لقد توفيتُ منذ قليل ولا اعرف كيف انتقلت لهذا العالم بتلك السرعة ، فلم أحس بشيء سوى اني أطير في الهواء بعدها سمعت دوي انفجارٍ هائل ودخان كثيف ونار تتصاعد وصراخ أصدقائي وهم يستنجدون بالإسعاف لكي تسرع ،أحسست بثقل في جسدي وبرودة كأني أسبح في بركة ماء قرمزي اللون والكل من حولي يحاول إنقاذي ..إنقاذي ؟؟ ممن ؟؟
فأنا مرتاح مع مجموعة من الملائكة و آخرين لا أعرف من هم يلبسون جلابيب بيض مخضبة بالحناء، توسلتُ بهم أن يعيدوني إلى الحياة من أجل زوجتي التي لا تزال صغيرة و ولدي الذي لم ير نور الحياة بعد، ولكن أتتني الإجابة: بأني قد استشهدت دفاعاً عن وطني ولا رجعة لي.
لقد كانت زوجتي حاملاً في أشهرها الأولى، مرت عدة دقائق أخرى جاء أحد الملائكة يحمل شيئاً يشبه شاشة تلفاز، أخبرني أن التوقيت هنا يختلف كثيراً، الدقائق هنا تعادل الكثير من الأيام هناك، قال: تستطيع أن تطمئن عليهم من هنا.
قام بتشغيل الشاشة، فظهرت مقاطع فيديو منفصلة ، كان أول مقطع لزوجتي تحمل طفلاً صغيراً، الصورة كانت مسرّعة جداً، الزمن كان يتغير سنوات في المقاطع لكل دقيقة تمضي ، رأيت كبار الضباط وقيادات الدولة والمسئولين ينعمون ويعيشون برفاهية لم احلم بمثلها ولم أرها الا في الجنة ، ورأيت زوجتي وكم كانت تتعذب كلما ذهبت لإكمال إجراءات اعتباري شهيدا وتجاهد لكي تحصل على قطعة ارض مكافأة الشهادة .
رأيت كم كانت الحياة صعبة وقاسية وحزينة لا يكسرها إلا فرحي بابني الذي يكبر و يكبر، كل شيء يتغير، استطاعت زوجتي أخيرا أن تحصل على راتبي التقاعدي، دخل ابني المدرسة، تزوج إخوتي الواحد تلو الآخر، واستغربت أنني رأيتهم جميعاً إلا أمي، أصبح للجميع حياته الخاصة.
مرت الكثير من الحوادث، و في زحمة الحركة والصور المشوّشة، لاحظت شيئاً ثابتاً في الخلف، يبدو كالظل الأسود، مرت دقائق كثيرة تعادل في الحقيقة سنوات كثيرة ، ولا يزال الظل ذاته في جميع الصور ، كانت اسمع صوت هذا الظل يبكي فأبكي معه ، ومرت سنوات والظل يصغر و يخفت، خمسة عشر عاماً ولازال الظل يبكي فيبكيني.
ناديت على أحد الملائكة، توسّلته أن يقرّبه لي حتى أراه جيداً، لقد كان ملاكاً عطوفاً فأعاد لي عرض المشهد بذات التوقيت الأرضي في وقت استشهادي ، كنت لا أزال هناك قابعاً في تابوتي الخشبي الملفوف بالعلم الوطني، والناس من حولي في وضع هستيري.
ورأيت أخيرا هذا الظل ولم يكن سوى أمي وهي جاثية فوق التابوت صامته لاتبكي، لم تحتمل الدنيا بعدي فلحقت بي، ماتت منذ أن سمعت خبر استشهادي، وأجلت ميتتها حتى تحتضن التابوت وتتخضب بدمي ، لنموت معاً وندفن في قبراً واحد .
0 comments:
إرسال تعليق