضع
فى 2021 لم يعد كما كان أواخر عام 2011 ، حين قرر اجتماع عربى رسمى طارئ بالقاهرة
، تعليق عضوية سوريا فى جامعة الدول العربية ، ثم إحلال جماعة "معارضة" فى
المقعد الشاغر ، ثم إجلاء هذه الجماعة عن المقعد فى قمة عربية لاحقة بشرم الشيخ
عام 2015 ، ثم السعى الذى نراه اليوم لإعادة النظام السورى إلى مقعده ، عملا
بقاعدة الاعتراف بأمر واقع آلت إليه الأمور فى سوريا ، وكون الجامعة لحكومات لا
لشعوب ، ومبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية ، وترك مصير النظام السورى للشعب
السورى ، فمن حقه وحده ، وبغير وصاية من أحد ، كما من حق كل شعب عربى أو غير عربى
، أن يبقى على نظامه أو أن يغيره ، وقد لا يقدح فى مطلب عودة سوريا إلى مقعدها ،
أن النظام السورى يسيطر على الوضع بمعونة الأجانب الإيرانيين والروس ، وهذه حقيقة
ملموسة ، نرى مثلها فى حالات لنظم عربية كاملة العضوية ، لا تسيطر على كامل
أراضيها فعليا ، أو تستعين بقواعد وقوات أجنبية ، وتلك حقائق مؤسفة ، لاتبرر
استثناء النظام السورى بالذات ، فوق أن الحديث عن القمع والدموية والديكتاتورية لا
محل له فى كيان كجامعة الدول العربية ، فقد يكون النظام السورى هو الأكثر دموية ،
لكن أغلب الحكومات العربية "فى الهم شرق" ، ثم نأتى إلى الأمر الأهم
فيما نظن ، وهو أن القطيعة الرسمية العربية مع نظام دمشق ، قد أخلت الساحة السورية
عموما من أى حضور أو نفوذ عربى ، هذا إذا استثنينا مقاولات تمويل بعض الجهات
لجماعات الإرهاب ، وقد جرت كل هذه التمويلات فى خدمة الأجانب الأمريكيين بالذات ،
وانتهينا إلى خرائط نفوذ على الأرض السورية ، كلها للأجانب القريبين والبعيدين بلا
نفس عربى خالص ، فالقوات التركية موجودة فى الشمال والشمال الغربى ، والقوات
الأمريكية تحمى "قسد" والوحدات الكردية فى الشمال الشرقى ، والقوات
الروسية مع الإيرانيين مسيطرة فى الغرب والجنوب والوسط وبعض الشرق السورى ،
والنظام حاضر فى ظل الحماية الروسية الإيرانية المزدوجة المتشاكسة أحيانا ، ويسيطر
صوريا على أكثر من سبعين بالمئة من مساحة سوريا الكلية ، ولا تبدو من إمكانية
قريبة لتغيير درامى فى القسمة الأمنية الأجنبية ، إلا إذا قررت أمريكا الانسحاب
مثلا ، كما فعلتها فى أفغانستان كليا ، أو جزئيا فى العراق المجاور ، بينما لا
يبدو الصدام فى "إدلب" بالشمال مستبعدا ، بحسب علاقات التفاهم الرجراج
الحرج بين روسيا وتركيا ، أو بحسب تغيرات واردة إلى حد ما فى الوضع التركى ، وكلها
سيناريوهات عسكرية محتملة ، لا تبدو الأطراف العربية مؤثرة فيها ، خصوصا مع
استدامة أحوال القطيعة الرسمية ، تماما كما لا تبدو الأطراف العربية ذات وزن فى حساب
تطورات السياسة ، والبحث عن حل سياسى لأزمة سوريا ، عبر صيغ القرار الدولى رقم 2254
أو غيره ، فقد توارت اجتماعات التفاوض فى "جنيف" و "الأستانة"
وغيرها ، وانتهت مفاوضات الاتفاق على دستور سورى جامع إلى التجميد ، ومن دون أى
دور عربى فعال ، برغم أن جماعات من المعارضين المتفاوضين تقيم فى عواصم عربية ،
وقد يحتمل أن عودة سوريا إلى مقعدها الرسمى ، ربما تلعب دورا أكبر فى انسياب
العلاقات العربية مع دمشق ، فوق ما توفره من فرص تواصل اقتصادى وتجارى وثقافى ، قد
تعيد للصوت العربى بعض إغراء الاستماع إليه فى دمشق ، وتزاحم الأصوات الأجنبية
الروسية والإيرانية الحاكمة هناك ، ويمكن لعمل عربى مشترك ، إن صحت النوايا ، أن
يلعب دورا لا تقدر عليه موسكو وطهران فى إعادة إعمار سوريا ، وفتح الطريق لعودة
آمنة لملايين من اللاجئين السوريين ، خصوصا مع عدم الممانعة الأمريكية الضمنية
البادية فى عبور خط الغاز والربط الكهربى ، وبما قد يؤدى إلى تغيير تدريجى تراكمى
فى الصورة ، يوفر على سوريا والسوريين خرابا مضافا فوق طاقة احتمال البشر .
تبقى إشارة فى محلها إلى الدور المصرى الظاهر
فيما يجرى ، وقيادته لحلف عمل عربى لإعادة سوريا ، والعودة إلى سوريا ، فلم يحدث
أبدا ، أن تورطت مصر فى جريرة إسالة دم سورى واحد ، وكان الموقف المصرى الرسمى
غالبا ، هو البحث عن حل سياسى ، وحفظ ما تبقى من هياكل الدولة السورية ، والحرص
على استقرار وسيادة سوريا ، ووحدة أراضيها وشعبها ، ولم تنقطع العلاقات الرسمية
بين القاهرة ودمشق فى أى وقت ، حتى فى فترة حكم الإخوان قصيرة العمر ، وكانت أسباب
التواصل دائما "فوق سياسية" لو
صح التعبير ، فقد كانت مصر وسوريا "دولة واحدة" لأكثر من ثلاث سنوات
ونصف السنة أواخر خمسينيات القرن العشرين وأوائل ستينياته الفوارة ، ولم تكن هذه
الوحدة هى الأولى فى بابها التاريخى ، فما قد لا يعرفه الكثيرون ، أن مصر و"سوريا
الكبرى" كانتا ولاية واحدة زمن تقلبات وتداعى الخلافة العباسية ، ولمئات
السنين الممتدة من حكم أحمد بن طولون لمصر حتى الغزو العثمانى ، وقتها كانت "سوريا
الكبرى" تضم سوريا الحالية ولبنان وفلسطين والأردن ، وكانت وحدة مصر وسوريا
المتصلة طويلا ، هى سند الأمة وسلاحها فى دفع وهزيمة حملات التتار والصليبيين ،
تماما كما كانت وحدة عمل جيوش مصر وسوريا فى حرب أكتوبر المجيدة 1973 ، وتماما كما كانت مصر موئلا
تلقائيا مفضلا لهجرات الشوام ، وهروبهم من الجور العثمانى ، وعلى موجات تتابعت
أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ، ولعب كثير من المهاجرين الشوام
أدوارا تأسيسية كبرى فى الثقافة والصحافة والفن المصرى ، وتزايد الاندماج الشعبى
مع تجربة الوحدة زمن عبد الناصر ، وصولا إلى لجوء مئات الآلاف من السوريين إلى مصر
فى العشر سنوات الأخيرة ، وحيث لا يقيم السوريون فى ملاجئ ولا فى مخيمات لا تعرفها
مصر ، ويندمجون بسلاسة مدهشة فى الحياة المصرية ، ويحظون بمحبة لا مثيل لها ،
وبتقدير مستحق من أغلب المصريين لنشاطهم وكفاءتهم التجارية بالذات ، فقد ترسخت
فكرة "الشعب الواحد" فى أعماق ووجدان المصريين والسوريين ، ولم تمنع
انقلابات السياسة من اتصال الشعور الفريد ، وأثره المباشر حتى على السياسة الرسمية
المصرية ، التى تسعى بدأب لإعادة سوريا إلى مقعدها فى الجامعة العربية ، ولإعادة
العرب إلى سوريا الحبيبة ، بقطع النظر عن اختلافات السياسة ومآسيها .
*كاتب
المقال
كاتب
صحفى مصرى
رئيس تحرير
جريدة
صوت الأمة
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق