بعد شهرٍ تقريباً ... صاحبت حرارتي المرتفعة بعض الأعراض النفسية التي انتابتني بعدئذٍ ، والتي ولّدت شكوكاً لدى والديّ بسلامة عقلي ، وإصابتي بالجنون .
فخلال
تلك الفترة ... كانت هيئتي وتصرفاتي اليومية
تثير القلق لدى أهلي الذين كانوا لا يتورّعون عن إبداء شكوكهم سرّاً وعلانية ، إذ كانوا يرجّحون أنّ طائفاً من الجنون قد
مسّني ، ولم يفصل عن يقينهم هذا سوى أن يتأكدوا من ذلك بدليل جليّ .
إذ
أصبحتُ أشعثَ الشعر وطويله ، كثَ اللحية ، غير مهندَم بملابسي ، فضلاً عن أنها جدّ
ممزقة ، غير آبهٍ بشيء من ذلك القبيل ، مغايراً لِمَا كنتُ عليه في السابق .
وإضافة
إلى ملبسي ، كان مأكلي ومشربي كذلك .
إذ لم
أكن أطعم إلا القليل ، حتى إني أفوّّت طعام وجبة أو وجبتين على معدتي كل يوم ، ولا
أشرب إلا ما يسد رمقي ،
رغماً
عني ، لأني لا أشعر بشهية الأكل .
كنتُ
حينئذٍ قليل النوم ، سارح الفكر ، صامتاً على كل حال ، وإن تكلمتُ فإنما أكلّم
ليلى في نفسي فحسب .
ثم إني
كنتُ لا أنفكّ عن كتابة رسائلي لمعشوقتي ليلى ، الواحدة تلو الأخرى ، دون أن أشعر
بقليلِ كللٍ ، ولا بطفيفِ مَللِ ، إذ كان يُخيَّل إليّ أني أرسلها عن طريق هدهدٍ
خاص يلقي كتابي إليها كل يوم وكل ليلة ، كما كان يفعل هدهد سليمان عليه السلام لبلقيس ملكة سبأ .
وفي
خضمّ تلك الأمور التي أحاطتني ، لم أكن أعبأ بقلق والديّ عليّ ، بل لم أكن أدري
بما يرون مني ، ولا ما يسمعونه .
غير أن
تلك الساعة كانت هي الحد الفاصل بين شكوكِ أبويَّ ويقينِهم .
ففي تلك
الساعة ... دخلت ليلى عليّ وأنا في غرفتي دون سابق إنذار ودون أن تطرق الباب ، في
اللحظة التي كنتُ أتمنى زيارتها لي بفارغ الصبر .
وحين
رأيتها ... قمتُ لها إجلالاً ، وانحنيتُ لها إكباراً ، فمثل ليلى يجب على مثلي أن
يقوم وينحني ، وأن يستقبلها كما يستقبل الأمراء نظائرهم .
وكنت أغضّ البصر عنها كما يغضّ العامة أبصارَهم عن
أميرتهم حين تجوز بين الصفوف ، فأجلستها
قبالتي كما يجلس الوافدون ، ورحتُ أرحب بها ، وأسألها عن حالها ، وأسترق منها
نظرات العشق التي أذابتني بين يديها .
وكما هي
عادة المستقبِلين ... أعددت لها طعاماً وشراباً خاصينِ بأرباب الجلال والجمال ،
ولم أسبقها في لقمةٍ حتى تمدّ يدها هي ، ولم أشرب من كأس حتى تشرب هي .
وتوالت
أحاديثنا ... وتطرقنا الى عشق لم يُخبَر به أحد ، ولم يُبتلَ به أحد بمثل ما ابتلِينا
به نحن
بعدها
توالت ضحكاتنا وقهقهاتنا التي كانت ترجمة حية وصادقة لأعيننا ، وما يجول في أفئدتنا
وفي ذلك
الوقت ... ونحن في أشد حالاتِنا رومانسيةً ، وساعاتِنا حميميةً ... دخل والداي
بغتةً الى الغرفة وكأنهما كانا يراقبانني عن كثب ، فيشاهدان ما أفعل ، ويسمعان ما
أقول .
لم
تستطع أمي أن تكتم صرخة عالية أطلقتها ، وسقط أبي على ركبتيه جاثياً وهو ينوء
برقبته من الذهول والحيرة . وحين رأيتُ ذلك المشهد الذي هما فيه ، أشفقتُ عليهما
جداً لما رأيتُ ما بهما من شدَهٍ ، فسألتهما أن يدنوا منا ويسلّما على ليلى التي طويَت
القفار لأجلي ، لكني حينها أشفقتُ على نفسي أضعافاً مضاعفة ، إذ عرفتُ أن لا وجود
لليلى معي في غرفتي ، وإنما كان وهماً محضاً بدأتُ أعيشه من فرط ولَهي بها ،
وبالقدر الذي حزنتُ فيه على والديّ ، كنتُ
بنفس القدر قد تيقنتُ أنني قد جننتُ لا محالة .
إحتضنتني
أمي بكل قوة ، وهي تذرف الدموع بلا توقف ، وأبي كان يعيش حالة انهيار لا مثيل لها
بسبب جنون ابنه الوحيد الذي انتظره لسنواتٍ كي يشبّ بين أبناء المحلة ، فيزفّه الى
عروسه بيديه .
ولقد
رأيته يلطم على رأسه وهو يقول :- الآن قد
تيقنّا من جنون يوسف .
لا
أستطيع أن أصف لكم -- أيها السادة -- تلك الساعة التي تيقّن فيها والداي من جنوني
، وهما يحاولان أخذي الى أحد الأطباء النفسيين ... كما لا يسعني أن أصف لكم أيضاً
حالة الخوف التي اعترتني من أن قد أساق بعد ذلك الى مشفى المجانين ، فتنقطع بي
السبل عن رؤية معشوقتي الأبدية ليلى ، لاسيّما أن والديّ وجدوا رسائلي تحت وسادتي
، وهي التي ظننتُ أني قد أرسلتها الى ليلاي بأجنحة الطير الساربة كل نهار وليلة . فأجهشت
أمي بالبكاء ، وعلا نحيبها وهي تقرأ إحدى تلك الرسائل على مسمع أبي الذي لم يعد
يعرف طريقاً للخلاص مما أنا وهو فيه :-
(أميرتي
النبيلة ...
ولقد
أرسلتُ إليك ِ رسلاً تترى ...
فمنهم
من أوجزَ فأبلَغ ، ومنهم من اجتهدَ ففصَّل ،
ومنهم
من ألقى كتابي وتولّى ، ومنهم من جثا على ركبتيه وانتظر .
فما كان
من أمركِ إلّا أن قابلتِهم بالصمت ، وازدريتِهم باللّمز ، وكأنّي ما أرسلتُهم
إليكِ ، ولا كتباً ألقيتُ عليكِ ، ولا
بأحرفي إيّاكِ عنيتُ ، فلمّا طال بقاؤهم بين يديكِ من دون طائل ، وزاد مكوثهم في
مجلسكِ من غير نائل ، همّوا بالعودة مسرعين ، يخبّون الصحراء خبّاً ،
ويستهدون بأنجمها شرقاً وغرباً ، فلما علمتُ بقدومهم ، استقبلتُهم على أبواب
مدينتي شوق الظامئ لقطرةِ مطر ، تعجّلاً
منّي لمعرفة جوابكِ ، وأمَلاً عندي في ريحِ ثيابكِ ، ولقد أذهلَني أنّهم
جميعاً عادوا خالي الوِفاض .
والسلام
...)
في
اليوم التالي كان لنا موعد ضربه لي أبي مع طبيب نفسي حاذق في شارع (المغرب) في
بغداد .
إنتظرتُ
مع أمي في صالة العيادة ، ودخل أبي بمفرده غرفة الطبيب ، وقد أخبره عني كل شيء ،
على أملٍ منه أن يمنحني الطبيب جرعة دواء ، تعيد لي سابق عقلي الذي ضاع .
بعد
فترة قصيرة ... أدخلوني على الطبيب .. فأجلسني هو على السرير الخاص بالمريض بكل
احترام ، وجلس قبالتي ...
قال لي
الطبيب :- إذن ... أنت تعشق ليلى ... فدعني أسألك أيها العاشق ، لماذا عشقتها الى هذه الدرجة من الهيام ؟
قلت :- ياسيدي
... لأنها ليلى ... ومثل ليلى لا تتكرر في دهرٍ مرتين .
قال :- ألم يكن بالإمكان أن تعشق امراةً غيرها ؟
لاسيّما أنها هجرتكَ ياولدي .
قلت :- ياسيدي ... إن ليلى هي جميع النساء ، فلا امرأة
تكون دون أن يكون فيها من سحرها شيء ، ولا لها أن تطيب دون أن يكون لها من عطرها
عبَق .
قال :- وهل
تعشقكَ هي ؟
قلت :- لم
يعد مهماً أن تعشقني هي أو لا ...
نعم
ياسيدي ... كنتُ في ما مضى أسأل نفسي وأصحاب الحكمة والخبرة عن عشقها لي ، وكنتُ
أمضي سنواتي بالحيرة والخوف ، إذ كنتُ
أفتش عن برهان يريحني ، ويطيّب خاطري ، ولم أحصل على جواب مقنع ، ، حتى تغلغل عشقها في دمي ، ونفذ في كل جزيئاتي
، فلم أعد قادراً على أن أتقي عشقها ، ولا أن أتنحى عنه قيد أنملة .
قال :- يبدو
أنك عاشق لا كغيركَ من الرجال ، دفقتَ عشقاً .
ولا هي
كغيرها من النساء تجلّت حسناً .
فكما
يبرع الصائغ في صياغة قلادةٍ ما ، فقد برعت الحياةُ في جمالها ، وأبدعت في عشقكَ .
قلت :- صدقتَ
ياسيدي ، لقد خامرت أزهار الربيع قلبها ،
وعاشر نور القمر وجهها ، وصاحبت
قطرات المطر روحها ، فطهرت هي بأشعة الشمس ، حتى إذا بلغت مبلغها من النضج ،
إشرأبّ لها عنقي رجاءَ الوصول الى ذلك النبل والطهر الذي فيها .
قال :- إن
الأشواق لترتوي من حسنها ، فتنبت في قلبك النبيل ، فإذا سقطت قطرة من تلك الأشواق في نبعٍ ما ،
إنفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، من حيث تدري ومن حيث لا تدري .
قلت : -
وكيف لا يكون ذلك ياسيدي ...؟
فليلى
لا تغيب عن ناظريّ ، فأينما أولِّ وجهي في هذا الفضاء الوسيع فثمّةَ تجليات لها
فيه .
قال
متعجباً : - تجليات لها ؟
قلت :- نعم
... تجلّياتها في كل زاوية من زوايا هذا العالم ... في سمائه ونجومها ، في شجره
وأوراقها ، في أبحره وأمواجها، في أرضه وباطنها ، في ناره وأوارها ، في النفس
وأسرارها ، والطيور وأعشاشها ، والعصافير وزقزقاتها ، بل هي في كل حجرٍ ومدر .
قال :- فأين تجد وجهها ؟
قلت :- إني
أنظر الى السماء فأجدها مرآة لوجهها ، وأرى القمر تجلٍّياً لنور ذلك الوجه ، حتى
كأن النجوم قد تناثرت كحبات لؤلؤ على جيدها فانعكست أنوارها على جميع الكائنات وهي ترى ذلك الانعكاس بكل تجلٍّ .
قال :- وأين
تجد شفتيها ؟
قلت:- أراها
متجلّية في ورود الأقحوان بألوانها
المتعددة .
قال :- وأين
تجد أجفانها؟
قلت :- متجلّية
في أزهار البنفسج .
قال :- ووجنتيها
؟
قلت:- متجلّيةً
في حمرة الشفق .
قال :- وخصلات
شعرها ؟
قلت :- أراها
متجلّية في سنابل القمح الصفراء .
قال :- وبراءتها
؟
قلت :- في
أزهار الياسمين البيضاء .
قال :- ومَيسها
؟
قلت:- متجلّياً
في الظباء .
قال :- وغنجها
؟
قلت :- متجلّياً
في تبختر الطاووس .
قال :- وأين
تجد نرجسيتها ؟
قلت :- متجلّيةً
في أزهار النرجس .
قال :- إذن
شغلتكَ ليلى بأثيرها عن كل الآفاق ؟
قلت :- نعم
ياسيدي ... فما رأيتُ الشمس إلا تجلّياً لروحها المتوهجة ، وما وجدتُ نسيمَ الهواء
إلا تجلّياً لشفافيتها ،
والمطرَ
إلا تجلّياً لندى شفتيها ، والسحاب إلا تجلّياً لما تضمره من خير للناس ومحبة ، ثم
إن جريان الأنهار هو الآخر تجلٍّ لهدوئها .
قال:- وماذا
جنيتَ من هذه التجلّيات أنتَ ؟
قلت :- رأيتُ
وجهها في الفجر ، فأخذتُ منه بريقاً ما لا
يخبو فيه فؤادي ، ووجدتُ شبابها في الربيع الأخضر ، وقد أخذتُ منه وهجاً ما لا
أشيخ به أبداً ، وقد حوّطني عشقها من كل جانب فمنحتني هي منه ما أروي به ذاتي
مادمتُ حياً ، فكأنّ النار المضطرمة انعكاس لعشقها .
ولا
أكذبكَ ياسيدي ... لو أخبرتكَ أن الذهب المصفى قد تكوّنَ من معدنها الأصيل ،
والفضة قد صيغت من نقائها ، حتى هالني من أمرها مالم أتمكن من تفسير ولا تأويل
مفاتنها .
قال : -
حسبكَ ياولدي ... فقد أخذت ليلى منك كل مأخذٍ ،
واستوت على فؤادك كالقصاب حين يستوي على جسد ذبيحته لينحرها وهي مستسلمة
لسكّينه .
قلت : -
نعم ياسيدي ، لقد استوت ليلى على قلبي وكل جوارحي ، واستوت على روحي وجسدي ، فلا
حيلة لي منها ، ولا طاقة لي عنها .
قال :- أي
فؤاد ذلك الذي تضمه بين أضلاعكَ حتى أهالكَ الى جمرة من الفحم ناطقة ؟
قلت :
- لا مناص لي من الفرار .
قال :- فمتى
تهجع ياولدي ؟
قلت :- إني
أجد هجيعي من الخيالات المستحيلة عليّ ، خلاف أولئك العشاق الذين يجدون هجيعهم خيالاتٍ ممكنة ، حتى أصبحتُ وأمسيتُ لا أرى سوى ليلى ،
فلا سِنة تأخذني حتى يزورني طيفها ، ولا كرى ينتابني حتى يفيقني صوتها ، فما لي من
نصيب من الرقاد ، سوى الأرق والسهاد ، حتى أُحِلْتُ الى إهابٍ متفحم لا يضمّ إلا
أضلاعاً متجمرة .
قال :- ياولدي
... ليتني أملك بساط الريح ، فأستقلّه ، فيمضي بي سريعاً كالبرق الى ليلى ، فآتي
بها إليك ، تنعم بما فيها من جمال ،
وتتلذذ منها بالأجمل .
قلت :- إنها
عندي مثل قطعة ماسٍ ، لا شيءَ فيها أجمل من شيء .
قال :- أهي رسالتك الفريدة العارفة بأسرار كلماتكَ ؟
قلت :- نعم
... فما رسائلي المكتوبة تلك إلا مجرد دواة تُخَط في قرطاس .
قال :- فما أظنها -- ياولدي -- إلا أنها قد حكمت على قلبكَ بالشقاء ما حيِيَ ، وعقلكَ
بالجنون مادام ، وجسدكَ بالفناء مابقيَ .
0 comments:
إرسال تعليق