إنّ التطور الزمني الحضاري والتقني في ظلِّ التواصل العالمي عبر شبكات الأنترنت غيّر الكثير من الأشياء والطبائع والسلوكيات الاجتماعية، والفنية الثقافية، ومنها المكانة الجديدة للأدب والشعر بالذات، الذي ساهم بشكل فاعل بنشـر وعي انساني تارة، وثورة غاضبة ضد المعاناة الواضحة التي تعانيها الانسانية في كثير من بلدان العالم، لذا لم تتجمد اللغات الحية وتقف موقف المتفرج بما تملكه من امكانيات بيانية لا حدود لها، فساهم أهلها بصنع تاريخ جديد لهم عبر الشعر، والقصة القصيرة، والرواية، وأجناس أدبية أخرى، التي وصلت الى العالمية، لاسيما الكتاب العرب، والبعض ممن يعانون من محدودية النشر على أوسع نطاق. وهنا لم يتخلف الشاعر العراقي حين تصدّى لرصد ما يراه يومياً، وكتبه شعراً، لعلَّ فيه بعض جرعة من مسكّن له ولغيره، يتضح ذلك منه جليّاً في القصائد الكثيرة المنشورة يومياً على صفحات الفيسبوك، أو الصحف والمجلات والكتب، كما في قصيدة للشاعر أمير الحلاج "لعبة السوط" من مجموعة "الدائرة خارج الشرنقة" الصادرة عن دار ميزوبوتاميا عام 2016:
" في الطريق المتوّج بالزحام
أقزامٌ
قبالته انحناءً يسطعون
فيتلاشى حامل السوط
كلما قصُرت،
أو تلاشت المسافة،
هكذا الخوف
حين يستوطن الذاكرة
بلعبته يصنع وظيفة الحرباء." ص5
لابد من التأكيد هنا على دور اللغة البنائي التي جاءت بها قصائد الشعراء التجديديين لأنها: " مرآة المجتمع، تعكس صيغ الأخذ والعطاء، بغية معرفة منطق الإيحاء اللفظي لظاهرة الفهم، وفي الوقت ذاته هي تلك الاداة التي يتسلح بها الفرد للدفاع عن نفسه، وإيصال فكرته بدافع مشجر الاحساس، لإدراك الفهم والتفكير بالإقدام على قبوله معاني التعبير بشكل متناسق كأصداء ضربات السيوف حين تتمحور الالفاظ بمدلول المعاني المُعتمدة بعامل الإدراك العقلي، وبما يعيه الانسان من خلال محفزات الادراك الحسـي، بغية الفهم والتفاهم لاستدراج ما ينبغي فعله وايصاله بالسبل التي يعتمدها كل فرد وبأية لغة كانت" كما يقول ميخائيل ممو، في مقاله عن دور اللغة و أهميتها في حياة الشعوب المنشور في موقع إيلاف الكتروني بتاريخ/28/3/2016.
وبمعنى أدق، إنَّ الشاعر هنا (أي شاعر) وجد من الواجب الحتمي عليه كناقد متابع، ومؤرخ لمسيرة وطن وحياة، أضافة لما يجب على الناقد المشتغل بالتحليل؛ عليهما وعي أهمية دور اللغة المفهومة كعامل متفاعل مع بقية العوامل المساعدة الأخرى وأدراك ذلك، وإنها ليست اصدار لساني أو دلالة رمزية حركية فقط، ومعرفة أيضاً أنَّ اللغة هي وسيلة تبادلية اتصالية لمشاعر عامة تحيط وتغلف جو الاتصال العام المواجهي المحدود، أو الجماهيري الواسع بصياغات متعددة برزت في الوقت الحاضر كدفعة انتقلت بالأدب التجديدي الى السمو والرفعة والمكانة العالية بين التعبير والتفاهم، ورسم الصور الحية اليومية المتجددة بكل أشكالها المحزنة والمفرحة، الساخرة أو الناقدة للحالات والظواهر البـشرية، على جميع المستويات والأصعدة، وأهمها المعرفية؛ لأن اللغة - مثلما يضيف ممو- في الواقع هي من قادت الثقافة الى أن تصبح "ظاهرة توعوية تنجم بين بني البشـر، وهي مصدرها ونبع وجودها، تخلقها مبادئ التدوين والمشافهة التي عمادها وسائل الاعلام وما يبرزه الفكر التنويري من نتاجات. لهذا نجد بأن أي علم من العلوم لا يخلو من سمة الثقافة".
ما كتبه الشاعر أمير الحلاج في قصيدته هذه مع بقية قصائد الديوان، اضافة لما كتبه غيره من الشعراء، يمثل تصويراً لحالة واقعية تتجدد يومياً ربما في الكثير من بقاع الأرض، شارك بها كمساهم إنساني، سواء عن طريق الرمز أو الكناية وغيرها من صور البلاغة الفنية التعبيرية.
كلُّ ذلك لماذا؟ ومن أجل من؟
لأنَّ كل ما ينتج من أي كاتب (ناصّ أو ناقد)، فنان تشكيلي، أو مسرحي وغيرهم، هم جميعاً لديهم رسائل اعلامية اتصالية لها هدف وغاية لمتلقٍ أو مجموعة متلقين ضمن بقعة مكانية، أو مساحات كثيرة أخرى، والشعراء في خضم هذا الجو المعرفي الاتصالي ليسوا ببعيدين عن ذلك كله أيضاً.
لذا نرى يومياً كيف يساهم جيل جديد من الشباب المجددين وأكبر من الشباب أيضاً في صنع أدبٍ نقيّ، عربيّ ـ عالمي، وثقافة متوازنة مقبولة بعيداً عن الروح الغامضة، دخولاً في البناء الانساني عبر البناء اللغوي الفذ، من أجل سعادة البشـر في كل مكان بالاشتغال عبر لغتهم العربية، مستفيدين من مساحتها الواسعة جداً، والعمق التراثي، والعراقة الممتدة آلاف السنين عسى أن يؤسسوا لهم مدرسة تجديدية خاصة ترفد الواقع اليومي بكل ألوان الجمال البلاغي؛ الأمر الذي يدعو المهتمين بالدراسات النقدية متابعة ذلك، وملاحقة غزارة الانتاج الأدبي (الشعر والنثر)، وكشف كل التجليات تفاعلياً حقيقياً، وتسديد خطى السائرين عليه، وليس تهميشهم أو الوقوف بوجوههم وصدهم عن ممارسة الأبداع الجديد، وبذا يمكن القول أن الزمن الحالي هو الزمن التجديدي الحقيقي الفاعل؛ التأثيري بالحداثة التجديدية التي فتحت الأبواب لإنتاج الإبداع.
إنّ المراحل التي تحوَّل بها النقد الأدبي بشكل مختلف حين كان يدرس المؤلف ويركز عليه أول الأمر، ثم الى النص، ثم الى القارئ؛ هو ما ساعد في ظهور المدارس والمناهج النقدية الواحدة تلو الأخرى، فتعددت بتعدد الرؤى والمنظِّرين، وهذا ما يدعونا اليوم الى تحوُّل نقدي آخر جديد، يدرس جميع القوى الفاعلة في تكامل نصٍّ أو أي (انبعاث) جاء للحياة، يبتغي شيئاً ما، عبر الدراسة والتحليل والفهم العميق لمدلولات ذلك الانتاج، وصوره الخارجية والداخلية؛ الملونة ظاهراً، والمضمرة بين طيات الكلمات والسطور، أو تمازج الألوان فيما بينها، وطبيعة الأجواء التي تسببت بوجود الانتاج الابداعي والمعرفي، ومدى تأثير كل ذلك على المجتمع العام، والماهيّة التغييرية اللاحقة في تنوع طبيعة التلقي، ليصبح الشعر وغيره في خانة جديدة فارقت في الكثير من ديباجتها ما ظلّ عليه الكثير من الشعراء وهم يدورون في منتجعات نمطية شعرية واحدة كغرض واحد فقط لا بديل عنه، والذي لا يعني بالضرورة القصوى أنه بتفرعاته الوصفية الكثيرة هو التجديد اللغوي والفني والواقعي فحسب كالغزل، أو الوصف، أو رسم صور التاريخ مثلا بشخوصه المعنوية فقط، أو الاستدلالية كمرشد، رغم أن بعضهم كتبوا القليل في الغزل، لكن معه أيضاً توقفوا عند محطات مختلفة، كي لا تتغاير وتتباين مع ما لهم من أهداف تنويرية وفكرية بقصد انشاء رسالة منشودة.
*المصدر: ( كتاب التجديدية في الشعر العراقي)
للكاتب والناقد العراقى سعد الساعدى
جميع الحقوق محفوظة للكاتب
0 comments:
إرسال تعليق