من مقتضيات الشعر هي (الصبابة والهوى) ، فحين تصلح السليقة وتتحرك القريحة يولد الابداع ، وينشأ شعراء جيل يهتمون كثيراً بحقول الصبابة التي يقضونها وتتفتح أبواب الخواطر في بالهم يعيشون الصبا ، لا لأنهم يتصابون وانما لأنهم عرفوا الغزل فأحلوا الأجادة فيه وانْ وقع اللوم عليهم ، فالغزل هو الارث الذي لا تلاك معانيه ولا تُرَثّ أوصافه ولا تُزجى بضاعته .
عند هذا الميزان ينضج الغزل عند شاعرنا جعفر الخطاط ، فاننا اذ نفتش في صوره عند كل قصيدة فانه يطول بنا الجهد لأننا نجد أن الاوصاف لا تنتهي عند حدّ ، فما بين الغروب الذي يكتب معشوقته رسائل مجهولة العنوان الى متاهة يرسمها سراب وقد عصفت بها الريح الى المرايا والملامح والشيب .
الى ذلك الربيع الذي قتله فيه عواذله نجد تلك المنظومة الرائعة في حسنائه وملهمة أوجاعه حين نجدها أنها الألْيَق باستقباله لها بين اصطبار وأسىً في خيال هو الأفطن ، وتميز هو الأصفى من دون ان تشوبه الصنعة المتكلفة بما يرقى عنده التناسب المحكم والاسهاب البالغ وبما لا يشبه اهل التقليد في شعر الغزل الذي يؤدي الى تعطيل المدارك والحواس.
مازال يكتبك الغروب رسائلاً .... مجهولة العنوان بين رسائلي
للآن يرسمني السراب متاهة .... عصفت بها ريح الخريف القاحلِ
وفي اللحظة التي يكون فيها (خطاطنا) مجنوناً ومعتلاً فانه يصور لنا الاحساس الكثيف بشاعرية حقيقية ، فولدت عنده الصور الجميلة الخصبة والتي تشع في كل اتجاه كلما أوغلنا فيها
أمسيت مجنوناً وعقلي اعتلا وفقدت ذاك توازني فاختلا
ان مثل هذا النوع من الغزل يتطلب احاطة بثقافة كبيرة ومعرفة بالشعر وخبرة بتوقيع الألحان على المعاني ومطلعاً على أناشيدها ، بصيراً بالأطوار النفسية اضافة الى الاحتكام بالقلب .
فهو بعد ذلك يعترف بهزيمته عند عيون ذباحةٍ رموشها لأنه احتكم الى قلبه رغم ما توافرت فيه شروط البسالة والشجاعة فهو يجد نفسه في أعضل المشكلات التي تفرغ هو لدرسها سنيّ عمره , بيد أن التفوق في ميدان الفروسية لا يفيد التفوق على جفون فتاكة ولواحظ تأسره بجرأة التحديق والافصاح :-
أعلنت في هذي العيون هزيمتي مستسلماً في رمشها الذباحِ
والخطاط يعرف نفسه على أنه رجل أخصائي في الشعر وهو الذي قضى عمره في فنه باحثاً منتقياً فاذا عرضت عليه مسألة فانه يصيب ولا يخطئ ويبرم ولا ينتقض.
وحري بنا أن نعلم مبلغ عصاميته في الشعر حتى لم يغفله النقاد عن امضاء اسمه في دراساتهم حتى أصبح ذلك شرطاً ضرورياً لنجاحات دراساتهم تلك .
ولفرط برّ شاعرنا بقلبه وحرصه على اختياره لأي معشوق صادق، فإنه يجتهد في خشيته عليه من ان يرقه هيام ويتعلق بهوىً لأن ذلك مما يجرحه جرحاً عميقاً في حشاه لا يضمد لأنه يحس ان حوراء واحدة كافية على ان يحترق بنارها بقية عمره لا سيما انها امرأة مجهولة الباب ، كتومة الأسرار :-
فمشاعري يحرى وقلبكِ بابها واذا جفوتَ فأي باب أطرقُ
فانثى شاعرنا ليست كغيرها من الاناث فهي لا تتواجد الا في قصور الألف ليلة وليلة , وهو لا يرى نفسه الا حائراً أمامها لا يفقه شيئاً سوى الغيرة التي أعمت كيانه بأجمعه وغيرته تلك هي مما لا يفهم الجمال الا شاعر جميل بأريحيةٍ فنية أدبيةٍ يقنع قارئه بتلك المشاعر التي تخالج فؤاده ، وهي شكوى يصنفها المغرمون بأخيلة أبانَها لقارئه دون مبالغات يبتكرها أمامهم ، أو تزويقات يبيعها عليهم أو ريشة يروّجها كبضاعة مزجاة :-
كيف لا أكتوي لظاكِ وكلّي مستميتٌ بعشقه غيّارُ
أنه ينادي بأعلى صوته كمن ينادي في قوارع الطرقات يطلب ان يدله أحد على حسنائه التي ترتشف من الماء العذب وتغرف منه غرفة الحسن :-
وانا الشاعر الذي تاه منه بين حرفين عقله والقرارُ
وهي اذ ذاك تكون المعيار لمعنى وجوده ولما يحسه في حياته الروحية والفكرية .
لقد شاء الله أن يفيض على شاعرنا من الجمال والنبل ما جعله متقناٌ لفنه بفصاحة تامة وطبقة راجحة , فهو اذ يصور المظهر بروحه الجميلة فإنه يعيش أعماقاً تجيش في ضميره , تتدافع تياراتها , وتختلف متجهاتها , وتتجاوب أصواتها , فحياته بفنّه , يعيشه بكلّه, ويتحسس كل خطرة من خطراته , تتضاعف تلك الخطرات حيناً وهي موقنة , وتكرر حيناً وهي شاكّة .
وتلك إفاضة اخرى من ينابيع غرامه الذي لا ينتهي , تلك الينابيع الموصولة بالجدّ والرضا تدخل ذلك العالم الرحب ويحس مالا يحسه سواه وكأنه نفوس اجتمعت بنفس واحدة أحالته الذكريات عصفاً وأصبح خائر القوى لا يلتفت الى شيء سوى تلك الرسائل التي يشم عطرها فلم تلتبس عليه موارد المعرفة ولم يلتفت الى مرآته التي تنبىء عن حاله ومصيره الذي صار اليه بعد وجع مرَّ عليه وهجرٍ نما في حشاشته , وهو يتوسل بأنثاه بنفس خاوية , فقد نهش الضياع ملامحه وباعته الغربة الى مهازل الشيب وسراب الكهولة حيث خيال ثاوٍ , وبصيص أمل خاوٍ , فهو يقول :-
حتام يتبعنى ســــراب كهولتي حتام يجعلني انتظارك مبهما
حتام , أنّى , كيف أين الى متى ؟ أتوسل المرآة أن تتكلــــما
وحين يتطفل اللئام على مائدته الخاصة نرى عجباً , فلم يعد ذاك اللهوف الأوليّ , فقد قرر تصفية الحساب مع معشوقته فيكفّ عن شغفه وهواه , مدبراً عنها , عاكفاً على ممارسة اللامبالاة وطيِّ البريد الذي أرسلتها اليه بدموع الندم الى سلة المهملات .
فهو يقول :-
قررتُ تصفية الحساب لحبنا وأكفُّ عن شغف الهوى وتذلّلي
ويستمر في تدثره بِبُردة المجروح من معشوقة طالما أوجعته بأنواع النوى وطالما سخرت منه وهزئت من لهفته وتوسله فعفا عنها حليماً مسامحاً , لكن الأثقال والهموم يمكن للعاشق أن يتحمل عبئها إلا الغدر فهو عبء ثقيل قادرٌ على فضّ بكارة النسيان لشاعرنا ، وقادرٌ على أن يقول قولته الأليمة (لستِ لي) حين تطرق باب الرجوع الى أحضانه , فهو يقول في واحدة من أجمل ما قاله :-
الغدر فضّ بكارة النسيان بي
لا تطرقي باب الرجوعِ ..
0 comments:
إرسال تعليق